رافق صدور إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي بصفته خطوة كبيرة خطتها المعارضة السورية نحو توحيد مواقفها ونشاطها، حصول بعض البلبلة في صفوف لجان إحياء المجتمع المدني وتكاثر طرح الأسئلة حول مبرر استمرارها وجدوى دورها، الأمر الذي انعكس ارتباكاً في عملها، ووضعها أمام تحدٍ مركب ليس فقط بسبب أهمية هذه النقلة السياسية في صفوف المعارضة،وإنما أيضاً جراء عودة المناخات الأمنية والتضييقات ثم الاعتقالاتالتي طالت بعض الناشطين واتخذت بحقهم إحكاما جائرة.

لكن وفي الحقيقة لم يحتج تجاوز هذه الارباكات وقتاً أو سجالاً طويلاً، ما دام ثمة بديهيات لا تزال حاضرة في فهم عملية إحياء المجتمع المدني، وأهمها أن هذا الخيار ليس رغبة أو فعلا إراديا أو تعويضا عن عمل سياسي، بل هو استجابة لشرط موضوعي يحث على استرجاع دور المجتمع في الحياة العامة واستقلاله. وبعبارة أخرى فإن النشاط الإحيائي ليس مجرد مهمة يمكن إنجازها في وقت محدد وشرط محدد، بل هو عملية مستمرة موضوعياً في خصوصية حالتنا السورية، ربما حتى لحظة تنخفض فيها المساحات المهمشة اجتماعياً وسياسياً وترتقي فيها درجة التضامن والتشابك بين القوى والتكوينات المختلفة، وتنهض العلاقات القائمة في المجتمع على أساس التعاون والتنافس الحيوي.

فمن هي لجان إحياء المجتمع المدني في سورية وكيف كان مسار نموها وتطورها؟.

بداية يصح القول أنه ليس حدثاً غريباً أو مفاجئاً أن تظهر فكرة تنظيم فعل ثقافي لإحياء المجتمع المدني في بلد مثل سوريا التي هي نموذج متأخر للبلدان التي حكمتها أنظمة شمولية لعقود من الزمن، احتكرت حقل السياسة ومعظم أوجه النشاط الاقتصادي وفرضت نفسها كمجال وحيد للحراك الاجتماعي، وما ترتب على ذلك من تغييب الوجه الديمقراطي للحياة واسقاط دور الإنسان بوصفه المحرك الرئيس لكل نمو وتحدٍ، وتالياً تدمير المجتمع المدني أو تهميش دوره وإلحاق منظماته بالسلطة إلحاقاً تاماً.

فباسم المشروعية الثورية أو الوطنية نصبت النخبة الحاكمة نفسها وصياً على البلاد والعباد، وأنكرت حق المجتمع في الوجود المستقل، لتبيح لأجهزتها التدخل في كل شيء بما في ذلك إعادة تشكيل هيئات المجتمع ومتابعة أدق تفاصيله، ملحقة منظماته الأهلية والجمعيات غير الحكومية والنقابات بسيطرتها المباشرة، النوادي والهيئات الرياضية بالاتحاد الرياضي، الأنشطة الطلابية وفرق الكشافة باتحاد شبيبة الثورة، المنظمات النسائية بالاتحاد النسائي، المنتديات الثقافية بوزارة الثقافية..الخ وبات أي خرق أو تجاوز لهذه المنظومة يلقى الإدانة والقمع والعقاب..

لكن فكرة إحياء مجتمع في حال من الموات المزمن ما كان لها أن تحضر وتشق طريقها في الحياة لو لم تتضافر أسباب مباشرة، منها تداعيات المتغيرات بعد انهيار السلطات الاشتراكية وهزيمة الأيديولوجية والعقلية الوصائية، ومنها الارتخاء النسبي للقبضة القمعية بدافع من اضطرار السلطة للتكيف مع نمو حاجات المجتمع ومواكبة التطورات العالمية، ومنها أيضاً محاولة التعويض عن قصور دور المعارضة السياسية وقد أضعفها القمع والإقصاء وشروط نضال قاسية، ومنها أخيراً التحديات والأخطار التي تحدق بالوطن وحضور روح عالية من المسؤولية لدى أوساط ثقافية واسعة تتطلع إلى تجنيب البلاد النتائج السلبية التي يحتمل أن تنجم عن تغيير مبهم وغامض ربما يتطور إلى اقتتال متخلف مجاني، طائفي أو قومي، على قاعدة ماض من الصراع الدموي بين السلطة والإخوان المسلمين وفي ضوء نمو الحال الكردية وما تعانيه من تمييز واضطهاد وبخاصة وأن القطاع الأكبر من أبنائها لا يزالون محرومين من أهم حقوقهم الثقافية والإنسانية، وتعامل عشرات الألوف ككتلة غريبة في وطنها وقد حرمت من الجنسية السورية إلى اليوم.

يمكن القول وربطاً بتضافر الأسباب السابقة، إن وعياً جديداً نشأ في أوساط واسعة من المثقفين يستند إلى فكرة الرهان على تسخير المجال الثقافي ليكون مدخلاً مناسباً للحراك المدني، تبلور بين خريف عام 2000 وربيع 2001 في وثيقتين تأسيسيتين صدرتا على التوالي، تشجعان على إيلاء البنية المجتمعية والمدنية الأولوية في النشاط،وإيصال قدر من الأفكار والمعارف إليها تمكنها من وعي نفسها وبلورة دور مطلوب لها كهيئة عامةمستقلة نسبيا عن التمثيلات السياسية، واستدعى التركيز على هذا الهدف غير المسبوق في تاريخ سوريا تبدل المهمات واستخدامالثقافة كرافعة للعمل المدنيعلى أن يقلص دورها أكثر فأكثرلصالح هذا الأخير.

وكان لا بد لضمان اللحمة ووحدة الإيقاع ووضوح الرؤية أن يعتمد المشاركون مبدأ التوافقات سبيلاً لمعالجة خلافاتهم وبناء تفاهمات عامة كمساحة للقاء وللنشاط المشترك، ما يستدعي بداية تربية الذات والآخر على القبول بالرأي المختلف واحترامهوالابتعاد عن العقلية الوصائية وأساليب الأحزاب في التوجيه المركزي والضبط، والتأكيد على أن لجان إحياء المجتمع المدني ليست مرجعية تنظيمية لأحد أو بديلاً أيديولوجياً أو منافساً سياسياً بل هي فضاء مفتوح على التنوع واحترام التعددية وحق الاختلاف.

إذن رأت هذه الفكرة طريقها إلى العلن والنور عبر وثيقة الـ / 99 / عام / 2000 / وهو عدد الموقعين عليها، تلتها بعد عام ما عرف بالوثيقة التأسيسية الأهم وحملت اسم وثيقة الألف، نسبة أيضاً إلى عدد الموقعين عليها، وهم شريحة واسعة من المثقفين السوريين جاؤوا من شتى المنابت والمشارب وقد استشعروا الأهمية الإنقاذية لإشاعة مفاهيم الحرية والمساواة وقيم المواطنة وحقوق الإنسان، وأدركوا حجم المخاطر المحتملة التي يمكن أن تنجم عن عجز المجتمع وضعف قدراته على النهوض والتقدم بفعل تفكك روابطه وعطالة السلطة الشمولية واستشراء الفساد، متطلعين إلى حكم رشيد يتيح فرصاً متساوية لسائر القوى الاجتماعية في الحياة العامة.

بدأ هؤلاء المثقفون التنقيب عن ممر آمن يعيد الحياة إلى المجتمع وينشر علاقات صحية بين الناس بعيداً عن لغة الإقصاء والإفناء، فحملت وثيقتهم توافقاً عريضاً على مبدأ الحوارالوطني العام واتخذت موقفاً إيجابياً من الإصلاح الذي يجب أن يكون شاملا وعصبه الأساسي الإصلاح السياسي.

وبينت هذه الوثيقة أن لجان إحياء المجتمع المدني لجان مجتمعية مستقلة لا مركزية وغير حزبية، تنبذ العنف والقمع والإكراه وتعتمد الحوار والنضال السلمي سبيلا لحل المشكلات، وتهدف إلى تنشيط الحياة العامة واستعادة المواطنين إلى حقل العمل العام والمشاركة الإيجابية، وإلى إعادة إنتاج الثقافة والسياسة في المجتمع بوصفهما شرطين أساسيين من شروط التقدم والبناء الديمقراطي.

تميزت لجان الإحياء في سنوات نشاطها بهويتها الديمقراطية وقربها من الناس وبقدرتها على المبادرة لتفعيل مشاركات نضالية تحتية وطنية وديمقراطية وأيضاً بخطابها الموضوعي المفعم ثقة بالناس والساعي إلى تخفيف الاحتقانات والتشجيع على الإصلاح والتغيير، لتغدو مع الزمن فضاء آمناً للجميع أعاد بناء عتبة من الثقة بين مختلف الأطراف كان مجتمعنا في أمس الحاجة إليها.

وكان التحدي أن يستمر النشاط الإحيائي بعد انتكاسة “ربيع دمشق ” عام / 2001 / وعودة المناخات الأمنية وحظر المنتديات الثقافية والاعتقالات التي طالت بعض نشطاء المجتمع المدني واتخذت بحقهم أحكاما جائرة، فثابرت اللجان على نشاطها التثقيفي وندواتها الحوارية، وبذلت جهداً خاصاً لحماية ما وصلت إليه. مثلما استمرت مساهمتها لإذابة جدران الجليد بين قوى سياسية عرفت الجفاء والقطيعة ردحاً من الزمن، وخصصت جزءا من جهدها لتطوير التواصل بين الفاعليات العربية والكردية وننوه هنا بدورها الخاص في تخفيف التوترات وتهدئة النفوس إبان أحداث القامشلي المؤسفة، إضافة إلى الدور المتميز الذي لعبته في الاعتصامات الوطنية لنصرة الشعب الفلسطيني أو العراقي وأيضاً المطالبة بالحريات وحقوق الإنسان والتناوب في حضور التجمعات التضامنية مع المعتقلين أمام محاكمهم والاعتصام الشهير في ذكرى الإعلان العالمي لحقوق الإنسان أمام رئاسة مجلس الوزراء، وأيضاً إصرارها على وضع السلطة أمام مسؤولياتها وتوجيه عدة عرائض إلى رئاسة الجمهورية والحكومة، تدعو للحريات ولإطلاق سراح المعتقلين ولحوار وطني عام والإسراع في إنجاز برنامج للإصلاح الديمقراطي يمكن أن يقي المجتمع من عواقب خطيرة ومدمرة.

ولعل الدرس العراقي البليغ لجهة العجز في لحظة الخطر عن استنهاض مجتمع في حال موات، أعطى دفعة موضوعية لدور لجان الإحياء، إلا أن السلبيات الناجمة عن العمل الملموس والميداني ثم التحديات والضغوط الخارجية كانت تخلق التباسات فكرية وسياسية وارتباكاً في عمل لجان الإحياء، ما استدعي تباعاً وبين الفينة والأخرى إعادة النظر في بعض التوافقات التي تتعرض للانتقاد ويشوبها الغموض، وخاصة لجهة التجديد المستمر للعلاقة بين العمل الثقافي والسياسي وإيضاح التخوم بين النشاطين المدني والسياسي وأيضاً حدود التسامح مع الرأي الآخر ومدى تقبل التعددية والاختلاف.

يمكن اعتبار هذه الارتباكات ظاهرة صحية يستدعيها في كل محطة من محطات تطور هذه الظاهرة، النمو والتجاوز وليس الترهل والانحطاط، الأمر الذي تطلب وقفات نقدية متكررة لإعادة صياغة الرؤى والمفاهيم حول شروط العملية الإحيائية وأشكال ممارستها، وكانت النتيجة المتكررة التي خلصت إليها اللجان بعد كل وقفة نقدية هي ضرورة تخفيف التوغل نحو السياسي والانحياز أكثر لصالح العمل المدني والثقافي، وأيضاً التطلع لتوسيع مساحات الحرية لاستيعاب مشاركة أوسع من كل التنوعات الفكرية والسياسية في هذه العملية على حساب العقل السياسي الوصائي والتصورات البرنامجية الحزبية أو الإيديولوجية المسبقة، فالبديهي أن تحترم لجان الإحياء التنوع والتعدد كانعكاس طبيعي للتنوع والتعدد الموجود أصلاً في المجتمع غرض الإحياء.

وهنا يجب التنبيه إلى أن ثمة فارقا في خصوصية التجربة السورية بين فكرة إحياء المجتمع المدني وبين المجتمع المدني ذاته، ما يقود إلى ضرورة التمييز بين لجان ثقافية غرضها إحيائي وبين التكوينات المدنية المؤسساتية في المجتمع وأدوارها التخصصية، فالأولى فعل إقلاعي إن صحت العبارة يجاهد من أجل نشر وتعميم الثقافة المدنية وحفز ما يستطيع من العوامل المحركة لقوى المجتمع وحثها على النهوض والمشاركة، بما في ذلك تشجيع المبادرة الذاتية والجمعية عند قيامها للدفاع عن بعض حقوق الناس، وتعزيز ثقة البشر بأنفسهم وجدوى دورهم في تحقيق التحولات وحماية التغيرات الاجتماعية.

والثانية هي مجموعة المؤسسات والمنظمات التطوعية، كالجمعيات الأهلية والحركات الاجتماعية غير الحكومية الملتفة حول أنشطة سياسية وحقوقية أو خدمية (حقوق الإنسان، المرأة، البيئة، محاربة الفساد، حماية المستهلك…)،وجدت لتملأ الفضاء العام بين الفرد والدولة، وتنشأ بدافع نمو مصلحة مشتركة لأعضائها أو لتقديم مساعدات عامة للمواطنين بعيد عن دور الدولة ووصايتها، تحكمها أنشطة متنوعة تدعو الناس إلى المشاركة في تقرير مصائرهم وفي مواجهة السياسات التي تؤثر على حقوقهم وشروط معيشتهم.

من جهة ثانية، إذ يعني إحياء المجتمع المدني فيما يعنيه تعميم مفهوم المواطنة واعتباره معيار التشارك والمساواة بين الناس، فهو يقف على مسافة واضحة من الروابط البدائية للمجتمع الأهلي، كرابطة الدم أو الدين التي تغذي العلاقات العشائرية والطائفية والتي لا تزال عند البعض تحتل الأولوية في تقييم الفرد وبناء موقف منه.

مثلما يقف الفعل الإحيائي على مسافة من الحقل السياسي الذي تحكمه مبادئ وبرنامج عام للتغير، بل يمكن اعتبار إحياء المجتمع المدني سياسة لكن من نوع آخر، لكونها تسعى إلى نمط مختلف من التنظيم والنشاط الاجتماعي ترعاه علاقات بين أفراد وفئات متنوعة لأنهم أعضاء في مجتمع واحد وتجمعهم هموم مشتركة وحرص موحد على الوطن والحقوق، دون النظر إلى اختلاف انتماءاتهم ومواقفهم الفكرية والسياسية، مما يعني توليد حقل من التشابكات والتضامنات النابعة من شروط حياة البشر وتساكنهم وهمومهم لا يخضع لبرنامج حزبي أو لإرادة سياسية.

والنتيجة، إن فكرة الإحياء تأخذ قوتها من ضرورة خلق مقومات تراكمية في المناخ والوعي والعمل الملموس للرد على سيطرة شمولية زرعت السلبية والشعور بعدم الجدوى وروح الخلاص الفردي في الأوساط الشعبية، ونجاحها يتطلب جهداً حقيقياً على أكثر من صعيد، بدءا من توفير مناخ صحي وآمن يزيل ظواهر القمع والوصاية ويشجع أبناء الوطن الواحد على التواصل على قاعدة الهم المشترك ومبدأ التعاون والتكافل.

فلا يمكن الحديث عن مجتمع مدني حي في إطار دولة تسلطية بل يتطلب نجاح عملية الإحياء نقد وتغيير المناخ السياسي السائد وتوفير شرط جديد يزيح بعبع الخوف والرعب ويفتح شهية الناس إلى المشاركة في الشأن العام، جنباً إلى جنب مع أهمية نشر ثقافة الديمقراطية وتربية النفس والآخرين على التسامح واحترام ظواهر التعددية وحق الاختلاف وتخفيف حدة الاستقطابات والتوترات المجتمعية ونوازع التطرف والمغالاة، فعملية الإحياء لا تتطلب الدخول في مواجهات عنيفة وحادة، بل تعزيز طرائق الحوار والنقد وعوامل الضغط السياسي السلمي والتراكمي والتحتي. بما في ذلك تنشيط الدعوة لخلق تشابكات متنوعة بين أفراد المجتمع وفئاته المختلفة تنطلق من اعتبار مبدأ المواطنة دون غيره من الروابط العشائرية أو الطائفية أو القومية أو الحزبية هو مصدر الحقوق والواجبات وأساس العلاقة والمساواة، مما يقرب المسافات بين كتل مجتمعية تعيش حالة من التمحور النسبي على الذات أو يميزها حد من الخصوصية بسبب تفاوت وجوه همومها ومعاناتها، كقوى المعارضة بأطيافها المختلفة واصطفافاتها المتعددة، الشارع الديني والدائرون في فلك الإسلام السياسي، الوضع الكردي، وأعداد وفيرة من النشطاء والشخصيات المستقلة لا تزال محبطة من فشل تجاربها السابقة وبدأت تسعى نحو المشاركة، وكذلك قوى وفئات من داخل تركيبة الدولة ومؤسساتها.

صحيح أنالفعل الإحيائي في سوريا لم يختبر بما فيه الكفاية ولايزال في اتجاهه العام تطلعا معرفيا يحاول أن يكتشف المستوى التحتي والأعمق من مستويات التنظيم البشري، وصحيح أن ثمة صعوبات وعوائق عديدة، موضوعية وذاتية، تعترضه، لكن الصحيح أيضاً أنه حقق وباعتراف الجميع نجاحاً ملموساً في نشر ثقافة الديمقراطية وبناء حد أعلى من الثقة بين فئات المجتمع المختلفة، ولا يزال أمامه الكثير من العمل والجهد لطرح المزيد من المبادرات التي تغذي إيمان الناس بأنفسهم وبجدوى دورهم في الحياة العامة ولاستنباط المهمات البسيطة القادرة على استنهاض قوى المجتمع المدني وترميم ما تهمش من منظماته وتحرير ما أخضع منها.


المراجع

alawan.org

التصانيف

تاريخ  أحداث  أحداث جارية  مجتمع