جميع الناس تقريباً على قناعة بأن التشوّش الذهني ظاهرة شائعة جداً في تركيا. ولهذا الحكم وجوه عديدة تثير الارتياح… فإذا عجزنا عن التفاهم مع أحد ما، أو واجهتنا فكرة لا نحبّذها، قلنا إن الشخص الذي أمامنا يشكو من تشوّش ذهني، الأمر الذي يريحنا.

ولكن بما أن القول بتشوّش أذهان الآخرين، يعني، في آخر المطاف، عدم فهمنا لهم، فنحن، في الحقيقة، إنما نقيّم الآخرين، ونصبح جزءاً من الجهل العام. من ناحية أخرى، أذهان الناس مشوّشة فعلاً، لأن تركيا ذات المعايير الاجتماعية والأخلاقية المنغلقة أصلاً، تمر، في السنوات العشر الأخيرة، بمرحلة من التغيّرات والتحولات السريعة إلى حد كبير. وتدفعنا هذه المرحلة جميعاً إلى تشتت فكري كبير، فنخرج من إطار وجهات نظرنا الشخصية المعيارية. ينتج عن هذا التشتت الفكري الذي يمر به الجميع، حالة من الفردنة الإجبارية، تنتج بدورها شعوراً من عدم الأمان يدفع إلى بذل الجهود لإعادة بناء الجماعة مجدداً، بشكل من الأشكال. غير أن التحولات تقلب رأساً على عقب بنى الجماعات القديمة… ومن الصعوبة بمكان العودة إلى رحم الجماعات القديمة نفسها، بعدما يقطع المرء مسافة معينة نحو الفردية. من جهة أخرى، بقدر ما لا توحي التحولات بمستقبل إيجابي لكل الناس، بقدر ما يؤدي الشعور بعدم الأمان إلى تقوقع على الهويات الإثنية والدينية، وإلى نزعة محافظة من نوع جديد تسجن الشخصية الفردية، لا غرابة في ظهورها…

لماذا الانتخابات الحالية مختلفة عن سابقاتها؟

ليس موضوع هذه المقالة التحليل الاجتماعي، بل هو تحليل سياسي يتناول حزب العدالة والتنمية؛ لكن الانطلاق من المجتمع مهم، لأنه لا يمكن إجراء تحليل صحيح للحزب المذكور بالاكتفاء بتحديد موقعه من المشهد السياسي القائم. ويعود سبب ذلك إلى أن تحولات السنوات العشر الأخيرة قد باعدت كثيراً بين الميدانين الاجتماعي والسياسي. ونتيجة ذلك أنه لدينا اليوم حزب وحيد يتمتع بتمثيل اجتماعي، على خلاف مجموع الأحزاب الأخرى، ألا وهو حزب العدالة والتنمية. وتقف في الجهة المقابلة مجموعة أحزاب دولة تشدد على العلمانية والقومية بمختلف أشكالهما، وتسعى، بقدر ابتعادها عن المجتمع، إلى الاستناد إلى قدرة تمثيلية إيديولوجية يقودها الجيش والمؤسسة القضائية. بعبارة أخرى، في الوقت الذي تنتج فيه التحوّلات في تركيا، في الشريحة الإسلامية خاصةً، فردانيةً توسّع حدود الجماعة وتعيد تعريف التديّن؛ يغذّي الانغلاق الماهوي العلماني - القومي، الأدوات السياسية للنزعة الدولتية، ويؤدي إلى انزياح المشهد السياسي انزياحاً يتمحور حول الدولة.

في وسط "مشوّش" إلى هذا الحد، نقف مجدداً وجهاً لوجه مع مسألة الساعة التي تتألف من بندين: يتعلق الأول بالسؤال عما إذا كان حزب العدالة والتنمية سيحتل موقع الوسط في المشهد السياسي، أو درجة اقترابه من هذا الوسط؛ في حين يتعلق الثاني بوجود أجندة سرية للحزب المذكور من عدمه، كما بمضمون هذه الأجندة. من وجهة نظر الشريحة العلمانية، والتي تفوح برائحة الجهل، فإن حزب العدالة والتنمية ما زال يقاوم الاقتراب من الوسط، وسبب ذلك الأجندة السياسية السرية التي يملكها، والتي تسعى إلى تحويل تركيا إلى دولة إسلامية على غرار إيران أو العربية السعودية. فإذا كانت الأجندة السرية على هذا النحو، من الطبيعي إذن أن يتعذر الاقتراب من الوسط. إذ معنى ذلك أن الحزب لا يريد أصلاً الاقتراب من موقع الوسط، ولن ينجح حتى لو أراد، لأن ذلك مناقض لطبيعته.

وجهة النظر هذه شائعة إلى حد كبير في جزء من الشريحة العلمانية، وليست يقينيتها، في الواقع، سوى مظهراً من مظاهر التشوّش الذهني لدى تلك الشريحة. فالتشوّش الذهني الحقيقي ليس وقوع المرء في تناقض، فنحن جميعاً يمكن أن نقع في التناقض والحيرة أمام الظواهر التي يصعب علينا فهمها. أما حين نطرح آراء يقينية في ظواهر غير مفهومة لدينا، فهذا يعني الوقوع في جهل إيديولوجي، ويعني في العمق أن عقلنا يعاني من صعوبات جدية في الإدراك.

لذلك، قد يكون مفيداً جداً، في تناولنا للمسألتين المذكورتين أعلاه، التركيز على فئة من العلمانيين تتيح لنا الملاحظة المخبرية، ومساءلة مفهوم "الوسط"، على سبيل المثال، هناك. اتجهت أصوات الجماعة الأرمنية، كما هو معروف، مع الانتقال إلى مرحلة تعدد الأحزاب، تقليدياً، إلى "يمين الوسط". وهكذا استقطب الخط الذي مثلته أحزاب الديموقراطي والعدالة والطريق القويم والوطن الأم على التوالي، أصوات الجماعة الأرمنية وصولاً إلى عقد التسعينات. بالمقابل، حصل خط حزب الشعب الجمهوري، من حين إلى آخر، على أصوات هذه الجماعة، ولكن بنسبة أقل. في حين أن الأحزاب ذات المزاج الإسلامي لم تحصل أبداً على تأييد الأرمن. من المؤكد أن ذلك يعود، تاريخياً، إلى البنية التراتبية للجماعات في الدولة العثمانية التي وضعت المسلمين السنة في مرتبة تعلو المسيحيين. ويمكننا أن نتوقع أيضاً أن حزباً إسلامي الهوى سيبدو شديد التنفير بالنسبة لأقليات تشكلت هوياتها بدالة الإيمان الديني.

لكننا أمام مشهد مختلف في الانتخابات الحالية: إذا استثنينا المرشح الأرمني المستقل "باسكن أوران"، سنرى أن نسبة مذهلة من أصوات الجماعة الأرمنية سوف تتجه لصالح حزب العدالة والتنمية، بالقياس إلى الأحزاب الأخرى. يبدو أن السبب الملموس لهذا التوجه يعود إلى الموقف المتميز الذي اتخذه الحزب المذكور في مسألة "قانون الأوقاف" كما إلى تأييده الحماسي الانضمام إلى الاتحاد الأوروبي. من جهة أخرى، يعتقد الأرمن أن مواقف حزب العدالة والتنمية هذه تتطابق مع تلك المنسوبة تاريخياً إلى يمين الوسط. وبالتالي فإن الأرمن، في الواقع، سوف يصوّتون، في الانتخابات الحالية أيضاً، لصالح يمين الوسط. لكن من يمثل يمين الوسط اليوم ويحتل موقعه، إنما هو حزب العدالة والتنمية.

أما إذا وجهنا أنظارنا إلى ما يقع خارج الجماعة الأرمنية، فسوف نرى نتائج تحوّل أكثر جذريةً وديمومة. بقدر ما غيّر مسار التحولات الشريحة الإسلامية، وجعلها جزءاً طبيعياً من المجال العام، بقدر ما انزاح الوسط المجتمعي نحو قاعدة أكثر محافظة وأكثر تحرراً. ولأن حزب العدالة والتنمية هو الامتداد الطبيعي للقاعدة المذكورة، فقد بات يحتل موقع الوسط بصورة تلقائية، ويعيد تشكيل الوسط بفضل قدرته التمثيلية. في حين أن الأحزاب الأخرى، تسعى إلى احتلال موقع وسطي موهوم، تحدده الدولة وتغذيه إيديولوجياً، ويزداد عدم مطابقته للواقع باطراد. في فترة كهذه، ابتعدت فيها الدولة عن المجتمع، هل ثمة ما هو أكثر طبيعية من عدم حصول أولئك المشدودين إلى "وسط" حددته الدولة، على أصوات المجتمع؟ إننا نواجه اليوم وضعاً مرت به تركيا من قبل في العام 1950 وفي أوائل الثمانينات: بوجود حزب حقيقي، تحقق الوسطية الاجتماعية إعادة تعريف الوسطية السياسية، وتنبذ الأحزاب العاجزة عن تحقيق تواصل مع المجتمع، خارج الموقع الوسطي. وبالتالي، فالسؤال اليوم ليس إلى أي حد سيقترب حزب العدالة والتنمية من الوسط، ذلك أن هذا الحزب يقف فعلاً بمفرده في قلب الموقع الوسطي الجديد الذي حددته الدينامية الاجتماعية… إذا كان ثمة حراك سياسي حول الموقع الوسطي، فهو يتجلى في ابتعاد الأحزاب الأخرى عنه.

من هم الذين يصيبهم حزب العدالة والتنمية بالهلع؟

أولئك الذين يحددون موقع الوسطية السياسي، بصورة مسبقة، على ضوء عقلية دولتية، وينتظرون، بعد ذلك، اقتراب حزب العدالة والتنمية منه، إنما يعكسون، في الواقع، جهلاً يستحيل معه إدراك الدينامية الاجتماعية وفهمها. ذلك أن موقع "الوسط"، في الديموقراطيات، محكوم بالتحديد الاجتماعي له، بصرف النظر عن الرغبات، وليس حالة إيديولوجية من شأن الدولة أن تتدخل في ترتيبها. لقد اعتادت تركيا على نظام "ذي ملامح ديموقراطية" أوحت به الوصاية العسكرية، إلى درجة أن هذه الأخيرة لا تكتفي بتوهم أنه نظام ديموقراطي، بل تتوقع، فوق ذلك، أن تتوافق التحولات الاجتماعية مع هذه الصورة العجيبة عن الديموقراطية.

فإذا وصلنا إلى السند الثاني للنقاش الشعبي حول حزب العدالة والتنمية، سوف نرى وجهة النظر الدولتية وقد أصيبت بالهلع في مواجهة قدرة الحزب المذكور على الحصول على كل هذه الأصوات، مع أنه لا يراه في موقع "الوسطية" الوهمي الذي أنشأه في ذهنه. ولا تستطيع وجهة النظر هذه أن تفكر بتدابير للحيلولة دون ذلك إلا بنوع من الإجراءات "الديموقراطية" المتعارضة مع النظام الديموقراطي. من جهة أخرى، يتم تحقيق "عقلنة" الهلع المذكور، بوساطة التوكيد على وجود "نوايا خفية" لحزب العدالة والتنمية. ذلك لأن خلاف ذلك سوف يعني خوف الجماعة العلمانية من الديموقراطية، الأمر الذي سيظهر بمظهر غير لائق… بعبارة أخرى، إن القول بوجود "أجندة سرية" لحزب العدالة والتنمية، ما هو إلا توكيد وهمي ضروري لتعرّف الجماعة العلمانية الدولتية ذاتها داخل الإطار الديموقراطي. أما حقيقة الأمر، فيجب البحث عن الأجندة السرية للحزب الحاكم فيما حققه فعلاً من إجراءات وأعمال، وما حاول تحقيقه وفشل بسبب الإعاقة. فإذا نظرنا إلى هذه اللوحة، فسوف نرى سلسلة من الخطوات نحو مزيد من الديموقراطية والحريات والرفاه الاجتماعي. أضيف منعاً لأي التباس: حزب العدالة والتنمية ليس حزباً ديموقراطياً، ولا يمكن عدّه كذلك بالنظر إلى العقلية السائدة فيه… ولكن حين نقارنه بالأحزاب الأخرى، سوف نجد أنه الحزب الأكثر مرونة والأكثر إحساساً بالمسؤولية، في مواجهة المطالب والتفضيلات الصادرة من القاعدة الاجتماعية. وبالتالي، يسعى هذا الحزب، في الواقع، إلى تطبيق سياسات تؤيدها تلك القاعدة. وتؤيد هذه الأخيرة، بخلاف توقعات الفئة العلمانية الدولتية، المواقف والسياسات المنحازة إلى الديموقراطية.

من الممكن، والحال هذه، القول إن أجندة الحزب الحاكم لا تنطوي على الكثير من الجوانب الخفية، وإنها تعكس أحلام المحافظين الراغبين بمزيد من الحرية في مواجهة الدولة. غير أن النقاش يستعيد حيويته هنا. لأنه ثمة قناعة أخرى شائعة تتعلق بوجود تيارات "متطرفة" داخل القاعدة الاجتماعية لحزب العدالة والتنمية. وفقاً لهذه القناعة، فإن التيارات المذكورة تشكل المحدد الحقيقي لتلك القاعدة ونواتها الصلبة، وتتصف بتمسك متشدد بحكم الشريعة الإسلامية، وترغب بشد الحزب، في أول فرصة سانحة، إلى خط رجعي؛ في حين أن قيادة الحزب، مدفوعةً إما بالخوف من فقدان الأصوات الانتخابية أو لأنها تحمل القناعات ذاتها أصلاً، تنتظر، في حالة روحية جاهزة، الوقت المناسب.

حين تكون الأجندة حول الديموقراطية…

لكن حزب العدالة والتنمية، مثله مثل أي حزب جماهيري، يقف، أمام ناخبيه، في موقع أكثر "وسطية". أي أن لهذا الحزب مثل غيره "طرفيْن". فإذا كان أحدهما يتشكل من أنصار الشريعة، كما يزعم، فمن المؤكد أن الطرف الثاني يتشكل، بصورة أكثر وضوحاً، من محافظين ذوي عقلية أكثر ديموقراطية، لا يجدون، في إنجازات الحزب، ما يرضيهم، فيما يتعلق بالديموقراطية وحقوق الإنسان والحريات. أكثر من ذلك، يظهر لنا الخط البياني لحركية الفئة المحافظة، في السنوات العشر الأخيرة، وبصورة لا تترك مجالاً للتشكيك، أن "أنصار الشريعة" ينزاحون نحو الوسط، وينزاح "أهل الوسط" نحو الديموقراطية. بعبارة أخرى، إذا أراد حزب العدالة والتنمية البقاء في السلطة وكسب الانتخابات اللاحقة، فسوف يتعيّن عليه أن يزداد ديموقراطية.ُ

في هذا الوضع، إلى أي طرف سيميل، برأيكم، حزب براغماتي كحزب العدالة والتنمية؟ أي تيار طرفي سيفضل، إذا لم يكن بوسعه تجاهل الأصوات الصادرة من قاعدته الاجتماعية؟ من الواضح أنه، على ضوء هذه الأسئلة، سيكون أكثر ديموقراطية بكثير، قياساً إلى اليوم. فإذا كانت "الأجندة السرية" لحزب من الأحزاب تعبّر عن الصورة التي سيظهر بها مستقبلاً، والأفكار التي سيدافع عنها، والسياسات التي يريد تطبيقها، فهذا يعني أن بوسعنا أن نقول بوضوح: نعم، لحزب العدالة والتنمية أجندة سرية، وهي، باختصار، مزيد من الديموقراطية…

ثمة اختبار بسيط لتوكيدنا هذا، ويتمثل في كل هذا الضيق الذي يظهره الجيش والقضاء الأعلى نحو حزب العدالة والتنمية، وفي كوننا شهوداً على محاولات انقلابية خجولة صادرة من البيروقراطية. فكروا معي، لو أن "الأجندة السرية" لحزب العدالة والتنمية كانت رجعية فعلاً، هل كانت ردة فعل الفئة الدولتية بهذا الخفر؟ ذلك أن إيديولوجيتنا الرسمية تمنح المشروعية للانقلاب العسكري في مواجهة الخطر الرجعي. ولكن ماذا لو كانت "الأجندة السرية" هي المزيد من الديموقراطية؟ كيف يمكن إضفاء المشروعية، في هذه الحالة، على الانقلاب العسكري؟ كيف يمكن اتخاذ سلوك يشي بأن النظام الجمهوري يعادي الديموقراطية، بصورة مكشوفة؟

خلاصة القول، تواجه الفئة الدولتية، اليوم، حزب العدالة والتنمية، لأنه يملك فعلاً أجندة سرية. لكن الأجندة المذكورة، تشير، لا إلى رجعية أكثر، بل بالعكس، إلى ديموقراطية أكثر، في حين أن الضغوط السياسية اللاأخلاقية، تكشف، اليوم، التلاعبات الفاشلة للفئة المذكورة التي لا تريد الديموقراطية.

إتيين محجوبيان: كاتب أرمني من تركيا. رئيس تحرير جريدة "آغوس" الأرمنية التي اغتيل رئيس تحريرها السابق هرانت دينك في أوائل هذه السنة.


المراجع

موسوعة الاوان

التصانيف

سياسة