الحبيب عاشور
ولد النقابي الحبيب عاشور يوم 25 فيفري 1913 بقرية العباسية بجزيرة قرقنة. حصل على الشهادة الابتدائيّة سنة 1928 ثمّ واصل دراسته بالمعهد الفني في تخصّص شعبة الكهرباء. في سنة 1934، انخرط في النضال النقابي والوطني مسخّرا مجهوداته لخدمة القضيّة الوطنيّة، مقتنعا بأنّ استقلال بلاده لا يتحقق دون تأطير قوّته الشغيلة وتعبئتها لخوض المعارك الوطنيّة من أجل استرجاع حريّتها.
ولئن عايش الحبيب عاشور وضعا محليا اتسم بالغليان الشعبي، فقد وجد نفسه منذ انضمامه إلى صفوف الحزب الدستوري الجديد سنة 1935، في وسط مجموعة من القادة السياسيّين والنقابيين الذين استلهم منهم جملة من القيم الوطنيّة مثل التضحية ومبادئ الحريّة. ولمّا قرّر فرحات حشاد الانسلاخ عن الكنفدرالية العامة للشغل (CGT) أيّده الحبيب عاشور، فأسّسا اتّحاد النقابات المستقلة بالجنوب (1944)، وكان عاشور أوّل من بادر ببعث نقابة وطنيّة مستقلّة وهي نقابة البلدية بصفاقس التي انتخب كاتبا عاما لها. ويقول عاشور في هذا الصدد: "فقد أخذت ثقتنا تضعف إلى حدّ انعدمت كليّا بانعقاد مؤتمر (CGT) في سنة 1944، ووجدنا أنفسنا بين الشيوعيين والاشتراكيين... ولم نكن نرغب في التشيع لأحد الاتجاهين، فكان كل ّ واحد من الشقين يعمل على جلبنا إليه ليستعملنا وسيلة يحقّق بها أغراضه التي لا تتفق ومصلحة التونسيين آنذاك. لذلك قرّرنا في اجتماع مع حشّاد انعقد بصفاقس الانسلاخ من هذه المنظمة. وقد أقبلت على تطبيق هذا القرار جلّ النقابات التي كانت تمثل التونسيين... فأعددنا قانونها الأساسي وانخرط فيها أغلب العمّال..." ثم يضيف:"وجدنا إعانة كبرى من قبل علي البلهوان لتكوين النقابات بالشمال"، كما يؤكّد الحبيب عاشور نشاط الاتّحاد العام التونسي للشغل إلى جانب الحزب الدستوري الجديد من أجل تحرير تونس، متخذا بذلك الاضرابات سلاحا لفرض جملة من الإصلاحات على الإدارة الفرنسيّة. وفي هذا يقول:"إنّ العمل النقابي دعّم عمل الحزب وأجبر فرنسا على سماع كلمة بورقيبة". بل ذهب إلى أبعد من ذلك، فشارك في تهريب الزعيم بورقيبة الذي قضى ليلة في منزله إلى ليبيا والمشرق العربي عبر جزيرة قرقنة (مارس 1945).
ولمّا انتخب الحبيب عاشور كاتبا عاما للاتحاد الجهوي بصفاقس (1946 - 1947) لم يكن بمعزل عن جميع التحرّكات الشعبيّة المناهضة للسياسة الاستعماريّة، فقد كان يقف وراء تنظيمها، مثل مشاركته في إضراب 23 جانفي 1946 بصفاقس بعد قرار السلط الفرنسيّة استبعاد الاتحاد في اللجان التي تنظر معها في قضايا العمال، كما كان رمزا لمعركة 5 أوت 1947 الشهيرة بصفاقس من أجل الزيادة في الأجور، إذ أصيب عاشور برصاص جيش الاحتلال كما حوكم لمدّة خمس سنوات سجنا وعشر سنوات إبعادًا. ولئن ألغي هذا الحكم فإنّ الحبيب عاشور قد أُوقف يوم 19 جوان 1948 بتهمة حمل السّلاح والاعداد للثورة، ونفي بجهة زغوان ووضع تحت الرقابة الإداريّة. لكنّ ذلك لم يمنعه من تنظيم عدّة تحرّكات شعبيّة بمناطق مختلفة مثل جبل الجلود والنفيضة... وممّا يبرز العلاقة الوطيدة بين العمل النقابي والعمل الحزبي أنّه إثر محاكمة الحبيب عاشور بعد أحداث 5 أوت 1947 جنّد الحزب الدستوري الجديد ثلاثة محامين دستوريين للدفاع عن عاشور النقابي والدستوري في نفس الوقت (الزعيم صالح بن يوسف والهادي نويرة ومحمد مقني). ولمّا اعتقل الزعماء الدستوريون يوم 18 جانفي 1952 كان عاشور رهن الاعتقال بمنفاه بزغوان. وما يمكن أنّ نلاحظه في هذه الفترة السابقة للاستقلال، أن الشعور الوطني تنامى عند الحبيب عاشور فالتحم أكثر بالحزب الدستوري الجديد وفي أواخر 1954 عاد إلى صفاقس ليتولى من جديد الكتابة العامة للاتحاد الجهوي للشغل.
وقد قام بدور نشيط في الاعداد لمؤتمر الحزب الدستوري الجديد المنعقد بصفاقس في نوفمبر 1955 باعتباره مناضلا يحظى بثقة الزعيم بورقيبة. ويذكر محمد المصمودي في حديث لمجلّة "المغرب العربي" (1 - 7 1988) التخطيط الذي رسمه الحبيب عاشور بهدف البت حزبيا في الصراع مع صالح بن يوسف. ولمّا اتّسمت التجربة النقابيّة التونسيّة المستقلّة لعاشور بطابع مهني أساسا، إذ كانت منشغلة كليا بالدفاع عن مطالب العمّال المادية وتحسين مقدرتهم الشرائية، فإنّ هذا المفهوم النقابي "العاشوري" لم ينسجم مع الاتجاه الجديد الذي سلكته الحركة النقابيّة في العهد الأوّل للاستقلال بزعامة أحمد بن صالح. وقد كان لعاشور العديد من المآخذ على سياسة المنظمة الشغيلة في عهد أحمد بن صالح (1954 - 1956) فكان يعيب عليها تسييس الحركة النقابية التي حادت عن مبادئ حشاد وإهمالها جانب الدّفاع عن مطالب الشغالين وحقوقهم في سبيل غايات شخصيّة وطموحات سياسيّة.
ووظف الزعيم بورقيبة هذا الخلاف في المبادئ والأهداف النقابية بين أحمد بن صالح والحبيب عاشور لاضعاف الحركة النقابية التي بدت حسب رأيه حليفا متشدّدا للحزب الحاكم. وانعقد المؤتمر السادس للاتحاد العام التونسي للشغل بتونس بين 21 - 23 سبتمبر 1956 لحسم هذا الخلاف. ودعم الشق البورقيبي الحبيب عاشور، - خاصّة أنّه كان في هذه الفترة عضوا باللجنة المركزيّة للحزب الدستوري الجديد والديوان السياسي - وحدّ من دور أحمد بن صالح في هذه الانتخابات بحكم نواياه في تكوين حزب عمّالي. ونظرا إلى أهميّة هذا الحدث، عاد الزعيم بورقيبة خصّيصا من الخارج لحضور الجلسة الافتتاحيّة. إلاّ أنّ نتائج الانتخابات كانت مخيبة لتوقعات بورقيبة، إذ حصل أحمد بن صالح على أغلبيّة الأصوات (1278) في حين حصل الحبيب عاشور على 537 من جملة 1529. لكنّ عاشور اعتبر هذه الانتخابات غير ديمقراطيّة، مشكّكا في شرعيّتها وداعيا يوم 18 أكتوبر 1956 إلى تأسيس منظمة نقابيّة جديدة تحمل اسم الاتحاد التونسي للشغل، صحبة محمد كريم وعبد العزيز بوراوي ومحمد الغول، وكان مقرّها بنهج اليونان. وأعلن الحبيب عاشور أن ّ الغاية من هذا الانشقاق هي العودة بالحركة النقابيّة إلى مبادئ حشاد التي تقتضي الدّفاع عن مصالح الشغالين والعمل على تحسين ظروفهم دون الارتباط بأيّ حزب سياسي، ويهدف من وراء ذلك إلى إقصاء أحمد بن صالح أي عزل النزعة النقابية العمالية التي أصبح يخشاها الشق البورقيبي.
واقترح بعد ذلك عاشور ومؤيّدوه انعقاد مؤتمر استثنائي تكون فيه النيابات متساوية بين الاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للشغل، إلاّ أنّ الزعيم بورقيبة استغلّ سفر أحمد بن صالح إلى المغرب الأقصى لحضور ندوة نقابيّة مغاربيّة وتهجّم عليه في خطاب ألقاه بضاحية الملاسين وعوّضه بأحمد التليلي. وعاد في النهاية عاشور إلى الاتحاد العام التونسي للشغل وأصبح يشغل خطة أمين عام مساعد، وانعقد مؤتمر توحيدي في 22 سبتمبر 1957 لتتويج عمليّة التوحيد بين المنظمتين وكان ذلك بقاعة "البالمريوم" بالعاصمة. على أنّ أحمد التليلي أبعد عن الأمانة العامة للاتحاد العام التونسي للشغل وأصبح الحبيب عاشور منذ مارس 1963 أمينا عاما إلى حدود سنة 1965 مكلفا بالشؤون الاقتصاديّة والتعاضديات. ولئن انتخب عضوا بالديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري بعد مؤتمر بنزرت (أكتوبر 1964) فإنّ ذلك لم يمنع الحزب من طرده من مهامه سنة 1965، ويعود ذلك إلى ما سمّاه المحلّلون بقضيّة "البابور"، إذ احترقت الباخرة التابعة لشركة إحياء جزر قرقنة التي كان الحبيب عاشور الرئيس المدير العام لها، فرفعت عنه الحصانة البرلمانية وحوكم وأودع السجن في جويلية 1965 ولم يطلق سراحه إلاّ في سنة 1967، وعوّضه مؤقتا النوري البودالي ثم يوم 4 جويلية 1965 البشير بلاّغة إلى حدود 1970. وقد تمكّن الحبيب عاشور في هذه الفترة الأولى من تجربته النقابية بعد الاستقلال في مهمّة أمين عام مساعد (1957 - 1963) ثم أمين عام (1963 - 1965) من إنجاز الكثير من المشروعات الاقتصاديّة والاجتماعيّة كتعاضديّة التأمين وتعاضديّات الاستهلاك وتعاضديّة الصيد البحري وتعاضديّات النقل وإحداث بنك الشعب وبناء نزل أميلكار. وبحكم المكانة التي كان يحظى بها عاشور في الأوساط العمّالية باعتباره أّحد الزعماء التاريخيين للحركة النقابية، فقد دُعي ليكون على رأس الاتحاد العام التونسي للشغل منذ جانفي 1970 ولم تكن هذه الدّعوة إلاّ محاولة من الحكومة للسيطرة على الاضرابات التي استفحلت في قطاع السّكك الحديديّة سنة 1969. وبعد عقد مؤتمر خارق للعادة في ماي 1970 اتسمت عودة عاشور بالمظاهر التالية، خاصّة خلال النصف الأوّل من السبعينات:
تواصل تحالف قيادة الاتحاد مع الحزب الاشتراكي الدستوري والحكومة وهو ما جعل المكتب التنفيذي يرفض كل ّ الاضرابات العمالية ويعتبرها غير شرعية.
تأييد المكتب التنفيذي لسياسة الحكومة في جميع المجالات من ذلك تهجّم عاشور لمّا شارك في اجتماع نظمه الحزب الاشتراكي الدستوري بملعب المنزه على الطلبة اليساريين إثر أحداث فيفري 1972 بالجامعة التونسيّة.
ومنذ بداية تجربته النقابيّة الثانية (1970 - 1978) بصفة أّمين عام، أصبح عاشور عضوا باللجنة المركزيّة للحزب، كما اختير من أعضاء اللجنة العليا للحزب التي كلّفت بتنقيح الدستور والاعداد للمؤتمر القادم للحزب. لكنّ ذلك لم يمنع عاشور من الدّفاع عن استقلاليّة الاتّحاد، وقد أكّد في الندوة الدولية للشغل (جوان 1970) أنّ دور الاتحاد في التنمية هو معالجة الفقر وتحسين الانتاج وتوزيع الثروة، وتحسين ظروف عيش العمّال، وتعميم الضمانات الاجتماعيّة، كما ألحّ على ضرورة ارتباط الحريات المدنيّة بالحقوق النقابيّة. وتحوّل في ماي 1973 إلى فرنسا بهدف النظر في وضعيّة العمال، مسهما بذلك في بعث مكاتب نقابيّة تونسيّة بفرنسا. لكنّ هذا التحالف بين الحزب الدستوري والاتحاد بدأ يتصدّع منذ أواخر 1975 وبداية 1976, إذ تعدّدت الاضرابات العمّالية، مثل إضراب عمّال الشركة القوميّة للنقل في صائفة 1976 (سجّلت هذه السنة 372 إضرابا). ولئن سعى عاشور إلى احتواء هذه الاضرابات بتكثيف لقاءاته مع أعضاء المكاتب والاتحادات الجهويّة فإنّ ذلك لم يمنع اندلاع أحداث 26 جانفي 1978، وقد اتهم الحبيب عاشور الذي استقال من الأمانة العامة منذ بداية جانفي 1978 ومن الديوان السياسي واللجنة المركزيّة بالانحراف والابتعاد عن قيم المنظمة ومبادئها والسعي إلى قطع صلتها بالحزب، فزجّ به في السّجن ولم يطلق سراحه إلاّ في أوت 1979.
وانعقد مؤتمر استثنائي للاتحاد العام التونسي للشغل في فيفري 1978, سجّل عودة النقابيين المتمسّكين بتحالف الاتحاد مع حزب الدستور أمثال فرحات الدشراوي والحبيب الشاوش وأحمد عمارة وأصبح التيجاني عبيد أمينا عاما جديدا وعضوا بالديوان السياسي للحزب الاشتراكي الدستوري. وتعدّ هذه الفترة مهمّة على المستوى الاجتماعي، إذ سنّت عدّة قوانين لفائدة الشغيلة، وقد أسهم عاشور بقسط وافر في إنجاز تحوّل في صلب علاقات الشغل: من ذلك تنظيم العلاقات المهنية بين ممثلي الأعراف والعمال على نحو ديمقراطي، وقد انسجم مع خيارات الحزب الداعية في هذا الظرف إلى الخروج من التخلف والتبعية الاقتصاديّة ولخلق سلم اجتماعية، عمّم عاشور سنة 1975 التقاعد على كافة العمال وأسهم في حل أزمة السّكن، كلّ ذلك مع مراعاة الموازنة بين الأجور والأسعار. ولم يعد الزعيم النقابي الحبيب عاشور إلى نشاطه بالاتحاد العام التونسي للشغل إلاّ في أواخر سنة 1981 حين تشكّلت حكومة محمد مزالي (أفريل 1980)، فعيّن عاشور أمينا عاما باتحاد الشغل وأمينا عاما مساعدا بالكنفدرالية العمالية للنقابات الحرة إلى حدود سنة 1985 وقد تزامن ذلك مع أزمة اقتصاديّة اجتاحت جهاز الدولة ومؤسّساتها، وبحكم معارضة عاشور للسياسة الاجتماعيّة للحكومة زجّ به في السّجن. وقد كتب رسالة توضيحيّة إلى الرئيس ردّا على خطابه يوم غرّة ماي 1986 الذي يقول فيه :" لقد ناضلنا معا من أجل تحرير تونس من نير الاحتلال وعملنا جنبا إلى جنب دون تمييز بين دستوريين ونقابيين حتى إنّ الحبيب عاشور كان عضوا بالمكتب السياسي الذي لم يغادره إلا حينما بدأ يركب رأسه من أجل خلافتي تحت عبارات قالها محمد المصمودي..." فردّ عاشور قائلا: "... سيّدي الرئيس... (لقد) أتحتم لي بتصريحكم إنارة ماض كان معتّما وشديد الالتباس... لقد توالت عليّ هذه النكبات منذ سنة 1965 ثم سنة 1978 والان أيضا. أنتم سيدي الرئيس الذي تعرفونني أكثر من غيركم في هذا البلد، أنتم تعرفون ماذا فعلت إلى جانبكم في سبيل البلاد ومن أجلكم أنتم بالذات بتجنيبكم أشدّ المخاطر في الظروف التي كنتم فيها في عزلة تامة باقتراحي عليكم عقد مؤتمر في صفاقس وبسهري على تنظيمه وأمنه وقد أخذنا دائما في عملنا النقابي بالاعتبار المصلحة العليا للوطن...". ولئن أطلق سراحه في أواخر سنة 1987 فإنّ عاشور قد اعتزل العمل النقابي إلى أنّ توفي يوم 14 مارس 1999 بقرقنة حيث دفن. وقد نشر قبل وفاته الجزء الأوّل من مذكراته بعنوان "حياتي السياسيّة والنقابيّة". تونس، دار أليف للنشر، 1989 (بالفرنسيّة).
المراجع
www.mawsouaa.tn
التصانيف
نقابيون تونسيون سياسيون تونسيون مواليد 1913 وفيات 1999 العلوم الاجتماعية