عمير بن سعد أبوه سعد القارئ -رضي الله عنه- شهد المشاهد كلها مع الرسول -صلى الله عليه وسلم-حتى استشهد في معركة القادسية ، اصطحب ابنه عمير الى الرسول -صلى الله عليه وسلم- فبايع النبي وأسلم ، ومنذ ذلك الوقـت وعمير عابد مقيم في محـراب الله ، ودائما في الصفوف الأولى للمسلمين ، وكان المسلمون يلقبونه ( بنسيج وحده ).

قوة إيمانه

لقد كان له -رضي الله عنه-في قلوب الأصحاب مكانا وَوُداً فكان قرة أعينهم ، كما أن قوة إيمانه وصفاء سنه وعبير خصاله كان يجعله فرحة لكل من يجالسه ، ولم يكن يؤثر على دينه أحد ولا شيئا ، فقد سمع قريبا له ( جُلاس بن سويد بن الصامت ) يقول :( لئن كان الرجل صادقا ، لنحن شرٌّ من الحُمُر ) وكان يعني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ، وكان جُلاس دخل الإسلام رَهَبا ، سمع عمير بن سعد هذه العبارة فاغتاظ و احتار ، الغيظ أتى من واحد يزعم أنه من المسلمين ويقول ذلك عن الرسول -صلى الله عليه وسلم-بلهجة رديئة ، والحيرة أتت من مسئوليته تجاه هذا الذي سمع وأنكر ، أينقل ما سمع للرسول ؟ كيف والمجالس بالأمانة ؟ أيسكت عما سمع ؟

ولكن حيرته لم تطل ، وعلى الفور تصرف عمير كرجل قوي وكمؤمن تقي ، فقال لجُلاس :( والله يا جُلاس إنك لمن أحب الناس إلي ، وأحسنهم عندي يدا ، واعَزهم عليّ أن يُصيبه شيء يكرهه ، ولقد قلت الآن مقالة لو أذَعْتها عنك لآذتك ، ولو صمَتّ عليها ليهلكن ديني وإن حق الدين لأولى بالوفاء ، وإني مُبلغ رسول الله ما قلت ) وهكذا أدى عمير لأمانة المجالس حقها ، و أدى لدينه حقه ، كما أعطى لجُلاس الفرصة للرجوع الى الحق بيد أن جُلاس أخذته العزة بالإثم ، وغادر عمير المجلس وهو يقول :( لأبلغن رسول الله قبل أن ينزل وحي يُشركني في إثمك ) وبعث الرسول -صلى الله عليه وسلم- في طلب جُلاس فأنكر وحلف بالله كاذبا ، فنزلت آية تفصل بين الحق والباطل.

قال تعالى :( يحلفون بالله ما قالوا ، ولقد قالوا كلمة الكفر ، وكفروا بعد إسلامهم وهمّوا بما لم ينالوا ، وما نقموا إلا أن أغناهم الله ورسوله من فضله ، فإن يتوبوا يَكُ خيرا لهم ، و إن يتولّوْا يعذبهم الله عذابا أليما في الدنيا والآخرة ، وما لهم في الأرض من ولي ولا نصير ).

فاعترف جُلاس بمقاله واعتذر عن خطيئته ، وأخذ النبي بأُذُن عمير وقال له :( يا غُلام ، وَفَت أذُنك ، وصَدّقت ربّك ).

الولاية

اختار عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- عمير واليا على حمص ، وحاول أن يعتذر عمير ولكن ألزمه أمير المؤمنين بذلك ، فاستخار عمير ربه ومضى الى واجبه ، وفي حمص مضى عليه عام كامل ، لم يصل الى المدينة منه خراج بل ولم يَبْلُغ أمير المؤمنين منه كتاب ، فبعث عمر الى عمير -رضي الله عنهما- ليأتيه الى المدينة ،فأتى الى المدينة أشعث أغبر يكاد يقتلع خطاه من الأرض اقتلاعا من طول مالاقى من عناء ، على كتفه اليمنى جراب وقَصْعة ، وعلى كتفه اليسرى قِرْبة صغيرة فيها ماء ، وإنه ليتوكأ على عصا ، لا يئودها حمله الضامر الوهنان.

ودخل عمير على مجلس عمر وقال :( السلام عليك يا أمير المؤمنين ) ويرد عمر السلام ثم يسأله وقد آلمه ما رآه عليه من جهد وإعياء :( ما شأنك يا عمير ؟) فقال :( شأني ما ترى ، ألست تراني صحيح البدن ، طاهر الدم ، معي الدنيا أجُرُّها بقَرْنيها ؟) قال عمر :( وما معك ؟) قال عمير :( معي جرابي أحمل فيه زادي ، وقَصْعَتي آكل فيها ، وإداوتي أحمل فيها وضوئي وشرابي ، وعصاي أتوكأ عليها ، وأجاهد بها عدوّا إن عَرَض فوالله ما الدنيا إلا تَبعٌ لمتاعي ) قال عمر :( أجئت ماشيا ؟) قال عمير :( نعم ) قال عمر :( أو لم تجد من يعطيك دابة تركبها ؟) قال عمير :( إنهم لم يفعلوا ، وإني لم أسألهم ).

قال عمر :( فماذا عملت فيما عهدنا إليك به ؟) قال عمير :( أتيت البلد الذي بعثتني إليه ، فجمعت صُلَحَاء أهله ، وولّيتهم جِباية فَيْـئهـم وأموالهم ، حتى إذا جمعوها وضعتها في مواضعها ، ولو بقـي لك منها شيء لأتيتـك به ) فقال عمر :(فما جئتنا بشيء ؟) قال عميـر :( لا ) فصاح عمر وهو سعيد :( جدِّدوا لعمير عهدا ) وأجابه عمير :( تلك أيام قد خلت ، لا عَمِلتُ لك ولا لأحد بعدك ).

الأمانة

وبعد أن استأذن عُمير ورجع بيته على بعد أميال من المدينة ، قال عمر :( ما أراه إلا قد خاننا ) فبعث رجلاً يُقال له الحارث وأعطاه مئة دينار فقال :( انطلق إلى عُمير حين تنزل كأنّك ضيف ، فإن رأيتَ أثرَ شيء فأقبلْ ، وإن رأيتَ حالاً شديداً فادْفعْ إليه هذه المئة دينار ).

فانطلق الحارث ، فإذا هو بعُمير يُفلّي قميصـه إلى جنب حائط ، فسلّمَ عليه الرجـل فقال له عُمير :( انْزل رحمَك اللـه ) فنزل ثم سأله :( من أين جئت ؟) قال :( مـن المدينـة ) قال :( كيف تركـت أميـر المؤمنيـن ؟) قال :( صالِحـاً ) قال :( كيف تركـت المسلميـن ؟) قال :( صالحين ) قال :( أليس يُقيم الحدود -يعني عُمر-؟) قال :( بلى ، ضرب ابناً لهُ على فاحشة فمات من ضربه ) فقال عُمير :( اللهم أعِنْ عمرَ ، فإنّي لا أعلمه إلا شديداً حبّهُ لك.

فنزل الحارث ثلاثة أيام وليس لهم إلا قُرْصَةٌ من شعير ، كانوا يخصُّونه بها ويطوون حتى أتاهم الجهد ، فقال الحارث :( هذه الدنانير بعث بها أميرُ المؤمنين إليك فاستَعِنْ بها ) فصاح وقال :( لا حاجة لي فيها رُدَّها ) فقالت له امرأته :( إن احتجت إليها ، وإلا ضَعْها مَوَاضِعَها ) فقال عُمير :( والله ما لي شيء أجعلها فيه ) فشقّت المرأةُ أسفل درعها فأعطته خرقةً فجعلها فيها ، ثم خرج يُقسمها بين أبناء الشهداء والفقراء ، ثم رجع والرسول يظنّ أنه يُعطيه منها شيئاً فقال عُمير :( أقرىء منّي أمير المؤمنين السلام ).

فرجع الحارث إلى عمر قال :( ما رأيت ؟) قال :( رأيت يا أمير المؤمنين حالاً شديداً ) قال :( فما صنع بالدنانير ؟) قال :( لا أدري ) فأرسل عمر إلى عُمير وسأله :( ما صنعت بالدنانير ؟) قال :( قدّمتُها لنفسي ) قال :( رحمك الله ).

فضله

وبقي عمر بن الخطاب يتمنى ويقول :( وَدِدْتُ لو أن لي رجالا مثل عُمير أستعين بهم على أعمال المسلمين ) فقد كان عمير بحق ( نسيج وحده ) ، فقد كان يقول من فوق المنبر في حمص :( ألا إن الإسلام حائـط منيع ، وباب وثيـق ، فحائط الإسـلام العدل ، و بابه الحق ، فإذا نُقِـضَ الحائط وحُطّـم الباب استُفْتِـح الإسـلام ، ولا يزال الإسـلام منيعا ما اشتد السلطان ، وليست شدة السلطان قتلا بالسيف ولا ضربا بالسوط ، ولكن قضاء بالحـق ، وأخذاً بالعـدل ).


المراجع

موقع مملكة القصص الواقعية

التصانيف

قصص