والمقصود بمرجئة الفقهاء: من نسب إليه الإرجاء من الفقهاء، كحماد بن أبي سليمان، وأبي حنيفة رحمهما الله ومن تبعهما. وقد ذهبوا إلى أن الإيمان تصديق بالقلب، وقول باللسان، وأخرجوا العمل من مسماه، وزعموا أنه لا يزيد ولا ينقص، ولا يستثنى منه، مع قولهم إن مرتكب الكبيرة معرض للوعيد، وهو تحت المشيئة، كما هو القول عند أهل السنة والجماعة.
قال أبو حنيفة في كتاب الوصية المنسوب إليه: (الإيمان إقرار باللسان وتصديق بالجنان، والإقرار وحده لا يكون إيمانا؛ لأنه لو كان إيمانا لكان المنافقون كلهم مؤمنين، وكذلك المعرفة وحدها أي مجرد التصديق لا يكون إيمانا؛ لأنها لو كانت إيمانا لكان أهل الكتاب كلهم مؤمنين. قال الله تعالى في حق المنافقين: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ (المنافقون:1)، أي في دعواهم الإيمان حيث لا تصديق لهم. وقال الله تعالى في حق أهل الكتاب: الَّذِينَ آتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءهُمْ (البقرة:146). وقال في الفقه الأكبر المنسوب إليه أيضا: (ولا نكفر مسلما بذنب من الذنوب وإن كانت كبيرة، إذا لم يستحلها، ولا نزيل عنه اسم الإيمان.
ونسميه مؤمنا حقيقة، ويجوز أن يكون مؤمنا فاسقا غير كافر). ثم قال: (ولا نقول: إن المؤمن لا تضره الذنوب، ولا نقول: إنه لا يدخل النار، ولا نقول: إنه يخلد فيها وإن كان فاسقا بعد أن يخرج من الدنيا مؤمنا، ولا نقول: إن حسناتنا مقبولة وسيئاتنا مغفورة كقول المرجئة، ولكن نقول: من عمل حسنة بجميع شرائطها خالية عن العيوب المفسدة والمعاني المبطلة، ولم يبطلها بالكفر والردة حتى خرج من الدنيا مؤمنا، فإن الله تعالى لا يضيعها بل يقبلها منه ويثيبه عليها.
وما كان من السيئات دون الشرك والكفر ولم يتب عنها صاحبها حتى مات مؤمنا، فإنه في مشيئة الله تعالى إن شاء عذبه بالنار، وإن شاء عفا عنه ولم يعذبه بالنار أصلا). إلى أن قال: (وإيمان أهل السماء والأرض لا يزيد ولا ينقص من جهة المؤمن به، ويزيد وينقص من جهة اليقين والتصديق. والمؤمنون مستوون في الإيمان والتوحيد، متفاضلون في الأعمال) . وقال في الوصية: (ثم الإيمان لا يزيد ولا ينقص؛ لأنه لا يتصور زيادة الإيمان إلا بنقصان الكفر، ولا يتصور نقصان الإيمان إلا بزيادة الكفر، فكيف يجوز أن يكون الشخص الواحد في حالة واحدة مؤمنا وكافرا، والمؤمن لا مؤمن حقا. وليس في إيمان المؤمن شك، كما أنه ليس في كفر الكافر شك...) .
وقال أيضا: (ثم العمل غير الإيمان، والإيمان غير العمل، بدليل أن كثيرا من الأوقات يرتفع العمل من المؤمن، ولا يجوز أن يقال: يرتفع عنه الإيمان، فإن الحائض ترتفع عنها الصلاة ولا يجوز أن يقال: يرتفع عنها الإيمان، أو أمر لها بترك الإيمان...) . وقال الطحاوي في عقيدته المشهورة التي ذكر أنها عقيدة أبي حنيفة وصاحبيه رحمهم الله: (والإيمان هو الإقرار باللسان والتصديق بالجنان، وجميع ما صح عن رسول الله من الشرع والبيان كله حق. والإيمان واحد وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى ومخالفة الهوى وملازمة الأولى) .
وقد عد أصحاب المقالات أبا حنيفة وأصحابه من المرجئة لإخراجهم العمل من مسمى الإيمان ونفيهم الزيادة والنقصان، واشتد إنكار السلف عليهم لذلك. قال الأشعري في المقالات في عد فرق المرجئة: (والفرقة التاسعة من المرجئة: أبو حنيفة وأصحابه، يزعمون أن الإيمان المعرفة بالله، والإقرار بالله، والمعرفة بالرسول، والإقرار بما جاء من عند الله في الجملة دون التفسير) .
وقال شيخ الإسلام: (والمرجئة الذين قالوا: الإيمان تصديق القلب وقول اللسان، والأعمال ليست منه، كان منهم طائفة من فقهاء الكوفة وعبادها، ولم يكن قولهم مثل قول جهم. فعرفوا أن الإنسان لا يكون مؤمنا إن لم يتكلم بالإيمان مع قدرته عليه، وعرفوا أن إبليس وفرعون وغيرهما كفار مع تصديق قلوبهم. لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا؛ فإنها لازمة لها. ولكن هؤلاء لهم حجج شرعية بسببها اشتبه الأمر عليهم) . وقال: (وأنكر حماد بن أبى سليمان ومن اتبعه تفاضل الإيمان ودخول الأعمال فيه والاستثناء فيه، وهؤلاء من مرجئة الفقهاء.
وأما إبراهيم النخعي إمام أهل الكوفة شيخ حماد بن أبى سليمان وأمثاله، ومن قَبله من أصحاب ابن مسعود، كعلقمة والأسود، فكانوا من أشد الناس مخالفة للمرجئة، وكانوا يستثنون في الإيمان، لكن حماد بن أبى سليمان خالف سلفه، واتبعه من اتبعه، ودخل في هذا طوائف من أهل الكوفة ومن بعدهم. ثم إن السلف والأئمة اشتد إنكارهم على هؤلاء، وتبديعهم وتغليظ القول فيهم، ولم أعلم أحدا منهم نطق بتكفيرهم، بل هم متفقون على أنهم لا يكفرون في ذلك. وقد نص أحمد وغيره من الأئمة على عدم تكفير هؤلاء المرجئة. ومن نقل عن أحمد أو غيره من الأئمة تكفيرا لهؤلاء، أو جعل هؤلاء من أهل البدع المتنازع في تكفيرهم فقد غلط غلطا عظيما).
إلى أن قال: (وهؤلاء المعروفون مثل حماد بن أبى سليمان وأبي حنيفة وغيرهما من فقهاء الكوفة، كانوا يجعلون قول اللسان واعتقاد القلب من الإيمان، وهو قول أبى محمد بن كلاب وأمثاله، لم يختلف قولهم في ذلك، ولا نقل عنهم أنهم قالوا: الإيمان مجرد تصديق القلب) .
وقال: (والحزب الثاني وافقوا أهل السنة على أنه لا يخلد في النار من أهل التوحيد أحد، ثم ظنوا أن هذا لا يكون إلا مع وجود كمال الإيمان؛ لاعتقادهم أن الإيمان لا يتبعض، فقالوا: كل فاسق فهو كامل الإيمان، وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل، وإنما التفاضل في غير الإيمان من الأعمال. وقالوا: الأعمال ليست من الإيمان؛ لأن الله فرق بين الإيمان والأعمال في كتابه. ثم قال الفقهاء المعتبرون من أهل هذا القول: إن الإيمان هو تصديق القلب وقول اللسان، وهذا المنقول عن حماد بن أبى سليمان ومن وافقه كأبي حنيفة وغيره) . وحاصل ما عليه مرجئة الفقهاء هو ما يلي:
- أن الإيمان تصديق بالقلب وقول باللسان.
- إخراج العمل الظاهر من مسمى الإيمان.
- أن الإيمان لا يتبعض ولا يزيد ولا ينقص.
- أن أهله متساوون في أصله، وأن التفاضل إنما يقع في غير الإيمان.
- أنه لا يستثنى فيه.
- أما أعمال القلوب، فظاهر كلامهم أنها ليست من الإيمان. وهو ظاهر ما نقله أصحاب المقالات عنهم أيضا. وقد سبق قول شيخ الإسلام عنهم: (لكنهم إذا لم يدخلوا أعمال القلوب في الإيمان لزمهم قول جهم، وإن أدخلوها في الإيمان لزمهم دخول أعمال الجوارح أيضا؛ فإنها لازمة لها). وقال: (والمرجئة ثلاثة أصناف: الذين يقولون: الإيمان مجرد ما في القلب، ثم من هؤلاء من يدخل فيه أعمال القلوب، وهم أكثر فرق المرجئة، كما قد ذكر أبو الحسن الأشعري أقوالهم في كتابه، وذكر فرقا كثيرة يطول ذكرهم، لكن ذكرنا جمل أقوالهم. ومنهم من لا يدخلها في الإيمان كجهم ومن اتبعه كالصالحي، وهذا الذي نصره هو وأكثر أصحابه. والقول الثاني: من يقول: هو مجرد قول اللسان، وهذا لا يعرف لأحد قبل الكرامية. والثالث: تصديق القلب وقول اللسان، وهذا هو المشهور عن أهل الفقه والعبادة منهم. وهؤلاء غلطوا من وجوه: أحدها: ظنهم أن الإيمان الذي فرضه الله على العباد متماثل في حق العباد، وأن الإيمان الذي يجب على شخص يجب مثله على كل شخص) . إلى أن قال -بعد استطراد-:
(الوجه الثاني من غلط المرجئة: ظنهم أن ما في القلب من الإيمان ليس إلا التصديق فقط دون أعمال القلوب كما تقدم عن جهمية المرجئة. الثالث: ظنهم أن الإيمان الذي في القلب يكون تاما بدون شيء من الأعمال، ولهذا يجعلون الأعمال ثمرة الإيمان ومقتضاه بمنزلة السبب مع المسبب، ولا يجعلونها لازمة له، والتحقيق أن إيمان القلب التام يستلزم العمل الظاهر بحسبه لا محالة، ويمتنع أن يقوم بالقلب إيمان تام بدون عمل ظاهر) .
فصرح بأن الجهمية يخرجون أعمال القلوب من الإيمان، وهذا يذكره في مواضع، أما مرجئة الفقهاء فتراه لا يجزم هنا بقولهم في هذه المسألة، لكنه قال في موضع آخر: (وعند الجهمية الإيمان مجرد تصديق القلب وعلمه، هذا قول جهم والصالحي والأشعري في المشهور عنه وأكثر أصحابه. وعند فقهاء المرجئة: هو قول اللسان مع تصديق القلب، وعلى القولين أعمال القلوب ليست من الإيمان عندهم كأعمال الجوارح، فيمكن أن يكون الرجل مصدقا بلسانه وقلبه مع كراهة ما نَّزل الله) .
وقال أيضا: (ومن هنا غلطت الجهمية والمرجئة، فإنهم جعلوا الإيمان من باب القول: إما قول القلب الذي هو علمه، أو معنى غير العلم عند من يقول ذلك، وهذا قول الجهمية ومن تبعهم كأكثر الأشعرية، وبعض متأخري الحنفية. وإما قول القلب واللسان، كالقول المشهور عن المرجئة، ولم يجعلوا عمل القلب مثل حب الله ورسوله ومثل خوف الله من الإيمان، فغلطوا في هذا الأصل) .
ومما يرجح أنهم لا يدخلون أعمال القلوب في الإيمان، ما قاله الطحاوي– وسبق نقله- أن الإيمان واحد وأهله في أصله سواء، والتفاضل بينهم بالخشية والتقى. ولا شك أن الخشية والتقى من أعمال القلوب، وقد دخلها التفاضل لأنها ليست من الإيمان. وسبق أيضا قول شيخ الإسلام عنهم: (وإيمان الخلق متماثل لا متفاضل، وإنما التفاضل في غير الإيمان من الأعمال. وقالوا: الأعمال ليست من الإيمان). فحيث أثبتوا التفاضل في أعمال القلوب، دل ذلك على أنها خارجة عن مسمى الإيمان عندهم.
المراجع
موسوعة الدرر السنية
التصانيف
عقيدة إسلامية عقيدة معاملات إسلامية