قوسيا 19/4/1997


كنت مازلت ألجلج في كلماتي عندما كانت تصحبني أمي إلى الحقول فنتنقل في ضواحي قريتي بين الأشجار العالية وعلى ضفاف النهر ترافقنا نعجة ذات شعر طويل متدلٍ تثغو -ماء ماء- ترعى عشباً طرياً وأمي تربت عليها، ثم تشدها عن طريق حبلةٍ في عنقها تركت أثراً عليه، فتأتي بها إلى عشب أخضر أتحسسه من خلال حذائي الصغير مهترئ النعل.. وأحس بفك النعجة السفلي يشد العشب فيقطعه ثم يلوكه على جنب ثم تبتلعه الشاة سريعاً وتعود لتشد غيره وتنتقل في مواضع صغيرة تشمشم وتقتلع وتلوك وتبتلع بنهم.. ونحن كلانا أنا وأمي نتبعها حيناً.. وتشدها أمي حيناً آخر حيث تحثها بأصوات لا أدري كيف اخترعتها..


كنت دوماً قريباً من الشاة التي كانت تناديها أمي أحياناً: يا الله يا صبره.. كلي يا صبره.. ثم تتحسس بطنها كما لو أن في داخله شيئاً ترقبه..


كنتُ سعيداً حزيناً.. فلا بد أنني كنت أشعر بنشوة بسبب الطبيعة الجميلة، بسبب النسمة، بسبب حفيف الشجر وقرقرة النهر وزقزقة العصفور، وكنت حزيناً لأنه لم يكن لدي من ألعب معه سوى بقذف الحصى أداعب به (صبره) أحياناً فتوبخني أمي فألجأ لإلقائها في النهر وسماع (الخبخبة) الناتجة عن ذلك.. كنت حزيناً لأن أمي كانت تهتم بالنعجة كثيراً، تنظر تارة إلى العنق ثم إلى الجسم ثم إلى الضرع..


ومع ذلك فقد نشأت بيني وبين النعجة رفقة، فقد كان يمتعني النظر إليها وهي تبتلع العشب.. ثم لا تلبث بعد فترة أن تجثو وترتخي تحت شجرة، وتبدأ تلوك مجترة طعامها من جديد، لم أكن أعرف كيف يأتي إلى داخل فمها، ثم تبتلع.. هادئة راضيةْ.. طيلة ذلك الوقت تجلس أمي قريباً منها وتجلسني متوسداً ساقها وتطعمني بعضاً من المشمش الحامض.

_____________________________


ذات مرة في صحن الدار جاء رجل بآلةٍ وأخذ يقص الصوف الطويل مسيطراً على الشاة.. حتى هُيئ لي أنها خرجت من جلدها.. وعندما انتصبت شاهدت بطنها كبيراً، حيث تم إطلاقها في أشعة الشمس، وأخذت تبحث عن شيء تبتلعه بشراهة.. ولما لم تجد ما يكفيها اقتربت مني تتمسح بي فأحسست وكأن جلدها خشن يقرص جلدة ساقي الناعمة.. كما أحسست بأنها تشكو لي أمراً..


وسألت أمي فيما إذا كان باستطاعة النعجة أن تتحدث يوماً.. ضحكت أمي وضمتني.. وقالت إن النعجة بإمكانها أن تتحدث مع نعجة مثلها وليس معنا.. ومع ذلك فقد كنت أحس بأنها تتحدث معي قائلة:
- لقد أخذوا صوفي مني.


  • * *
بعد وقت ما لم أعرفه خرجت أمي بشاتها وبحَمَلٍ صغير يشبهها ويلحق بها يتنقل قفزاً نحو الحقول.. أخذتني معها، وكنت فرحاً هذه المرة، فرحاً لدرجة القفز مثل الحمل الصغير. فقد أصحبنا أربعة، أمي تعتني بالنعجة وأنا ألعب مع الحمل.. لقد أصبح لي صديق..
وشرحت لي أمي كيف كان الحمل في بطن الشاة، وكيف خرج من بطنها ليرتع مرحاً يثغو، وسألتُ أمي عن كيفية خروجه ومن أين خرج، فضحكت أمي ولم تجب، فأخذت أبحث عن ذلك المخرج وظننت أن الحمل قد خرج من فمها..


وأكثر ما كان يلح علي هو التساؤل فيما إذا كنت أنا قد خرجت بنفس الطريق وأخذت أنظر إلى فم أمي..


نسيت الأمر، وتابعت السباق مع الحمل وتقليده إلى أن قررت ذات مرة أن أجرب الطريقة التي يأكل بها غير أن أمي نهتني عن ذلك..
_____________________________


قالوا إنه العيد.
رأيت أمي تشتري لي ثوباً جديداً ذا ألوان بدت لي بلون الأرض التي رتعنا فيها مع النعجة وابنها..
ابنها كبر فهدأت حركاته أكثر، ومع هدوء حركاته أضحى أكثر تمسحاً بي وأكثر مرافقةً فأحببته صديقاً.
قالوا إنه العيد.. غداً هو العيد.. قالوا إننا نفرح في العيد، وفي العيد ثوب جديد.. فيه رائحة النظافة، وفيه الحلوى والأرجوحة.. نصبوا لي في أرض الدار أرجوحة.. فحاولت أن أضم الخروف إلى صدري، فأنوس وإياه.. لكنه رفض وبقي إلى الجانب يرقبني ويثغو..
وأنا فرح بثغائه حتى الضحك..


جاء العيد،
وجاء رجلٌ معقوف الشاربين قصير الشعر، لا يبتسم، وعلى سرواله دمٌ قاتم…
دخل ساحة الدار، اختار زاويةً نصب فيها خشبته، وأمي وجارتها وزوجها وأولادهما وأنا نرقب ما يفعل.. لحظات أخرى وأخرج من جراب كان يحمله سكيناً بيد خشبية ونصل أسود وحد أبيض وضعها معترضة بين أسنانه وأمسك بصبره مجّمعاً كل ساقين بيد، وألقاها على جانبها، ربط القوائم الأربعة بحبل داس عليه بقدمه اليمنى. أمسك السكين بيده اليمنى، وأمسك حنك صبره من أسفله بيده اليسرى وضغط حتى تطاولت الرقبة، ووضع النصل الأبيض على العنق، وسحب السكين بثبات وإصرار وهدوء، فشخرت الشاة وانبثق عالم من الدماء نافورة تبعثرت نقاطها على وجوه الحاضرين وثيابهم..


وصرخت أنا وسقطت على الأرض..

_____________________________


وجدت نفسي على سرير صغير خلف النافذة أتجاوز عالماً من غير معنى وأمي بجانبي تضع يدها على جبيني، وتقول مبتسمة: لا بأس عليك؛ ثم تسقيني ماء من طاسة نحاسية ذات شناشيل وفي وسطها مرتفع وكأنها طاسة وابنها في داخلها…
- ستكون بخير..
لم أقل كلمة، ورغم أن حنان أمي جعلني أهدأ إلا أن ماصعقني بقي ماثلاً أمام عيني..
عندما اطمأنت أمي، تركتني على السرير وخرجت.. وسمعتهم يقولون إن كل شيء على ما يرام..
وقت قصير مضى قبل أن أتحرك، وأنظر من شقوق النافذة على ساحة الدار فأرى الرجل القذر بشاربيه يمسك بقوائم الحمل ويفعل فيه مثلما فعل في أمه ويقطع عروق رقبته بسكينة اللعينة، فأجد نفسي أقفز من سريري وأخرج إلى ساحة الدار فلا أجد أمامي إلا وعاء وضعوا فيه الدم فأحمله وأدلقه على الرجل وأنا أصرخ..


وتمتلئ الأرض صبغاً أحمر، بينما يحاول الرجل الإمساك بي وأنا أعدو في ساحة الدار..
_____________________________


رأس الشاة صبره كان بجانب رأس ابنها، 
قوائمه بجانب قوائمها، كرشته بجانب كرشتها، معلاقه بجانب معلاقها، جلده بجانب جلدها، وشقاها بجانب شقيه.. وكان الحاضرون بين ضاحك ومستغرب، ولم يكن هناك أحد يبكي.. حتى أمي.

حتى أنا، فقد كنت مشدوهاً إلى حد السبات، وسؤال واحد كان يتردد في أعماقي: هل يمكن أن يصبح اسم أمي (صبره) في يوم من الأيام؟..
_____________________________


في وليمة فاخرة، دخلتُ وزوجتي وأولادي فصافحت مئات الناس.. انتهوا من ابتلاع مافي كؤوسهم.. ومن خلال مذياع صغير دعتهم سيدة أنيقة بثياب فاخرة، وبصوت أنثوي ناعم، دعتهم إلى قاعة الوليمة..


دخلنا، وكانت هناك أفضل المأكولات المصنوعة من اللحم الأحمر والأبيض والكلى والأكباد والرؤوس والكروش والنخاعات مرصوفة على حجم الطاولة مزينة بالخس والمقدونس والطماطم والبصل تخترقها كتل من الأرز والفاصولياء والبازلاء..


جلست دقيقة.. رأيت أمامي صبره وحَمَلَهَا ينتثران قطعاً على الطاولة ومجموعة من الذئاب تشمشم وتعض وتلوك وتبتلع ودمها بارد حتى التجمد..
تحركت بهدوء لأتقيأ أحشائي، وفي داخلي رغبة هائجة في طاسٍ هائل من الدم أدلقه على رؤوس الناس.


المراجع

syrianstory.com

التصانيف

الادب    قصة