ملحة عبدالله

الإذاعة فن محسوس يرتسم في المتخيلة ويتسرب إلى الوجدان ويعمل على التربية والرقي والذوق الرفيع، ذلك لما له من خصائص تخيلية تشف عن مكامن الحس والحدس طبقا لتسربه الوجداني ولوفرة تناوله في أي مكان وفي أي ظرف من الظروف وفي أي مكان من الأمكنة.

لم تكن الإذاعة وليدة آنية كوسيلة من وسائل البث المباشر، بل قد عهدناها قبل الفنون المتلفزة والرقمية وغير ذلك بكثير، وبرغم زخم القنوات وتعدد الفضائيات، إلا أننا لا نزال نجد لها عشاقها ومريديها، بل نجد أنها أكثر وعيا وأعمق ثقافة وأشد تركيزا، وأسرع حيوية وتفاعلا وجدانيا لما تحتويه من عنصر مهم ومميز وهو إثارة الخيال والسرد والحكي وكثير من آليات التلقي التي تصادر عليها الصورة المتلفزة، بالرغم من أننا في عصر يطلق عليه عصر الصورة!

تقول سهير جاد في هذا الصدد: إذا كان الفن الإذاعي قد اتجه إلى الصفوة المثقفة حين خصص إذاعات كاملة تقوم على الثقافة الرفيعة، فإن الفن الإذاعي المتجه إلى الجماهير العريضة حين يخصص برامج ثقافية يتوجه بها إلى الجماهير فإنه كذلك من خلال هذه البرامج يسعى إلى التقريب بين ثقافتين العلمية والأدبية، كنتيجة لما لوحظ من جهالة الأدباء بالعلم وجهالة العلماء بالأدب!

ومن هنا تكون الإذاعة دائما حمالة أوجه كما في البرامج المتلفزة، إلا أن الإذاعة تكون أثقل وزرا وأكثر تكثيفا وأقرب للوجدان فيما يعتمل فيه عنصر الخيال وقوة السرد اللتان هما أقصر الطرق للعاطفة والوجدان.
وفيما ذكرته سهير جاد عن علم وجهالة يتقلبان بين ثقافتين حين التلقي متأثرة برأي سيرتشارلس سنو في كتابه "الثقافتان والثورة العلمية" وكأنه يناقش تلك الفوارق بين من نشؤوا نشأة أدبية وبين من قضوا جُل وقتهم في حجرات المعامل فيقول: "برغم ما بينهما من عوامل التجانس والتشابه كفَّا عن اتصال بعضهما البعض، وآن الشقة الذهنية والخلقية والسيكولوجية قد بلغت من الاتساع درجة انهارت بسببها العوامل المشتركة بينهما كافة" إلا أن لكل قاعدة استثناء، حيث نجد فيزيائيين ومهندسين وأطباء ممن نزحوا من الساحات العلمية الجافة إلى سحر الثقافة وجاذبيتها، وعلى سبيل المثال الدكتور مصطفى محمود أو يوسف إدريس-رحمهما الله-، أو الدكتور شاهر النهاري وعصام خوقير وعبدالله مناع ورجاء الصانع وغيرهم كثير، مما يؤكد أن الصوت الداخلي لفطرية الإنسان المستفيضة جعله يتناغم مع آليات السرد التي أطلق عليها السير هربرت ريد -وهو فيلسوف ومؤرخ إنجليزي- الانزلاق الوجداني والتسرب الانفعالي وهنا يكمن السحر الإذاعي إذا ما اُستخدم ومارس فنونه بحرفية إذاعية كنشأتها الأولى التي تربى عليها عمالقة الفن والأدب.

ونحن هنا نتحدث عن فنون التلقي سواء مرئية أو مسموعة على مستوى الثقافة العربية كونها فنونا عابرة الحدود بلغة واحدة وهوية واحدة وأعراف وتقاليد وآمال وطموحات واحدة فلا نخص بلدا بعينه في هذا الصدد، وإنما نناقش هذا الفن ومدارات تلقيه وأثره على الذهنية العربية، وبصفة خاصة الفن الإذاعي الذي لا يزال له عشاقه ومستمعوه، حيث إنه فيما يبدو قد زحف عليه وأصابه ما أصاب الفن المتلفز، أو حتى الرقمي، كقنوات وفضائيات اتجهت بشكل كبير إلى ما يسمى بالثقافة الجماهيرية، ذلك إذا ما انقسمت الثقافة إلى ما يطلق عليها بالثقافة الرفيعة والثقافة الجماهيرية -بما يعني أن الثقافة الرفيعة أو الراقية هي "التي امتدحها دي توكفيل، وديهاميل بأنها العمل الدؤوب الذي تقدمه الموهبة العظيمة والعبقرية، وهي العمل الذي يحاول أن يصل إلى أقصى درجة أو أعلى درجة من أجل الفن. هذا العمل صنعته الصفوة المثقفة، أو تم صنعه تحت إشراف تلك الصفوة وهم قمة بين الرجال في مجالات التعليم والجماليات والتربية".

أما الثقافة الجماهيرية والتي أصبحت الآلة الدائرة في جميع الفنون ومنها التلفزة فهي إذا ما دققنا النظر في مدخلاتها ومخرجاتها فسنجد أنها "تشير إلى السلع الثقافية التي تنتج فقط من أجل السوق الجماهيرية، وهي سلع متماثلة ومتشابهة، لأنها تميل إلى إرضاء أذواق جمهور غير متنوع. ووفقا لـ الفيلسوف الفرنسي (ألكسي توكفيل) فإن هذه الثقافة الجماهيرية تجذب، لكنها ليست أصيلة تماما، لأنها تهدف إلى الاستهلاك الجماهيري، وليس إلى تحقيق الكمال".

إن الإذاعة فن محسوس يرتسم في المتخيلة ويتسرب إلى الوجدان ويعمل على التربية والرقي والذوق الرفيع، ذلك لما له من خصائص تخيلية تشف عن مكامن الحس والحدس طبقا لتسربه الوجداني ولوفرة تناوله في أي مكان وفي أي ظرف من الظروف وفي أي مكان من الأمكنة، فالاستماع إلى الكلمة من الراديو لا يحتاج إلى معرفة بأصول القراءة والكتابة للأفراد الأميين، كما أن المستمع يتفاعل هو وصوت المتحدث أو المذيع بفضل ما تثيره طريقة الإلقاء أو تنغيم الصوت من معان واستجابات ومشاعر التي يحاول الصوت أن ينقلها للمستمع، ولذا فإن خبراء الإعلام يؤكدون على هذه المزايا، كونها أكثر قدرة على الإيحاء، وأدعى إلى استقرار الأفكار أو المشاعر التي يحاول المذيع أن ينقلها إلى المستمع.

ولهذا فإن التكئة الأولى الآن -وفي ضوء هذا الانفلات الإعلامي الجماهيري الخاضع للتسليع ولآلية السوق- على الفن الإذاعي في صناعة الثقافة وصناعة الوعي فهو يصل إلى ثقافات متعددة باختلاف المجتمعات وتباينها ببرامجه الإعلامية والترويجية والتثقيفية، كما أنه فن متصل فالعالم الآن بات وحدة واحدة على مضمار التنافس الإعلامي ووظيفته.


المراجع

alarabiya.net

التصانيف

فكر   اصطلاحات    مصطلحات سياسية   العلوم الاجتماعية   الآداب