قد كشفت أزمة الانتخابات الرئاسية في تركيا، هذه الأيام، عما يعتمل داخل المجتمع التركي من تناقضات، أهمها التناقض بين التوق إلى تغيير نظام بلغ به الجمود، عقيدةً ومؤسسات وسياسات، حداً يهدد بالفوضى، وبين نزعة محافظة لن تستسلم أمام متطلبات التغيير مهما كانت كلفة موقفها. ويعبر كل من التوق إلى التغيير والنزعة المحافظة، في نهاية المطاف، عن مصالح اجتماعية متعارضة، بين قوى صاعدة في العقدين الأخيرين، تبحث عن حصتها في السلطة والثروة، وبين قوى الستاتيكو القائم. بعبارة أخرى، إن الصراع الذي يعبر عن نفسه بوساطة رموز (الحجاب أو انتخاب رئيس للبلاد أو اغتيال الصحفي الأرمني هرانت دينك وما أحاط به من ردود فعل…. الخ) هو، في حقيقته، وكما هي الحال في كل زمان ومكان، صراع على السلطة والثروة، على الرغم من الأشكال الملتوية التي يتجسد بها.

حين تم اللجوء إلى المحكمة الدستورية للفصل في دستورية المرحلة الأولى من عملية الانتخاب في البرلمان، والتي فاز فيها عبد الله غول، أطلق زعيم حزب الشعب الجمهوري دينيز بايكال تصريحاً لو تفوه بمثله وليد المعلم، لقال قادة الأكثرية النيابية في لبنان إن النظام السوري يحضر لحرب أهلية في لبنان. قال بايكال: "إذا لم تبطل المحكمة الدستورية انتخاب غول، سوف تنساق البلاد إلى العنف والاضطرابات"… وللتذكير، حزب الشعب الجمهوري هو امتداد للحزب الذي أسسه أتاتورك وحكم تركيا طيلة أكثر من عقدين في إطار نظام الحزب الواحد الوحيد، وهو علماني متشدد، وقومي منغلق، ومعادي للحريات، وشهدت عهود حكمه للبلاد فساداً كبيراً، بالاستناد إلى النظام الاقتصادي "الدولتي" الموجه. فإذا أضفنا إلى تصريح (تهديد) بايكال، موقف الجيش الذي أعلنه هذه المرة على موقع إلكتروني، وانطوى على تهديد ضمني، وأخيراً إلى الاجتماعات الحاشدة في استانبول وأنقرة وكذلك الحملة الصحفية المركزة ضد انتخاب أي شخص من حزب العدالة والتنمية، عرفنا حجم الضغوط التي في ظلها اتخذت المحكمة الدستورية قرارها. فإذا تذكرنا أن ذريعة النصاب البرلماني التي بموجبها تم التشكيك في دستورية الانتخاب، هي ذريعة ساقطة بدلالة أن الرئيس المنتهية ولايته نجدت سيزر قد انتخب، قبل سبع سنوات، بنصاب لا يزيد على النصاب الذي توفر لعبد الله غول يوم انتخابه، عرفنا أننا أمام عمل انقلابي يختلف عن سوابقه شكلاً وحسب.

تفيد أعمال المؤرخ التركي "شكري هاني أوغلو" المتخصص بحقبة تفكك الإمبراطورية ونشوء الجمهورية، أن الإيديولوجيا الكمالية الحاكمة في تركيا على مدى قرن مضى، هي إيديولوجيا شمولية مغلقة تحجرت منذ منتصف القرن المنقضي وتحولت إلى دين جديد يخوض صراعه ضد الأديان القائمة، وهي فضلاً عن ذلك دين نخبة أقلية في مواجهة أغلبية مسلمة، حافظت على وضعها الممتاز (السلطوي) بقوة الجيش، لا بقوة الإقناع. بالمقابل، شهد الإسلام السياسي في تركيا تطورات لافتة، واستجابت إيديولوجيته لتحديات الحداثة بطريقتها. حزب العدالة والتنمية اليوم لا يمثل إسلاماً أصولياً، وإذا كانت عقيدته "محافظة" بالمعنى الغربي للكلمة، فهو حزب التغيير بسياساته في مختلف المجالات (الديموقراطية وحقوق الإنسان، مشكلات الأقليات القومية والدينية، العلاقة مع الاتحاد الأوروبي والانفتاح عموماً على العالم، تعميق الإصلاحات الاقتصادية، التنمية). تشهد على ذلك تجربة خمس سنوات في الحكم. بالمقابل، يحتل العلمانيون المتشددون في تركيا موقع الحزب المحافظ، على الرغم من عقيدته "الحديثة" بله "الثورية". هذا هو خلاصة ما توصل إليه "جوست لاجنديك"، رئيس اللجنة البرلمانية المشتركة الأوروبية – التركية، في مطولة له بعنوان: "قصة العلمانيين المتشددين والإسلام المحدّث".

هل صحيح أن الإسلام المعتدل في تركيا (ممثلاً، بصورة رئيسية، في حزب العدالة والتنمية) يتمسك بالرموز بصورة مبالغ بها، على حساب سياسات واقعية ذات محتوى؟ إن ما قد ينطبق على بعض الحركات الأصولية المتشددة في تركيا أو خارجها، لا ينطبق على الإسلام السياسي الحاكم في تركيا، أو على الأقل أنه ينطبق على خصومه العلمانيين بأكثر مما ينطبق عليه. فقد قامت العلمانية التركية، أصلاً، أي ممثلةً في "انقلابات أو ثورات أتاتورك" كما يسميها الخطاب الأيديولوجي السائد، على إجراءات شكلية كالزي أو الأبجدية أو آداب السلوك (الأتيكيت) وما إلى ذلك. في حين اتجهت الإجراءات "المضمونية" إذا جاز التعبير، نحو التضييق على الحريات وفرض العقيدة الرسمية على المجتمع بالإكراه ومكافحة التعدد، الأمر الذي يشكل نقيضاً للعلمانية الحقة، إلى الحد الذي جعل حزب الفضيلة بقيادة نجم الدين أربكان، يرفع شعار العلمانية الحقة، بمعنى كف يد السلطة السياسية عن التدخل بشؤون الناس الدينية، أي الفصل الحقيقي بين الدين والدولة.

إن من حوّل الحجاب إلى رمز سياسي، ليس الإسلام السياسي، بل العلمانية المتشددة التي رأت في نزع الحجاب، وهو شأن شخصي، "نضالاً ثورياً"، الأمر الذي يذكرنا بـ"ثورية" المظليات السوريات، حين نزلن إلى الشارع، في دمشق، في يوم من العام 1980 وأخذن ينزعن حجابات النسوة بالقوة، الأمر الذي أدى بعد سنوات قليلة إلى انتشار الحجاب بصورة لافتة في المدن السورية. إذا زرت موقع حزب الشعب الجمهوري (التركي) على الإنترنت في هذه الأيام، فسوف ترى اعتماد دعايته السياسية على الرموز أكثر مما على أي مضمون سياسي ذي بال. ثمة صورتان متجاورتان في صدر الصفحة الرئيسية (بتاريخ 5\5\2007) يظهر فيهما مقرا الحزب الكمالي والحزب الإسلامي الحاكم، وهما بناءان ضخمان، على واجهة المبنى الأول (الكمالي) العلم التركي الأحمر بمقاسات كبيرة، وعلى واجهة المبنى الثاني العلم نفسه بمقاسات أصغر. يريد القائمون على الموقع أن يقولوا للمتصفح أي الحزبين أكثر وطنية وإخلاصاً لقيم الجمهورية. وفي صورة ثانية كاريكاتورية نرى سيدتين منقبتين لا يظهر منهما سوى العيون، والواحدة تري صديقتها صورة تذكارية التقطتها في أيام المدرسة، وفي الصورة التذكارية المفترضة، جمع من المنقبات لا يمكن التمييز بينهن أبداً. ويستخدم الموقع هذه الصورة في أزمة الانتخابات الرئاسية، بما يجعلها "زاخرة بالرسائل": إذا انتُخب رئيس لتركيا من حزب العدالة والتنمية، فسوف تُلغى المدارس المختلطة، وترغم الطفلات على ارتداء النقاب (الذي، بالمناسبة، لا ترتدي مثله زوجة عبد الله غول، بل تضع إيشارباً على رأسها)، ويصبح البشر متشابهين، فتلغى الفردية. هذا باختصار ما تريد لنا الصورة أن "نفهمه". والحال أن الوضع الفظيع الموصوف ينطبق على "العلمانية" التركية أكثر مما على أي تيار آخر. فهي التي تريد فرض زي موحد وأفكار موحدة ونمط حياة موحد على الجميع في تركيا.

هل من ضمانة ألا يعود حزب العدالة والتنمية إلى نوع من الأصولية المتشددة، إذا احتكر بين يديه جميع مؤسسات الحكم (أي بإضافة منصب الرئاسة إلى الحكومة والغالبية البرلمانية)؟ هذا هو السؤال الذي يعبر عن مخاوف قسم من العلمانيين، ممن لا يرتبطون بمصالح قوية مع الوضع القائم، بل يخشون ببساطة على نمط حياتهم. ثمة ضمانتان بدلاً من واحدة. الأولى أن الجمهور الانتخابي لحزب العدالة والتنمية لا يقتصر على ذوي الميول الإسلامية أو المتدينين، بل تضم القاعدة الشعبية العريضة التي انتخبته قبل أربع سنوات الكثير من غير المتدينين والأقليات، ممن تضرروا من فساد الطبقة السياسية الحاكمة منذ عقود، ورأوا في الحزب الإسلامي أملاً في التغيير (وفقاً لوصف صحفي أميركي أعد تحقيقاً بهذا الخصوص، رأى الناخب في حزب العدالة والتنمية، حزباً يدير الدولة بصورة أفضل، لا حزباً يسعى إلى نشر التدين). إن ارتداداً مفترضاً لهذا الحزب نحو أصولية إسلامية سوف يفقده الجمهور العريض، ليعود إلى حجمه كحزب هامشي. الضمانة الثانية هي التيار العلماني نفسه المستند إلى قوة الجيش، والذي لا يمكن أن يضعف كثيراً في المدى المنظور، فيبقى التوازن حامياً من احتمالات الارتكاس.

ما يحدث في تركيا هذه الأيام يعنينا بقوة. الاستبداد الحاكم عندنا (والمتسم بالرثاثة والانحطاط) يستثمر بطريقة مماثلة مخاوف أقسام من المجتمع من البعبع الإسلامي، ما يساهم في تأبيد سيطرته، وأخطر من ذلك يحرمنا من شد أصوليينا الإسلاميين إلى الوسط، من طريق قبولهم في اللعبة السياسية، التي ستفرض شروطها حتى على أمثال بن لادن.

وفي رأيي، ختاماً، أن الفرصة الوحيدة أمام مجتمعاتنا لدخول الحداثة، بل وتطبيق العلمانية ذاتها، تتمثل في تحول الحركات الإسلامية إلى قائدة لعملية التحديث. ففي هذه الحالة وحدها لن تبدو قيم الحداثة ومؤسساتها أشياء مستوردة تقوم عليها نخب معزولة ومتسلطة بقوة الدبابة.


المراجع

موسوعة الاوان

التصانيف

سياسة   العلوم الاجتماعية