لعلّ ما يقع في الظنّ للوهلة الأولى، من موضوع كهذا “الحماسي/الملحمي”، أنّه موضوع قديم، وأن لا حاجة للعودة إليه.غير أنّ ما نلاحظه من حفاوة بشعر الحماسـة في مواقع مـن الأنترنت وفي بـعض الفضائيّات (قناة “الجزيرة” مثلا التي صارت تخصّص لهذا النّوع من الشعر حيّزا لا يستهان به) وفي مناهـج التّعليم الرّسميّة في فلسطين وسوريا وليبيا والعربيّة السعوديّة… وآخرها تونس حيث صار المنهج (السّابعة آداب) يتّسع، منذ مفتـتح هذا العـام الدّراسي، لشعر الحماسة عند أبي تمّـام والمتـنبّي وابن هـانئ الأندلسي، يسوّغ العودة إلى هذا الموضـوع والعودة “عليه” في ذات الآن. ذلك أنّ موضوعا كهذا محفوف بمحاذير شتّى، لعلّ من أشدّها خطورة، سهولة الانزلاق إلى “الإيديولوجيا الدينيّة” وحصر الحماسة في مجرّد صراع بين “الإيمان” و”الشرك” أو بين دار الإسلام ودار الحرب، فيما الحماسة في تقديرنا أعمق من ذلك بكثير.
المصادرة التي أستأنس بها في هذه المقاربة أنّ “الحماسة” مصطلح حياتي عند العرب، بالغ الدلالة قد يسوق إلى القول بوجود صلة ما بين الأغراض الشّعريّة المتعارفة من مدح وهجاء وفخر وغزل أو نسيب ورثاء والمعتقدات والطقوس الدينية في الجاهلية، وما تواصل منها في الإسلام. وهذا يقتضي في مستوى أوّل ضبطا دقيقا لمصطلح “حماسة” ومفهومها، من جهة، فمحاولة في إعادة تصنيف الأغراض الشّعريّة ،من أخرى (وقد سبق أن عالجنا هذا العنصر الثاني في مقال سابق في “الأوان”).
وينبغي أن نقرّ، ونحن نمهّد السّبيل إلى موضوعنا، أنّ ضبط حقيقة الكلمة أو ماهيتــها أو غير هاتين المقولتين من مقولات تنتسب إلى نفس العائلة المفهوميّة الكبرى نظير المفهوم والحدّ والجوهر والهويّة… وما إلى ذلك، عمل لا يخلو من صعوبة، لسببين على الأقلّّ:
أوّلهما أنّ المصطلح مادّة لغوية بالأساس. وليس بالميسور الإلمام بأطرافها والوقوف على نموّها وتطّورها في معاجم مثل معاجمنا تستدعي الدّاني والقاصي، وتجمع الشّاذة والفاذّة؛ فإذا الكلمة تقفز من عصر إلى عصر، ومن معنى إلى معنى، عبر فجوات فاغرة، ومتاهات لغويّة متشعّبة الأصول والفروع، قد لا يقدر الباحث على تخطيّ عقباتها ورياضة صعابها.
إنّ عملنا في هذه العتبة، يصطدم بمادّة لغويّة هي أشبه بمتحجّر ثقافيّ سراديبه حافلة ومساربه ممتلئة بمعان ودلالات قد يكون بينها قرب وقد يكون تراخ؛ لأسباب من أظهرها غموض غير يسير يحفّ هذه الكلمة، لا في معاجم اللّغة فحسب، وإنّما في المدوّنة النّقديّة والشّعريّة أيضا، وبخاصّة كتب الاختيارات الموسومة بـ”الحماسة”.على أنّ هذه المادّة ثروة لغويّة طائلة لا نستطيع أن نستثمرها كلّها، وإنّما نتخيّر منها ما يناسب بحثنا ويعزّز طروحاتنا. فلم يكن بدّ من جهد “خاصّ” قد لا يخلو من بعض مجازفة أو حدس في بحث هذه المادّة اللّغويّة، فافترضنا عليها ما افترضنا، وقلّبناها على ما قلّبنا.
أمّا ثاني السّببين فمردّه إلى أنّ المصطلح لا يمتلك حياته ولا سلطته المرجعيّة إلاّ إذا أدّى عن “المفهوم” الذي وضع له، بدقّة من جهة واتصل بأفهام القرّاء من أخرى. فعلى أساس من هذه الوظيفة المنوطة به، نستطيع تقدير رجحان مصطلح على آخر، كلّما كانت منزلته تكافئ منزلة مفهومه أو كان أوفر حياة وأوفى دلالة. أمّا إذا أخلّ بها أو قصّر دونها، فمن حقّنا أن نعيد تأصيله أو نعيد تأسيسه إن لزم الأمر، آخذين بالحسبان ما يثيره ذلك من قضايا ومشكلات، متحوّطين لها كأشدّ ما يكون التحوّط، فقد يؤدّي فهم مخصوص للمصطلح يحمله على هذا الوجه أو ذاك، إلى جرح عظيم يأباه مقصده ويندّ عنه سياقه.
إنّ التّأسيس لا يعدو في تقديرنا حالين اثنين: فقد يعني الوضع والإنشاء وصنع المبادئ والمناهج الأساسيّة كتلك التي بنى عليها العرب علوم الحديث والتّفسير وأصول الفقه وعلوم النّحو والبلاغة والشعر والعروض، وقد يعني استحداث صيغ وجود وصيغ معرفة غير مألوفة أو هي متخارجة عن السنن والتّقاليد.
الحماسة لغة من حمس أي اشتدّ. وحمس بالشيء: علق به. والحماسة:الشّجاعة والمنع والمحاربة. والتحمّس:التشدّد. ورجل حمس وحميس وأحمس:شجاع. والأحمس:الشّديد الصّلب في الدّين والقتال، والورع المتشدّد على نفسه في الدين. وقال ابن الأعرابي: الحمس (بفتح الحاء):الضّلال والهلكة والشرّ. وسنة حمساء:شديدة. والحمساء هي الكعبة. و الحمسة الحرمة. و الحمس (بضمّ الحاء) لقب قريش وكنانة و جديلة في الجاهلية، لأنّهم كانوا يتشدّدون في دينهم وشجاعتهم فلا يطاقون. وقيل سمّوا حمسا لأنّهم تحمّسوا في دينهم أي تشدّدوا. و جاء في كتب السيرة أنّـه “لا ينبغي لأهل الحلّ أن يأكلوا من طعام جاؤوا به معهم من الحلّ إلى الحرام إذا جاؤوا حجّاجا أو عمّارا و لا يطوفوا في البيت إلاّ في ثياب الحمس فإن لم يجدوا طافوا عراة … و أمّا النّساء فتضع إحداهن ثيابـها كلّها إلاّ درعا مفرّجا (مشقوقا من قدّام أو من خلف) ، ثم تطوف فيه.”
حاصل هذه النّبذة اللغويّة الخاطفة أنّ مادّة “حمس” بشتّى مشتقّاتها تكاد لا تخرج عن معاني الشدّة والمنع والشّجاعة والمحاربة، سواء تعلّق الأمر بالحرب والقتال، أو بالدّين وطقوسه،أو بغيرهما من شؤون العرب القدامى، ومن أنظمة قيمهم.
إذن ما الذي يسوّغ اتّخاذ هذه الكلمة”حماسة” عنوانا لعدد من الدّواوين أو المختارات الشّعريّة عند القدماء، ومشتقّها النّعتي مقابلا عند المعاصرين للفنّ الغربي المعروف بPoésie épiqueHéroïque أي “شعر حماسيّ” ؟ أو
جاء في دائرة المعارف الإسلاميّة أنّ بقطرBocthor هو أوّل من وضع هذه التّرجمة “شعر حماسيّ”.بيد أنّها كانت،على جلالها، قصيرة العمر أو من الهباء الذي لا يعمّر، إذ سرعان ما عفّى عليها البلى، وناب عنها المصطلح الذائع “شعر ملحميّ” أو”ملحمة شعريّة”Epopée الذي نديره على ألسنتنا بكثير من اليسر والسّهولة، برغم أنّه ـ على ما يتهيّأ لي ـ يعاني قدرا من قلق العبارة، غير يسير. ولعلّ مصطلح”شعر الحماسة” أن يكون أوفر دلالة منه، وأنمّ على هذا النّوع من الشّعر القصصي الذي يسرد أعمالا ومغامرات بطوليّة تمّحي فيها الحدود بين الواقعي والخارق،والتّاريخي والأسطوري، في سياق الإشادة ببطل والتّغنّي بمآثره.
إنّ ديوان الحماسة لأبي تمّام (ت.231هـ/847م) هو أقدم هذه الدّواوين وأشهرها. والمثير فيه ليس محتواه، وإنّما عنوانه الذي حار المعاصرون في دواعيه. وذهب أكثرهم إلى أنّ الديوان إنّما سمّي كذلك، لأنّ الحماسة هي أوّل أبوابه العشرة وأكبرها. وجاء في دائرة المعارف الإسلاميّة أنّ ذلك كان بغير قصد وبلا ترتيب واضح. وكأنّ الكتاب أو هذا المتخيّر ـ على طرافته ـ حشد من الموضوعات أو من معاني الشّعر لا ينتظمها سياق واحد أو هي لا تنضوي إلى نسق بعينه. فأوّلها في “الحماسة”، كما أسلفنا، أي هو مقطوعات وأبيات من شعر المشهورين والخاملين من شعراء الجاهليّة والإسلام، في الجرأة والبسالة في الحرب. وثانيها في “المراثي” أو موضوع الموت. وثالثها في “الأدب” أي الأخلاق. ورابعها في “النّسيب” أو موضوع الحبّ. وخامسها في “الهجاء” أو مثالب العدوّ. وسادسها في “الأضياف والمديح” أو موضوع الكرم. وسابعها في “الصّفات” أو الخلال المتعدّدة. وثامنها في “السّير والنّعاس” أو موضوع النّوم ينعم به الرحّالة. وتاسعها في “الملح” أو سرعة البديهة. وعاشرها في “مذمّة النّساء” أو نقائصهنّ ومثالبهنّ.
وربّما وقع في الظنّ،استئناسا بـهذه الأبواب التي تتفاوت طولا وقصرا، أنّها لا تنشدّ إلى نسق واضح، أو أنّ مردّ التّسمية إلى إطلاق الجزء على الكلّ، لا أكثر ولا أقلّ. وهذا، في تقديرنا، من مدخول الظنّ وخادع الانطباع. فإذا كان أكثر كتب الحماسة التي ترسّمت أثر أبي تمّام، أو احتفظت بعنوانه، حتّى فقد هذا العنوان بريقه أو معناه الاشتقاقي، وصار مرادفا لكلمة “مختارات” أو”ديوان”، مثل حماسة ابن الشّجري المعروفة أيضا بـ”مختارات شعراء العرب”، وغيرها ممّا هو مطبوع أو مفقود ممّا لا يتّسع المجال لذكره،فإنّ حماسة أبي تمّام أو حماسة البحتري المرتّبة في مائة وأربعة وسبعين بابا، وفقا لأغراض شعريّة مخصوصة، محكومة بـ”فضاء معرفيّ” أو ما ينحتُ له بعضُ أهلِ الفلسفةِ نحتًا بالتّعريب، مقولة “أبستيميْ” Epistémé – ونعني ذاك الذي يتمّ ضمنه التّعلّق بإمكان مفهوم كلّيّ للحماسة. وهو فضاء منشدّ إلى سقف “النّسق” الذي يستوعب المختلِف داخله ليبقى نسقا. أي أنّ حماسة أبي تمّام يمكن أن تستوعب هذه الأبواب على اختلافها أو تباينها.
وهذا الرّأي إنّما نسوقه بشيء من الاطمئنان، إذ يشقّ علينا أن نصدّق أنّ شاعرا مثل أبي تمّام وهو ذو عقل وصاحب صنعة، وضع هذا المفهوم في تسمية متخيّره الشّعري دون أن ينعـم النّظر في بنية القصيدة، أو دون أن يستأنس برؤية مخصوصة للحماسة.
ولنا، فيما يأتي، أن نصرف النّظر عن الباب الأوّل وعنوانه ينبئ عنه، ونتخيّر أيّ باب من هذه الأبواب التّسعة، عسى أن نتبيّن أنّها راجعة كلّها إلى الحماسة، من أيّ جهة من جهات القول جئتها، واحتشدت لها أو عليها. وليكن باب النّسيب أو موضوع الحبّ، وهو الرابع في ديوان الحماسة. وقد ميّزه أبو تمّام من الباب العاشر وهو في مذمّة النّساء. ولا مسوّغ لاختيارنا هذا سوى ما يقع في الظنّ من أنّه ليس أبعد من النّسيب أو الغزل عن الحماسة. بل لعلّه يقع في الطرف المقابل لها. وليس الأمر كذلك، على ما نظنّ ونرجّح.
المرأة في النّسيب أو المقدّمة الغزليّة هي كلّ النساء و الجسد هو كلّ الأجساد، فاسم الأنثى يجري فيها دون وقوع على صاحبته. وقد يستثني الغزل العذري، فاسم بثينة كما يقول ابن رشيق، وقف على جميل بن معمر المعروف ب”جميل بثينة”. و هو اسم يحيل إلى شخصيّة لها وجود تاريخي “إلاّ أنّ اسم بثينة أصبح مشاعا في الغزل وفي شعر الحبّ الصوفي، مثل ليلى وهند وسلمى… و من ثمّ فهو أيضا رمـز للأنـثى الكونية أو للحبيبة الأسطورية. فإذا كان الاسم رمزا عاماّ لا يحيل إلى امراة بعينها فمن الطبيعي أن يكون الجسد الذي يزجي إليه الشاعر مديحه استعارة عامة لا تبرح بنيتها ولا تحيل إلى كيان يقوم خارجها . لكأنّ الشاعر القديم كان يدرك اعتباطية الاسم الشخصي الذي يمنح للفرد رجلا أو امرأة وما ينطوي عليه من علاقة تواطئية بين الفرد والجماعة. وقد ارتبطت الأسماء عند قدماء العرب بطابع حياتهم ومعاشهم ومعتقداتهم وأساطيرهم. فلم يكن الشاعر يجد غضاضة في أن تتعدّد اسماء النساء في القصيدة الواحدة، فيطلق على المراة اسم هند أو أسماء أو فاطمة… فهي أسماء تقليدية تواضع عليها الشعراء وجرت في أشعارهم مجرى الرموز وفاء لتقليد شعري قد يكون سنّه أبو داود الايادي. يقول ابن رشيق “كان امرؤ القيس يتوكأ عليه “.
أسماء محدودة لا بدّ أن ” تحلو في الأفواه” بعبارة ابن رشيق، لأنّ الغرض من ذكرها ليس الغزل وإنّـما تجسيد حالة من الحماسة تأخذ على الشاعر نفسه. فمن وجوه الطرافة في الافتتاحية الغزلية أنّ الشاعر يتـّخذ المرأة قناعا يتستّر وراءه أو صورة يجاذبـها جانبا الحقيقة والمجاز، فيكنّي عن نفسه بها”. فإن هذه المرأة الرمز وهذا الجسد الاستعارة ليسا إلا “لعبة شعرية” لها قواعدها المحددة. أي تلك التي لا ينبغي للشّاعر أن يحيد عنها، فإذا حاد عنها أو استبدل قواعدها بقواعد أخرى، كان المستمع أو الناقد منه، بإزاء حكمين: إمّا أن يعتبره خارجا على النموذج الشعري عابثا بأصوله. و إمّا أن يعتبره محدثا مجدّدا لأصول الشعر.
من أهمّ هذه القواعد أنّ الرجل هو الذي ينسب بالمرأة أو يشبّب بـها، ولا ينبغي للمرأة أن تنسب بالرجل فـ”العادة عند العرب أنّ الشاعر هو المتغزّل المتماوت وعادة العجم أن يجعلوا المرأة هي الطالبة والراغبة المخاطبة وهنا دليل كرم النّحيزة [الطبيعة] عند العرب و غيرتـها على الحرم” بتعبير ابن رشيق.
هذا برغم أنّنا لا نعدم في الوفرة من شعر الغزل عند العرب، قصائد و أبياتا متفرّقة، تنسب فيها المرأة بالرجل أو تتغزّل به، لكنّها من الندرة بحيث لا يعتدّ بها ولا يُحتجّ في نفي القاعدة السائدة. فالمرأة في شعر الحماسة موضوع أكثر منها ذاتا. وعلى هذه القاعدة تتحدّد صورة المرأة الخيالية في القصيدة وتقاس مهارة الشاعر الفنيّة ووفاؤه للنموذج الشعري.
إنّ الافتتاحبة الغزلية (النسيب) التي وسمت شعر الحب عند العرب في مختلف مراحله، ليست إلا “ميدان تضليل مقنّن”، بحيث تدخل كلّ عناصرها في باب المتخيّل، وتؤكد غلبة سلطان العرف الشعري على سلطان الواقع . فإذا كان غياب المرأة من حيث هي كائن اجتماعي يقابله حضورها المتخيّل، فانّ حضور الرجل من حيث هو ذات فاعلة، يقابله غيابه من حيث هو موضوع لرغبة المرأة. وهي رغبة لا تظهر لا في الافتتاحية الغزلية ولا في قصيدة الحب، لأنّ العرف الشعري يجعل من المرأة وحدها موضوع رغبة. والأمر أكثر منه حيلة فنية التجأ إليها الشعراء تعبيرا عن صدق العاطفة وتمكّن الهيام والوجد.
فمثل هذا التفسير، يصدر عن روية تغفل خصوصية “الغزلية” عند العرب. فقد سعى هؤلاء إلى تقدير الغزليّة وغيرها من أغراض الشعر / من حيث هي تصوير فنّي لجملة من القيم والمثل العليا، هي ليست إلاّ قيم الحماسة ومثلها التي يستحب فيه مراعاة السابق والنّسج على منواله، حتى يبقى للشعر جانب القوة والشـدّة والفـحولة فيه. فبهذا القياس الصّارم كان يؤخذ الشعر فيعاب إذا خرج عليه، وليس بمقياس الصـدق والكذب. ذلك أنّ مصدر الشعر عند العرب هو الجماعة وليس الفرد، وهم الذين دأبوا على اعـتبار الشعر ديوانـهم وسجلّ مآثرهم، حتى أن أكثر البلاغيّين والنقاّد العرب نباهة مثل عبد القاهر الجرجاني وحازم القرطاجني لم يخرجا عن هذه الرواسم خروجا كبيرا. فقد قارب عبد القاهر الكلام على الإيهام، في حديثه عن التخييل من حيث هو ادعاء دعوى لا سبيل إلى تحصيلها و قول قول يخدع فيه الشاعر نفسه ويريـها ما لا ترى، الاّ أنّ الخيال ظلّ عنده خيـالا مجازيا يمـتح عناصره من قوة العقل التخييلية، لأنّ الاسـتعارة في نظريته لا تستقيم إلا إذا كان لها شبح في العقل، و ليس خيالا خلاّقا يـغذو فروعا من شجرة الواقع وأغصانا جديدة أو يأخذ فرعا من هنا وغصنا من هناك فيضفر شجرته على غير مثال سابق ونمـوذج يحتذى. وقرن حازم التخييل بالغرابة وجعل الصدق ناجما عن خفاء الكذب، إلاّ أنّه أبقى على تعريف قدامة بن جعفر للشعر فـ”الشعر كلام موزون مقفى من شأنه أن يحبب إلى النفس ما قصد تحبيبه إليها ويكرّه إليها ما قصد تكريهه، لتحمل بذلك على طلبه أو الهرب منه …(و) أفضل الشعر ما حسنت محاكاته وهيئته وقويت شهرته أو صدقه أو خفي كذبه و قامت غرابته”. فعلى هذه القواعد كان يجري الشعر وتجري صوره. ولم تكن صورة المرأة إلا استجابة لبواعث الغزلية و خصائصها الفنية. هذه البواعث والخصائص التي كانت تلزم الشاعر بان يقدّ كلامه على مقتضى الحال والعرف الشعري السائد معا.
فإذا كانت الغزلية ذات منحى حسيّ كانت الثنائية التي تحكمها هي ثنائية الجسد الضّعيف العاجز (جسد الأنثى) والجسد القوي الفاعل (جسد الرجل) فإذا نحت الغزلية منحى عذريا حصل تراتب عكسي، فالجسد الضعيف العاجز هو جسد الرجل (الجسد الناحل أو اللامرئي) والجسد القوي الفاعل هو جسد الأنثى. دون أن ينجم عن ذلك أيّ إخلال بقواعد اللغة أو العرف. فسواء كانت الغزلية حسية أم عذرية فإنّ الرجل هو “الطالب” دائما والمراة هي “المطلوب” دائما، هو ” الراغب ” وهي “المرغوب فيه “.
يقول أدونيس إنّ “الشعر الجاهلي شعر شهادة … غايته أن يتحدّث مع الواقع ويصفه ويشهد له. يحبّ الأشياء حوله لذاتها و لما تمثله، ويضع كل شيء حيث يفرح به ويفيد منه”.
هذه القولة مفتاح لفهم صورة المرأة، في حماسة النّسيب أو الحضريّ منه، فالشاعر العربي القديم إذ يصف المرأة ويجزّئ جسدها، إنـّما “يشيئه” أي يحوّله إلى أشياء. والإنسان يجزّئ عادة الأشياء التي يملكها أو يرغب في الاستئثار بـها والقبض عليها مخافة أن تفلت منه. و”الأشياء” في نظر الجاهلي تعبر كالغيم، تتراءى وسرعان ما تغيب، تصبح كل لحظة ذكرى شيء يضيع أو يغيب”. ومن هنا كانت المقدمة الغزلية محاولة لتثبيت لحظة هاربة والتشبت بها. فحسّ الزمن في هذه المقدمة حسّ فاجع يشي بزوال الأشياء و تلاشيها، حتّى أنّ الأمنية التي تستبدّ بالجاهلي هي أن يصبح هو نفسه شيئا أو مادّة غفلا:
ما أطيب العيش لو أن الفتى حجر- تنبو الحوادث عنه وهو ملموم
إنّ صورة المرأة لتؤكّد الجميل من حيث هو “تعبير عن المثل الأعلى في صورة فنية حسية”بعبارة هيجل، مثلما تؤكّد الجليل بكلّ ما يحيل إليه من معاني العظمة والرهبة والانتقال من المرئي إلى المتخيل ومن النهائي إلى اللانهائي. وفي هذا الجمع بين الجميل والجليل معنى من معاني الحماسة من حيث هي بذل وفداء ومغامرة إن شئنا. وبسبب من ذلك أسميناها حماسة النّسيب. فالجميل انسجام وتناسب وتناظر أي بنية متناغمة العناصر تثير في الشاعر إحساسا بالمتعة وهو يكتشف في هذا الجسد المضخّم المجزّأ (جسد المرأة) الذي ابتدعته مخيّلته لا وسيلة تلبي حاجة فحسب، وانـّما شهادة لفعله أو لحماسته. ولعلّ هذه المتعة التي كان يستشعرها الشاعر الجاهلي والمتلقي معا، هي التي تفسر إلى حدّ كبير سرّ هذا الاحتفاء المثير بالمرأة في أكثر مقدّمات الشّعر العربي. وأمّا الجليل فيفجّر “حدود التوافق بين الواقع والمثل الأعلى”. فالشاعر الجاهلي ما أن يفرغ من المقدمة الغزلية حتى ينتقل إلى مشهد آخر، فيذهب به الجليل في القوة والتعاظم دون أن يقف عند حدّ أو غـاية مؤكدا في الآن نفسه “تفوق العالم على القوة الإنسانية من جهة و إصرار الإنسان على تأكيد ذاته وحريته من جهة أخرى” (أدونيس).
ولذلك لم يكن بالمستغرب أن يقترن تضخيم الجسد في القصيد الجاهلي بتضخيم الذات وأن يقترن تمجيد الجسد بتمجيد البطولة. وقد كانت البطولة دائما مقرونة بالجلال، من حيث هي إرادة لتجديد الحياة قوية، وسعي إلى الظفر بالمثل الأعلى حثيث واحتجاج على المتناهي يجد صداه في اللامتناهي. وهذا ما يجعل هذا الحب الجسدي صفة ملازمة للفروسية. فبوساطة هذا الحب يشحذ الشاعر قوته ويذكي رغبته في المغامرة، متخطيا جسد الأنثى إلى جسد البطولة و كأن “لا شيء يرويه أو يرضيه أو يحدّه “(أدونيس). ومن ثم كانت شخصية الفارس كما يرسمها الشعر الجاهلي “جوابة ومقيمة في آن … في الليل يأسره النهار، وفي النهار يحنّ إلى المرأة”، حتى لكأنّ الرغبة التي تستأثر به أن تكون حياته على هيئة الصحراء “مطلقة ونسبية، بسيطة ومعقدة، ثابتة وتنهار كالرمل”. بل إنها لعلى هذه الهيئة تكون. فكل شيء في القصيد الجاهلي يتخذ هيئة الصحراء اللامحدودة، بدءا بالجسد وانتهاء بذات الشاعر.
ونقدّر أنّه ليس هناك كلمة أبلغ في تمثّل هذه الحالة من كلمة “الحماسة” التي كان العرب يطلقونها على شعرهم قبل أن يحمل عليه تصنيف الأنواع أو الأغراض إلى غزل وفخر ورثاء … والحماسة مصطلح حياتي وفلسفي شامل وعميق، يجسّد أوج الانفعال بحالة من الحياة تتجاوز الحاضر إلى الغائب و المرئي إلى اللامرئي أو المتخيل، كما يذهب إلى ذلك مطاع صفدي. فـ”حماسة النسيب” لا تنحصر في الانفعال بجسد الأنثى وإنما تتفرّع إلى انفعال بجسم البطولة وإلى انفعال بجسد الحب يتحوّل إلى احتفال بالجوهر الأنثوي، ويرقى إلى ما يمكن تسميته “توثين الجسد” أو “أسطرة الجسد”. فمن خلال الحماسة يصوغ الشاعر صورة الجسد الكونية، هذه الصورة التي يبدو فيها الجسد ضربا من المجاز أو استعارة كبرى. فهو جسد– مثال يمتح الشاعر عناصره من أجساد وأجسام عامة، من آلهة وطواطم كانت لها قداسة في غابر الجاهلية. من ذلك أن “العزّى” مثّلت عند قدماء العرب امرأة حسناء في صورة الزّهرة وبنتا من بنات “هبل” إله الخصب والرزق، تقلّبت في كافة الطقوس الأرضية و السّماوية فمثّلت فصل الشتاء ضدّ “اللات” التي مثّلت فصل الصيف ثم نجم الصباح حينما ظهرت “اللات” في صورة الشمس. و أن “مناة” امرأة مثّلت عندهم الموت وأنّ وأد البنات لم يكن لمجرّد دافع اقتصادي كما درج على ذلك المفسّرون، فلربما كان طقسا دينيا أي تضحيـة بالأنثى هدفـها التقرب للإله القمر “ود” الذي هو رمز الأنوثة والخصوبة (علي زيعور).