معالجة أبو يعرب لخصومة التأسيس في العقلانية النقدية \"إن من يحب أن يعرف طريق المستقبل ينبغي عليه أن يصغي إلى الفلاسفة وليس إلى الساسة لأن ما يعلنه الفلاسفة اليوم هو ما سيصير عقيدة الغد.\"[1] حصل تحول كبير في دائرة اهتمام البروفيسير أبو يعرب المرزوقي من التركيز على الفكر الإغريقي في جانبه المنطقي والرياضي والفيزيائي ومحاولة فهم التراث العلمي العربي الإسلامي على ضوء ذلك إلى الانفتاح اللامشروط على الفكر الفلسفي الغربي في ثوبه الألماني وكذلك من مجرد محاورة أساطين الحكمة عند اليونان والتعليق على أمهات الكتب والبحث عن سبل للتنظير من داخل لغة الضاد وعلى الحوافي الدلالية للنص القرآني إلى القيام بالترجمة والنقل لزبدة المدارس العلوم الدقيقة في ثوبها الأنثربولوجي والإناسي واطلاعنا على عينات من الأطروحات الجامعية التي تعكس أهم المناظرات الدائرة في ساحة الفكر الغربي بين مدارس متباينة واتجاهات متصارعة. من المعلوم أن الانكباب على الترجمة لم يكن أمرا مستحدثا عند المرزوقي بل عادة قديمة مارسها منذ بدايته الأولى في تدريس الفلسفة وخاصة لما نقل إلى العربية بعض النصوص العلمية المنطقية لكل من كارناب وكواين ولما ترجم كتاب بيير دوهام عن \"مصادر الفلسفة العربية\" والذي أثث به مكانا للفكر العلمي والفلسفي العربي والإسلامي في تاريخ الفكر العالمي قبل أن ينجز رشدي راشد موسوعته الجبارة عن تاريخ العلوم العربية بسنوات وكان ذلك تماشيا من أبي يعرب مع قناعاته الإبستيمولوجية المبنية على الاستمرارية والتواصل كماهو الشأن عند دوهام والرافضة للقطيعة والانكسار كماهو الشأن عند غاستون باشلار وميشيل فوكو وألكسندر كورييه. السبق الفلسفي الذي بادر به الأستاذ المرزوقي ليس تأريخه للفلسفة العربية على ضوء الصراع حول منزلة الكلي بين التيار الواقعي والتيار الاسمي فهذا قد استقر من مناقشته لأطروحته المشهورة وقد ضمت لجنة المناقشة أنذاك الأستاذ محمد عابد الجابري ولا ترجمته لمحاضرة البابا بنيديكت ونشرها على صفحات أخبار الأدب المصرية وإنما ترجمته من الألمانية إلى العربية لأطروحة فلسفية تتناول خصومة بين مدرستين عريقتين في الفكر الغربي وهما مدرسة فرانكفورت ممثلة في العقلانية النقدية عند كارل أوتو آبل ومدرسة فيانا الوضعية الجديدة في فرعها الإبستيمولوجي النقدي ممثلة في دحضانية وتارخية كارل بوبر. تصرف المرزوقي في العنوان فجاء طويلا نسبيا وهو: الموجز في راهن الإشكاليات الفلسفية بعد أن كان عند المؤلف أدموندس أبسالون مشكل غاية التأسيس وعقلانية الفلسفة ويتطرق الكتاب الى مجابهة بين العقلانية النقدية ممثلة في ألبارت تلميذ كارل بوبر والتداولية المتعالية ممثلة في كارل أوتو آبل وحدد لنفسه هدفا معلنا في العنوان الفرعي وهو نحو علاج خصومة التأسيس في الفلسفة الألمانية وينقسم الكتاب إلى أربعة فصول، أبدى الكاتب بعض الملاحظات التمهيدية في الفصل الأول عن مسألة التأسيس في الفلسفة وتطرق إلى مفاهيم العقلانية والمنهج النقدي والمعايير والحجاج والتأسيس واعتمد على كارل بوبر ويرغن هابرماس ونقد الوضعانية والعلموية. عرض في الفصل الثاني مرتكزات النظرية النقدية وعرج النقدية بوصفها عقلانية واستشهد بمجادلة كارل بوبر مع حلقة فيانا واختراعه لمفهوم التكذيبية الذي يترجم أيضا في العربية وقابلية التكذيب ونراه يميز هنا بين التكذيبية والداحضية وينقد خيار منشهاوزن ويبين كونية التأسيس التداولي وزيف التأسيس بوصفه طلبا للأسس اليقينية لكونه تأسيسا وثوقيا. الفصل الثالث احتوى على مساءلة للتداولية المتعالية وما قامت به من تحويل للفلسفة الى جهة اللغة والنقاش تأثرا بهيدجر والألسنية وتدشينا للمنعرج اللغوي وهنا ظهر الحوار مع التقليد التحليلي الأنجلوساكسوني ممثلا في بيرس وبرزت مفاهيم الذات والتواصل والنموذج والأفعال الكلامية ومنطق الحجاج وأعيد تعريف العقلانية على أنها أخلاق للتواصل والحجاج وظهر مصطلح الحقيقة الاجماعية والتأسيس الأول والتأسيس الأخير. الفصل جاء وكأنه خاتمة جمع فيها المؤلف خلاصة بحثه بين المكاسب والمآخذ ليعيد وضع إشكالية خصومة التأسيس من جديد على طاولة البحث وليستنتج أن التداولية المتعالية عند آبل ماهي إلا عقلانية تقليدية وأنهلا تحتاج إلى إعادة تأسيس وتوسيع بواسطة العقلانية النقدية عند يرجو رينباي ويشيد في هذا المقام بإجراء التأسيس البنائي ونظرية الحجاج. يقدم أبو يعرب المرزوقي ترجمته للكتاب على هذا النحو:\" يقدم هذا الكتاب للقارئ العربي سواء كان مثقفا بالمعنى العام أو من المختصين فوائد كثيرة نذكر منها الفوائد التالية. فبالإضافة إلى دور المدخل المنهجي لإشكاليات الفكر الفلسفي والنقدي الحالي يمكن أن يعد الكتاب عرضا أمينا لأهم قضية في نظرية المعرفة وفي نظرية العقلانية خلال القرن العشرين غاية لكل قرون الحداثة الغربية. لذلك فالفائدة العلمية الخاصة والفائدة الفلسفية العامة من هذا الكتاب أمر لاشك فيه. وهو مدخل مفيد جدا للمتعلم وللمثقف سواء كان من ذوي الثقافة العلمية أو الأدبية\"[2], صورة الانسان المتعب التي تصدرت الغلاف في واجهته الأمامية لا تعبر عن حيوية ونزاعية النص الذي يكتنزه الكتاب ولغة الترجمة كانت مقبولة نسبيا ويمكن متابعتها ببعض عناء والدكتور مطالب بتوضيح عبارته أكثر ولكن المضمون كان شديد الكثافة لغزارة المفاهيم وتشابك الأفكار وتراصفها ودقة الدلالات التي تحتاج إلى المزيد من التبيئة والتهيئة الترابية على أرض الأديم العربي ولكن الرائع أن مثل هذا الكتاب يطلع الباحث العربي في الفلسفة عن صيغة الأطروحات الفلسفية في الجامعات الغربية ويمكنه من مقارنتها مع تردي وضعية البحث في الجامعات العربية. اللافت للنظر أن هذه الترجمة من الألمانية إلى العربية هي سبق فلسفي بكل ما في الكلمة من معنى واستكشاف كولومبسي للمجهول على غاية من الأهمية وصيد له فائدة كبيرة وفتح لنافذة للاغتناء من الثقافة الغربية وتوسيع مدى الرؤية لدى المثقف العربي خاصة وأنها جاءت من مدرسة ألمانية مهملة بعض الشيء في ظل سيطرة المدرسة الفرنسية في المغرب العربي وسوريا ولبنان وهيمنة المدرسة الأنجليزية على مصر والسودان ودول الخليج العربي والعراق، ونظرا كذلك أنه كتاب يتناول العقلانية النقدية وفلسفة اللغة في آخر تمظهراتهما وما أحوجنا إلى النقد العقلاني والعقل النقدي من أجل الاستئناف الحضاري. كما أن هذا الكتاب يعاود التفكير في قضية التأسيس في عصر يشهده التبشير بنهايته ويجهز على أسسه ويراجع بديهياته ومسلماه ولكنه ينتصر الى تأسيس من نوع آخر يستفيد من هذه الخصومة ويعول على التخاصب بين نظرية الحجاج ونظرية الأفعال الكلامية ومبدأ الداحضية من أجل صياغة الحقيقية الاجماعية. يقول أودموندس في نهاية المطاف:\" ان برنامج التأسيس البنائوي ...يمكن وصفه بموقف الوسط بين العقلانية النقدية والتداولية المتعالية في مسائل التأسيس\"[3]. هذا الجهد يستحق كل التقدير والاحترام ونأمل أن تعقبه منجزات أخرى تتجاوز دائرة الموجزات والومضات الى المناقشة النقدية المعمقة والتفصيلية لكبريات الأطروحات والنظريات الفلسفية الغربية التي تدعي الكونية بينما هي غارقة إلى حد النخاع في الخصوصية، فهل سيكتفي أبو يعرب المرزوقي أسوة بأبي حامد الغزالي بكتابة \"مقاصد الفلسفة الغربية\" أم أنه سيقوم بتبيان \"تهافت فلاسفة الغرب\" خاصة وأنهم شرعوا في الحديث عن إمكانية أفول حضارتهم وبلوغها زمن النهايات؟ أين سيكون مستودع القول الفلسفي في المرحلة القادمة؟ هل أن السكان الافتراضيين لحضارة اقرأ جاهزون لأن يكونوا الشعب المنادي على الفكر الفلسفي بالقدوم تصديقا لنبوءة الفيلسوف الفرنسي جيل دولوز أم أنهم مازالوا إلى حد الآن غارقين في ظلام القرون الوسطى ومماحكتها السوفسطائية العقيمة؟ فمتى يدركون أن ابن رشد ليس لم يقدر له أن يكون آخر الفلاسفة في حضارة اقرأ؟ المراجع: أدموندس أبسالون، الموجز في راهن الإشكاليات الفلسفية، المترجم أبو يعرب المرزوقي، الدار المتوسطية للنشر،أريانة، تونس،2009 إ. م. بوشنسكي، الفلسفة المعاصرة في أوروبا، سلسلة عالم المعرفة عدد 165 ، سبتمبر 1992 كاتب فلسفي [1] إ. م. بوشنسكي، الفلسفة المعاصرة في أوروبا، سلسلة عالم المعرفة عدد 165 ، سبتمبر 1992، ص17 (بتصرف) [2] أدموندس أبسالون، الموجز في راهن الإشكاليات الفلسفية، المترجم أبو يعرب المرزوقي، الدار المتوسطية للنشر،أريانة، تونس،2009، ص12 [3] أدموندس أبسالون، الموجز في راهن الاشكاليات الفلسفية، المترجم أبو يعرب المرزوقي، الدار المتوسطية للنشر،أريانة، تونس،2009، 344

المراجع

www.swmsa.net/articles.php?action=show&id=569موسوعة الأبحاث العلمية

التصانيف

الأبحاث