مع إعادة تفعيل إرهاب حزب العمال الكردستاني، بهذا التوقيت الدقيق، أخذ المجتمع التركي يدخل في منعطف جديد تسيطر فيه العواطف بدلاً من العقل. سوف تتعمق نزعة العسكرة طرداً مع انسحاب المجتمع من العقل واستسلامه للمشاعر. سوف يكون إرسال الجيش إلى شمال العراق، الثمرة الأولى الظاهرة لهذا المسار الذي لا شك أن نتائجه السياسية والاقتصادية ستكون وخيمة. إنه في الوقت نفسه مسار النزعة القومية التركية، مدعومةً بالنزعة القومية الكردية، نحو الانغلاق على الذات والتحول إلى نظام شرق أوسطي. إن نقطة التحول الأكثر أهمية في تحويل الوطنية التركية إلى نزعة قومية، تتمثل في تخلي الأيديولوجيا الكمالية عن وعدها التغريبي. لكن عملية تحويل النزعة القومية إلى كتلة متماسكة لم تكتمل بعد. سوف تمتد هذه العملية إلى حين إيصال حكومة ائتلافية من حزبين قوميين في تركيا إلى السلطة. في الفترة القادمة، سيجد حزب الشعب الجمهوري وحزب الحركة القومية نفسيهما في سلة واحدة، وإذا امتلكا القوة الكافية، سيدفعان إلى المشاركة في ائتلاف حكومي. ائتلاف جديد معادي للغرب

يمكننا القول إن هذين الحزبين، وهما نسختان مختلفتان من الوطنية الكمالية، سيعودان، في الفترة القريبة القادمة، إلى "أصليهما". فحزب الشعب الجمهوري، الممثل للوطنية الكمالية المدينية والتغريبية، قد تخلى فعلاً منذ بعض الوقت، عن نزعته التغريبية لصالح هوية مدينية معادية للغرب، منغلقة على الذات. لقد تبلورت هذه الهوية الجديدة في الأدب السياسي باسم النزعة القومية. تنبع علمانية حزب الشعب الجمهوري من نفوذه الاجتماعي بين الفئات المدينية المتأوربة. أما حزب الحركة القومية، فسوف يحافظ على خطابه التقليدي المعادي للغرب والمنغلق على الذات، جنباً إلى جنب مع إزاحة العناصر الإسلامية فيه إلى مرتبة ثانوية. كان الحزب المذكور يمر، منذ بعض الوقت، بتشوّش فكري كبير أمام صعود الموجة القومية. ساعدت إعادة تفعيل حزب العمال الكردستاني في تبلور فكر حزب الحركة القومية. سوف يحتل هذا الحزب موقعه في اللوحة السياسية الجديدة، بوصفه الحزب الثالث المحتمل دخوله البرلمان.

خلاصة القول، إن اتخاذ حزب الشعب الجمهوري ذي السمة المدينية منحىً معادياً للغرب، واتخاذ حزب الحركة القومية المعادي للغرب منحىً مدينياً، سوف يتيحان توحيد الوطنية الكمالية في كتلة جديدة ذات نزعة قومية. هذه الكتلة الكمالية المعادية للغرب، التي ستتشكل من عناصر انتقائية من التيارات اليمينية واليسارية والإسلامية، سوف تستخدم علمانيتها في خدمة شرعنة عدائها للغرب. أما عناصر خطاب هذه الموجة الجديدة التي ستقف على قائمتي العلمانية والقومية، فهي موجودة فعلاً في التداول منذ بعض الوقت. إنها شعارات من نوع: "الكفاح الوطني من جديد" أو "معاداة الإمبريالية" وصور مصطفى كمال بالعمرة العسكرية. سوف تحوّل العقيدة القومية المنغلقة على الذات تركيا إلى حالة "شرق أوسطية" طالما احتقرتها الكمالية. لكنها لن تأخذ من الشرق الأوسط عناصره الإيجابية، بل ستسعى إلى استيراد إيديولوجيا خطيرة، أخذت تتحلل تدريجياً في الشرق الأوسط، هي الأيديولوجيا البعثية. البعثية التي وصلت إلى السلطة في بعض البلدان العربية وأوجدت أنظمة حكم أوامرية امتدت أحياناً إلى أكثر من ثلاثة عقود، لها خطاب "قومي يساري"، يبدو مألوفاً جداً في تركيا، في ضوء الميول التي تم دفعها إلى الصعود مؤخراً. لكن هذه "اليسارية" لا علاقة لها بالشعب، إذ إن الأيديولوجيا المذكورة تقوم على أساسي العلمانية والقومية. البعث هو اسم نظام يهيمن فيه خطاب العداء للإمبريالية، ويتم فيه التحكم المديد بالمجتمع بوساطة المشاعر، وتتخذ فيه القرارات باسم الشعب ومن أجله وعلى الرغم منه.

من بين الصور التي تحدد معالم الطريق إلى البعثية في تركيا، ثمة تفضيلات ومخاطر متنوعة كمناهضة الاتحاد الأوروبي ومعاداة المبشرين المسيحيين والإرهاب الموجه إلى المواطنين الأتراك من غير المسلمين وتحويل المحور الروسي – الصيني إلى قبلة سياسية. من بين مصادر الإلهام المهمة للبعثية، نرى الأنظمة الشمولية التي قامت في أوروبا في النصف الأول من القرن العشرين. ليصبح من الممكن توقع تحوّل هذا النظام العالم ثالثي المستلهم من الهتلرية والستالينية معاً، إلى نموذج تقتدي به الأيديولوجيا الكمالية – والمتأثرة هي الأخرى، نسبياً، بالنموذجين المذكورين الذين عاصرتهما، وإن اضطرت، بفعل المنظور التغريبي الذي اتخذته لنفسها، لمواجهة مركبات العصرنة كـ"الديموقراطية" – كان علينا أن نمر بمرحلة (الانقلاب الأبيض في) الثامن والعشرين من فبراير (1997). في مقالة نشرتها في جريدة الراديكال، في العام 1999، بعنوان: "العولمة وما بعد الكمالية"، كنت قد أشرت إلى أن الأيديولوجيا الكمالية سوف تنحو منحى الانغلاق على الذات، تحت يافطة السيادة القومية والعداء للإمبريالية؛ لكني، والحق يقال، لم أتوقع أبداً، مثلي مثل الجميع، أن ينتهي هذا المنحى إلى البعثية. إن ائتلاف "التفاحة الحمراء" الذي أشاح بوجهه عن الغرب والديموقراطية، يتقدم بسرعة نحو التحول إلى حزب البعث التركي. مختصر القول، إن علائم التودد إلى البعثية قد ظهرت في مرحلة الثامن والعشرين من فبراير، حين بدأ ضخ المشاعر القومية بوساطة مجموعات مختلفة. تقف تركيا اليوم على مفترق طرق. ترى في أي اتجاه ستخطو، في نهاية هذا الصيف، وهي تقف وجهاً لوجه مع خطر العسكرة الصريحة والتبعيث (Baathisation)؟ سيأتي الجواب على هذا السؤال، في جزء كبير منه، من الأغلبية الصامتة في المجتمع التركي التي تعطي الانطباع بأنها باتت تمتلك من الوعي ما يجعلها على استعداد لتقديم التضحيات التي لا بد منها من أجل الديموقراطية. هذه الأغلبية الصامتة إما أن تستسلم لسياسة التخويف، أو أن تدرك بأن المعركة التي تتطلب تقديم التضحيات، ليست معركة على السلطة، بقدر ما هي معركة من أجل الحرية، فتفعل ما تقتضيه.

أستاذ علم الاجتماع في جامعة ميتشيغان


المراجع

موسوعة الاوان

التصانيف

تاريخ  أحداث