أثارت نادية حجاب في دراسة أعدتها ( انظر الإسلام والجنوسة والتغيرالاجتماعي( بأنه مع حلول السبعينات بدا أن وضع المرأة قد أصبح المؤشر الرئيسي لحداثة بلد ما. وقد تبين من خلال دراسة أعدها ناصيف نصار بأن الدساتير الوطنية العربية تنم عن وجود اختلاف ملحوظ في التعريف السياسي للدولة ومصدر شرعيتها في الدول المتخلفة. وقد ميز بين أنواع ثلاثة من الدساتير:
—المجموعة الأولى التقليدية، مثل الكويت والسودان، وتعتبر المرأة فيها زوجة وأما تتحدد هويتها بعلاقتها في الأسرة.
— أما المجموعة الثانية وهي التي تحمل نظرة تقدمية للمرأة، فإلى جانب دورها كأم وزوجة، تعامل المرأة على أنها متعلمة ومثقفة، وامرأة عاملة، وفرد منخرط في العملية السياسية. وهو ما ينطبق على الجزائر. —في حين تشكل المجموعة الثالثة (مثل المغرب) المجموعة التوفيقية.
ويخلص نصار إلى أن التغيرات التي حدثت في العالم العربي فيما يخص النساء، لم تكن جذرية بل كانت في معظمها شكلية لأن الشريعة ظلت حاضرة، وهي التي أكدت سلطة الأب، والأخ، والزوج على النساء. وقد تمت المحافظة على قيم الشرف التقليدية من حيث هي المبدأ النافذ للعلاقات عوض أن تكون استنتاجا للضمير الإنساني. اشتدت النقاشات الفكرية ما بين التقليديين وأولئك الذين يدعون إلى الحداثة التي ابتدأت مع ظهور طروحات وتفسيرات جديدة، لكن الأوضاع ازدادت تعقيدا مع اكتساح الحركات الإسلامية للشارع العربي. إذ في الوقت الذي حاول المحدثون أن يصبوا جهودهم على تفسير النصوص الإسلامية بغية تحديث تعاليم الدين وتقاليده، سارت الحركة الإسلامية نحو »أسلمة الحداثة « وكلاهما استخدم التراث الديني الإسلامي لتدعيم منطلقاته، مركزين على المرأة باعتبارها أحد العناصر الجوهرية في قضايا التنمية. ولكنهما ظلا مرتبطين بالمرجعية الدينية الإسلامية. إذا كان التيار التقليدي يعود إلى التراث الإسلامي، فذلك لأن الفلك الذي يدور فيه هو تراثي إسلامي سلفي لاتاريخاني. في حين أن الاتجاه الحداثي، يرمي وراء العودة إلى الماضي، إلى تأصيل فعل التحديث، ومراجعة المفاهيم التي ارتبطت بحمولات دلالية جعلتها تزيغ عن الدلالات الحقيقية، ومن ثم فإن طبيعة العودة تختلف لدى كل منهما. فالأول يعود باحثا عن الحقيقة، في حين يعود الثاني باحثا عن المعاني التي يمكنها أن تطعم مفاهيمه وتغنيها في محاولة نحو إنتاج حقيقة راهنة، تتواصل أكثر من الواقع الراهن. إن هذا الاختلاف في طبيعة العودة، جعل كلا منهما يبتعد عن الآخر، ولذلك ينعدم التواصل فيما بين الاتجاهين، رغم أن الموضوع واحد، وأن المرجعية واحدة. وهذا يكشف عن حمولة كل منهما وخلفيته المعرفية؛ كما يكشف بجلاء عن التعدد والاختلاف الذي يُميز الخطاب التراثي بمجمله.
فالحركة الإسلامية تجد مرجعيتها في نمط من الخطاب، تميز بهيمنة العقل الفقهي المتعالي عن الواقع، و ظل يحتكم إلى قواعد كرست مفاهيم "الحقيقة المطلقة" التي لا تجادل، وفيه توجد المرأة باعتبارها كائنا من الدرجة الدنيا، وهي وجدت " للاستمتاع بها"، و"التلذذ بها"، وليس لها إلا أن تقبل بالوضع الذي وجدت عليه، مادامت هناك أحاديث واضحة واردة في الصحاح تأمرها بأن تطيع زوجها وأن تخلص له وأن تظل خدومة له في البيت وفي الفراش مثلما جاء في الحديث »إذا دعا الرجل امرأته إلى فراشه فأبت، فبات غضبانَ عليها لعنتْهَا الملائكة حتى تصبح« مما يستوجب على المرأة أن تكون طيعة، وأن تكون على استعداد دائم لتلبية حاجيات الرجل الغريزية. كما أن المرأة، في هذا المنظور، تظل كائنا ناقص العقل، مما يجعل قضية القوامة تميل إلى جهة الرجل، الولي الذي يتمتع بكمال العقل، حيث نجد في حديث صحيح: »عن النبي أنه قال: "أليس شهادة المرأة مثلَ نصف شهادة الرجل؟" قلنا: بلى قال: "فذلك من نقصان عقلها"« ، وقال أيضا »المرأة كالضلع، إن أقمتها كسرتها، وإن استمتعت بها استمتعت بها وفيها عِوَجٌ« إذ حتى في حال استعمالها لغرض الاستمتاع فهي تظل ناقصة، وتحتاج إلى الاستقامة. أي إن اعوجاجها يشكل مكونا بنيويا في تكوينها. كما نص الحديث النبوي على "خطورة" المرأة باعتبارها مصدر الفتنة والشقاق، ومصدرا للعديد من الأضرار التي قد تلحق بالمجتمع، ولهذا وجب الحذر منها حتى لا يقع المجتمع في مكروه قد يهدد كيانه.
يقول الحديث " ما تركت بعدي فتنة أضر على الرجال من النساء ". هذه الخلفية النصية الإسلامية، هي التي ظلت مهيمنة على الوعي الفقهي، وهي التي كانت من وراء قوانين الأحوال الشخصية في العالم العربي(الإسلامي( وهذا ما يفسر اهتمام الخطاب الفقهي بالمرأة، والذي لم يترك كبيرة ولا صغيرة لها صلة بها إلا وأفاض فيها الفقهاء بالتفسير والشرح والاجتهاد والتأويل. حتى أنه ذهب بهم الأمر إلى القول »واختلف الفقهاء بالنسبة لنفقة تجهيز الزوجة، فذهب ابن القاسم من المالكية إلى أنه لاشيء على الزوج، سواء كانت الزوجة غنية أم فقيرة، دخل أو لم يدخل.«(بداية المجتهد( 1/196)، و إنه يجب على الرجل "الماء اللازم للشرب والنظافة والاغتسال منه. أما الاغتسال بسبب غيره كالحيض والاحتلام فلا يجب عليه" بل إن المالكية ترى أنه ليس على الزوج إشباع زوجته إن كانت أكولا، وليس عليه تكفينها بعد وفاتها. قد يبدو هذا بعيدا عن الواقع، والحال أن هذا التصور هو الذي نجد له امتدادا في أحدث قوانين الأحوال الشخصية التي تؤكد على حضور هذا الخطاب. إذ مازال قانون الأسرة المغربي يعتبر أن أدنى مدة الحمل ستة أشهر وأقصاها اثنا عشر شهرا، في إنكار واضح لكل المقاييس العلمية التي تؤكد أن الحمل لا يتجاوز التسعة أشهر، وأنه يمكن أن تكشف التحاليل عن حمل المرأة أم لا في حدود أربع وعشرين ساعة بعد أن يقع الاتصال.
كما أن كل محاولات حل مشكل الطلاق، وتعدد الزوجات، ظلت رهينة مراوغات سرعان ما انفضح أمرها وأبان الواقع هشاشتها مادام الزواج يظل فيه الرجل هو السلطة المتحكمة فيه، وأن المرأة تظل رهينة نزواته وسلطته المادية. كما أن واقع الحال، يكشف أن مقدار النفقة في الأحكام الصادرة عن المحاكم، والتي تتميز بهزالتها وضعفها، يجعل منطق »عدم إشباع المرأة إن كانت أكولا« يظل ساري المفعول. أما إذا وقفنا على علم الفرائض، فإن عقلية الذكورة تجد فضاء أرحب فيه بسبب ما للذكر من سلطة وقيمة في عملية الإرث، واقتسام الموروث، كما يتجلى دوره في »التعصيب« وسد الباب على العديد من الذين يتدخلون في الإرث، في حال غياب الذكر. ونسوق مثال الإرث، لنقف عند الخلفية التي تجعل المرأة العربية/الإسلامية، دائمة البحث عن الذكر. فنصيب المرأة يظل، دائما، هزيلا على الرغم من قرابتها من الزوج الذي يؤسس بفضلها أسرة، كما أن دور المرأة يبقى واضحا في تنمية الثروة لدى الرجل، إن بشكل مباشر أو غير مباشر. لذلك فالرغبة في مولود ذكر، تفرضها العلاقات الاجتماعية التي كرسها الإسلام بفعل التقسيم الذي فرضه، والذي جعل المرأة دائما نصف الرجل، وإذا غاب الذكر، فإنها تترك عرضة لتدخل عدة أطراف "بقوة الشرع والقانون". أما الحركة الحداثية فإنها سعت إلى تناول العديد من القضايا التي تعتبر مركزية في الحياة الاجتماعية، انطلاقا من النصوص الدينية، لكنها عملت على تأويلها وإعادة النظر فيها عن طريق البحث في قيمتها، وإعادة مراجعتها و"غربلتها" وعزل المعقول منها عن الزوائد التي لحقت بها. إذ لم تتعامل مع التراث بروح التقديس، بقدر ما أسقطت القداسة وجعلت من التراث خطابا قابلا للنقد والمراجعة، وفقا لمتطلبات الراهن؛ وحاولت أن تجعل من الخطاب الفقهي، في مجموعه، مجرد اجتهاد يمكن أن يصيب وقد يخطئ، واعتبرت "القرآن"هو المصدر الوحيد الذي ترد إليه الأمور، وإن الحديث، وما عرف "بالصحاح" تحتاج إلى إعادة النظر، لأنه يستحيل قبول نصوص مروية عن الرسول دون النظر في محتواها ومقاصدها وظروفها أو بالأحرى سياقها الثقافي، لما تحمله من ضعف دلالي، أو تناقض يستحيل أن يصدر عن الرسول. يدرك هذا الاتجاه أن "القرآن" ليس كتاب علم أو قانون، وإنما يقدم توجيهات ومبادئ عامة، على الإنسان أن يتأولها ويرى السبل الصالحة والملائمة لتطبيقها في الواقع؛ لأن الواقع يختلف بحسب المكان والظرف التاريخي. ولعل "المنشور" الذي أصدرته "حركة الإخوان الجمهوريين" في السودان تحت إشراف مفكر الحركة ومؤسسها محمود محمد طه خير من يمثل هذا الاتجاه. وقد اعتبرت هذه الحركة في ديباجتها أن حرية المرأة لا يمكن أن تتم إلا بـ"المساواة التامة بينها وبين الرجل" وذلك لن يتأتى إلا بتطوير قانون الأحوال الشخصية. وهو ما يستوجب دراسة عميقة للقوانين التي تحكم علاقة المرأة بالرجل، ثم دراسة وضع المرأة في الخطاب الشرعي الإسلامي والفقهي الذي انزاح عن سماحة الدين وبساطته، منادين بالعودة إلى أصول القرآن. فهؤلاء يؤكدون أن الشريعة لم تساوِ بين الجنسين مستندة في ذلك على آية تقرر أن أي رجل، وكيفما كان مستواه العقلي والخلقي والثقافي يكون قيِّما على أي امرأة كيف ما كان مستواها. وهذا راجع إلى ظروف تاريخية عاشها مجتمع القرن السابع، حيث كان الرجل هو الذي يخرج ليكسب، في حين تبقى المرأة حبيسة في البيت، وكانت القوة البدنية هي مدار الفضيلة. ولهذا اعتمدت التشريعات على آية القوامة، فكان وضع النساء دون الرجل في الميراث، وفي الشهادة، وفي الطلاق. فالشريعة تعطي الرجل الحق في الطلاق متى شاء دون شرط أو قيد، بل للرجل الحق في أن يؤدب المرأة، وهو ما يعني أن للرجل الحق في ضرب زوجته الناشز. وقد رأى هؤلاء أن هذا الوضع كان حكيما، عندما جاء في وقته، في القرن السابع، نظرا لما قدمه للمرأة من حلول لمشاكلها داخل المجتمع آنذاك، إذ شرع لها حسب حاجتها وطاقتها وطاقة مجتمعها. لكن هل قال الدين كلمته الأخيرة في أمر المرأة أم ثمة وضع آخر يمكن أن يقوم عليه تشريع جديد؟ لقد اخطأ الفقهاء المسلمون حين اعتقدوا أن الشريعة الإسلامية هي كلمة الإسلام الأخيرة فيما يخص قضية المرأة، مما دفعهم إلى السقوط في تناقض خطير حينما لم يستطيعوا التوفيق بين الشريعة وتطور الحياة العامة وتطور المرأة. لذا نراهم يتحدثون عن الشريعة، و يعيشون خارجها، وكلما تطورت المرأة وتقدمت، يذكرونها بأن نصيبها، في الشريعة، وافٍ لحاجات حياتها، وأن الله أعطاها فيها كل الحقوق ا..وحين شرعوا في الاجتهاد في استنباط الإحكام لمواكبة تطور الحياة العامة، واشتطوا في استعمال الرأي، رجعوا بحقوق المرأة، حتى عما أعطتها إياه الشريعة، على الرغم من أن الشريعة لم تعطها كل ما أراده لها الدين، الأمر الذي انعكس على الأحكام الفقهية التي تميزت بالجفاف وإهانة المرأة، حتى في ذلك العصر، فأحرى في الوقت الحاضر. لم يعد من خيار سوى تطوير التشريع، أي الانتقال من نص إلى نص داخل الخطاب القرآني، والمقصود بذلك أن النص القرآني الذي كان يتناسب وحالة المجتمع الذي نزل فيه منظما إياه في حدود طاقة وإمكانات المجتمع آنذاك، إلى نص في القرآن نفسه، والذي لم يقم عليه التشريع، لأنه كان أكبر من حاجة المجتمع، وأكبر من طاقته أيضا..ولكنه قدر على حاجة، وطاقة، مجتمع الوقت الحاضر. فالمجتمع المعاصر عرف تغيرا وتطورا هائلا وجذريا، خصوصا في وضع المرأة التي خرجت إلى الحياة العامة، وصارت عنصرا فعالا؛ فهي اليوم قاضية ومهندسة ومسيرة مؤسسة، أي إنها تقوم بنفس أعمال الرجل. لهذا وجبت العودة إلى أصول القرآن، من الآيات المكية، المنسوخة بمثيلتها المدنية لكونها تجسد تكريم الله للإنسان وتحريره. والغرض من نسخها في أيام نزول الوحي، هو تأجيل العمل بها إلى حين ظهور مجتمع يحتاج إليها ويطبقها. فالمرأة لم تعد قاصرا، وإنما تتمتع بالرشد والأهلية والمسؤولية. وهو ما دفع بأنصار هذا الاتجاه إلى المطالبة بأن تكون المرأة مكافئة لزوجها، وأن يتم العدول عن "المهر" باعتباره يجسد ثمن شراء المرأة، ولعله يمثل رمزا من رموز التصور الجاهلي للمرأة التي كانت تزوج عن طريق السبي أو تعويضا لأهلها عن التحاقها بزوجها. الواضح، أن كل النداءات التي تسعى إلى تطوير الشريعة، وقراءتها وفق آليات جديدة تستوعب المتغيرات الراهنة، تجد مقاومة شديدة من قبل المؤسسات الدينية والحركات الإسلامية، من جهة، وكذلك من قبل المرأة التي هي المعنية بهذه القضية.
وهو ما يعود بنا إلى طرح السؤال: لماذا ترضى المرأة بلعب هذا الدور؟
المراجع
موسوعة الاوان
التصانيف
سياسة