انتهيت من قراءة الترجمة العربية لكتاب التنوير الآتي من الشرق المنشور ضمن سلسلة عالم المعرفة الكويتية عدد 346 المؤرخ بشهر ديسمبر 2007،وعلى الفور شرعت في قراءة كتاب التنوير قادم من الغرب في نسخته الأصلية الفرنسية.
مؤلف الكتاب الأول هو جي.جي.كلارك رئيس قسم “تاريخ الأفكار” بجامعة كنغستون في لندن و الكتاب منشور سنة 1997. ومؤلف الكتاب الثاني هو الإيراني داريوش شايكان الذي يعيش متنقلا بين طهران وباريس والكتاب منشور سنة 2002.
أطروحة الكتاب الأول تكمن –اختزالا- في حضور الفكر الشرقي في صميم الفكر الغربي “ابتداء من عصر النهضة فصاعدا(…) مما ساعد على دمج أفكار فلسفية ودينية من الهند والصين واليابان في التيار الرئيسي للفكر الغربي (…)
كيف كان الشرق خلال حقبتي التوير والرومانسية موضوعا محوريا في الحوارات الفكرية، وكيف أنه، وعلى مدى القرنين التاسع عشر والعشرين، أدت أفكار وافدة من الشرق دورا متزايد الأهمية والفاعلية داخل سياقات واسعة ومتباينة. علاوة على هذا سأذهب إلى أن المعلومات المطردة الدفق من ثقافات الشرق في اتجاه الغرب لم تكن لمجرد التسرية والتسلية والمتعة وإزجاء الوقت كما يذهب ظن البعض في كثير من الأحيان، بل كان أيضا أداة مهمة لوضع التراث موضع استجواب و شك، ومن ثم أداة لتجديد الذات.وكانت هذه الثقافات، خيرا كانت أم شرا، مرجعا خارجيا أفاد في
توجيه مسار وأضواء البحث النقدي للتراث الغربي ومنظومات الاعتقاد، مما أفاد في استلهام إمكانات جديدة” (ص17).وعلى امتداد ما يفوق أربعمائة صفحة سيعمل الباحث على بسط وتدعيم هذه الأطروحة مقابل الأطروحة القائلة بأن “الشرق شرق والغرب غرب ولن يلتقيا أبدا” (كبلنغ) أو أطروحة الفكر الغربي المتمحور حول ذاته (هيدغر) أو أطروحة ” الشرق كاختراع غربي” (إدوارد سعيد).والباحث الإنكليزي لا يتردد في نعت هذه الأطروحات ب”الخلل”
مقررا “أن من بين أغراض هذه الدراسة السعي لتصحيح هذا الخلل والوضع غير المتوازن،وبيان أن للشرق دوره القيم في ما يتعلق بتشكيل وتحول الفكر الأوروبي والثقافة الأوروبية ابتداء من القرن الثامن عشر فصاعدا” (ص 37).إن كلارك يركز –مثلا- على الحضور البارز لـ”عقلانية” الكونفشيوسية الضمنية في عقلانية التنوير الصريحة من خلال نصوص للايبنز وفولف الألمانيين و بايل و فولتير الفرنسيين وشيربري وتندال الإنكليزيين.
وإذا جاء القرن 19 بسيادة تيار آخر في علاقة الغرب بالشرق مع انحسار الكونفشيوسية لصالح البوذية فهذا يؤكد حضور التأثير الشرقي في الفكر الغربي ولا ينفيه.إن آفاقا جديدة لـ”تنوير” الإنسانية ككل ترتسم على شكل “مشترك إنساني” يفعل فعله في الذاكرة وفي الوجدان. لكن “رياح التاريخ” ستأتي بما لا تشتهيه “سفن الفكر”. ولا ييأس من ينعتهم كلارك بأهل “الاستشراق المستنير” أو يستسلمون للراهن العالمي المتسم بجموح الإثنيات والطائفيات والأصوليات من كل حجم ونوع.إن كلارك مازال يراهن على “حوار الإنسانية الممتد”…وهي الجملة التي ينهي بها كتابه “التنوير الآتي من الشرق”…ومنها- وبمعنى من المعاني- ينطلق داريوش شايكان في كتابه” التنوير القادم من الغرب”.
عاش داريوش شايكان كمثقف إيراني “محنة” الثورة الإيرانية الخمينية وألف كتابا بعنوان ما هي الثورة الدينية؟ (منشورات Albin Michel ،1990 ).كما يعيش كمثقف مسلم “محنة” الانخراط والتفكير في الحداثة الكونية الكاسحة (كتابه المترجم إلى العربية بعنوان النفس المبتورة/هاجس الغرب في مجتمعاتنا؛ دار الساقي؛ 1991).وفي كتابه التنوير القادم من الغرب (العنوان الأصلي للكتاب بالفرنسية هو: La lumière vient de l’occident) يبدو داريوش شايغان كمن “حسم” أمر محنته من خلال الانخراط فيما دعاه كلارك ب”حوار الإنسانية الممتد”، أي المراهنة-من جهة- على المشترك الإنساني الممثل في تراث التنوير كما برز وتطور في الغرب بدون أن يعني ذلك -البتة- احتكار الغرب لهذا التراث الإنساني العظيم من حيث النشأة والمسار/المسارات ،و من جهة أخرى، تعميق البحث في “أزمة” هذا الغرب ذاته التي هي –في العمق والجوهر- أزمة فكر التنوير والحداثة وما بعد الحداثة أي أزمة الإنسان المعاصر ككل.ولكن شايغان لا يستسلم هنا لأية “أوهام شرقية” من قبيل مثلا أن “الغرب” –و هو مفهوم إيديولوجي بامتياز- يعيش نهاية “قيامية” وأن ثمة “بديلا” حضاريا ما سينهض من شرق ما مفترض باعتباره “المخلص”.نعم، إن العالم الراهن يشهد تغيرات جيو-استراتيجية حاسمة وعميقة، وبروز قوة الشرق الاقتصادية (الصين،اليابان،و “النمور الأسيوية”) تبدو كاسحة، بينما تتعمق الأزمة الروحية في العالم كله وليس في الغرب وحده.والمآل ليس تشاؤميا فظا على غرار “صراع الحضارات” المزعوم، أو تفاؤليا ساذجا على غرار “نهاية التاريخ” وانتصار نموذج “ليبرالي” مزعوم.إن العالم يتوحد(= العولمة أو الشوملة أو الكوكبة) من جراء ثورة الاتصال الخارقة التي تجعل الإنسان يعيش حالات وظواهر معرفية ومجتمعية وسيكولوجية ووجودية باهرة وبالتالي تتلاشى شيئا فشيئا “الرؤية” التي عملت منذ أكثر من أربعة قرون –باسم التحديث والحداثة- عل حشر عقل ونفس ووجود الإنسان في ثنائيات معرفية (ديكارت) صراعات مجتمعية (ماركس) وانفصامات سيكولوجية (فرويد) وغيابات أو نسيانات وجودية (هيدغر).والخلاص (إذا استعملنا هذا التعبير المسياني أو الثيو-صوفي) يكمن في إعادة إضفاء “السحر” على العالم (enchantement مقابل désenchantement) ليس بمعنى العودة إلى سطوة االميتافزيقا وعنف المقدس ولكن تحرير الأولى من أوهامها المفارقة والمؤسساتية (على غرار ما نتعلمه من النهيليزم النيتشوي ونهاية الميتافزيقا لدى هيدغر إلى أونطولوجيا الوهن لدى جياني فاتيمو) وتحرير المقدس من عنفه التقليدي (رونيه جيرار).وبالتالي، انخراط الفكر البشري في عصر تنويري جديد ينبني على قاعدة المشترك الإنساني العام (مكتسبات التنوير “الغربي”الراسخة والخالدة) ويجدد مصمونه (التنوير) بالمعطيات “الشرقية” القادمة…ويكتب شايغان داريوش مقتبسا ديدرو: بدون وحدة الفيزياء والأخلاق والشعرية (البويتيك) فإن البديل الوحيد المتبقي أمام الإنسانية هو البربرية (ص252).