تن القرّاء الكرد بسيرة الصبا وبنفيرها العالي، وقد طلب كاتبان كرديان من سليم بركات إكمالها، يدفعهما إلى اشتهائها الرغب المضاعف: الحنين إلى الفردوس المفقود، وريشة بركات التي جعلت من الفردوس فردوسين. يريدان منه تجميد حياته عند فترة اليفاع وتحنيط أدبه عند سيرتها. استطاب الكاوبوي الكردي مشاهد العراك والحرائق والقنص. أغلبهم لم يتمتع ولم يفهم سوى السيرتين، حيث جمال العبارة بلا إفراط والمباشرة بلا تفريط.
إنها سيرة أي صبي كردي وكل صبي كردي. الروايات التالية هي سير أيضا، لكنها روائية وعمارات أدبية شاهقة، متينة الأبواب، سرّية الغرف، ذات دهاليز وسراديب لا يدخلها إلا المغامرون خوفا من وحوش المعنى. أدب بركات لا يحبّ قراء "البلاج" الذين يقرؤون لتسمير البشرة أو لتنعيس العين. هؤلاء القراء يذكرون بالطرفة الشهيرة التي تقول: إن الحكومة البعثية العراقية اجتمعت للمفاوضة مع زعماء الأكراد على نفط كركوك وتوزيعه، فاقترح البعثيون نسبة خمسين بالمائة لكل طرف، فرفض الكرد واقترحوا نسبتهم: برميل لنا وبرميل لكم..
الكرد يريدون بركات مثلهم، في مرحلة الصبا والطفولة الدائمة، يحمل الفأس بيد والمنجل باليد الأخرى، يسبّق اسم الزعيم الكردي بلقب، أو يشفعه بصفة: الزعيم الخالد، المام جلال، العم اوجلان… فإن غفل، كان له بالمرصاد الفأس أو المنجل… من المعروف أن بركات لا يشارك في نشاطات كرد المنفى السياسية، ليس لنقص في ولائه "الوطني"، بل لأنه (وحشي، نفور)، كما قال له محمود درويش في بيت أدونيس.
يريدون منه أن يغلّ نفسه بالأغلال، أو يضع كمامة على فمه في المظاهرات الكردية في أوروبا، احتجاجا على استمرار اعتقال زعيم كردي. ربما لا يحب بركات الزعماء؟ ربما يحب الرؤساء؟ ربما يفضل الرئيسات (رواية الأختام والسديم)، ربما ليس جمهوريا ولا ملكيا، فلا عزاء للمنفيين السرمديين، فقد ولد منفيا وعاش منفيا، وربما يموت منفيا، بلا صوت سياسي… ينسون انه "أب" أدبي، وعم سردي، و"مام" ثورة شعرية لا دماء فيها، لكن أسراها المدللين كثر، وهو ما يحاول إثباته الكاتب الكردي إبراهيم محمود في كتاب أصدره حديثا عنوانه: قتل الأب في الأدب- سليم بركات نموذجا، فيصيب أو يخطئ.
هناك مشكلة أخرى، فبعض الكتاب المقيمين في الغرب، والذين يكتبون بالكردية، يتحرجون من التعاطي معه، أو "الاعتراف به" لأنه يكتب ويتكلم بالعربية: هذا انتقاص لقدرنا، نذهب إليه مع مترجم | .. لن نذهب إلى هذا المستعرب، لأنه لن يأتي إلينا.
يقول الكاتب الكردي الأول: أنا موهوب، أنا أهم منه.. الأوربيون ينقلونني إلى المنتديات الثقافية بالطائرة. الكاتب الثاني يقول: لا تخلو زاوية كلمات متقاطعة في مجلة الشعب الكردية الصادرة في تركيا بالكردية، من اسمي، مقطرا كالعسل حرفا حرفا: كاتب قصصي وروائي كردي شهير. يقول الثاني وهو يتلمس فواكه بلاستيكية جاءته بالبريد المضمون من الديار: كاكا.. هذا ليس كاتبا كرديا، الكاتب الكردي هو الذي يكتب بالكردية ويفكر بالكردية ويعمل للهموم الكردية، ويعمل على تحقيق الأهداف الكردية. تحت راية العم…
الكاتب الأول يشهر منجله: لا، سنختلف، بل تحت راية الخال.. يتدخل الكاتب الثالث الضيف، الذي يكتب باللغتين، مقاطعا، قبل أن تتشابك فؤوس الأخوال مع مناجل الأعمام، وقد اقتنع بحجج الكاتبين القوية، فيقول: لا قصب لا دولة لا بردي، وفوق الهم والضيم بركاتنا لا يحكي بالكردي.
يحتدم الجدال بين فقهاء الأدب، وفقهاء الأنساب، وفقهاء.. الظلام "المثقفين"، فتتكشف كل عيوب بركات القومية و"الأخلاقية": يظهر "بالشيال" في قناة كبيرة مثل الجزيرة - يقصد برنامج في "موعد مع المهجر" في حلقته الأولى - لو كان الوقت صيفا لكان معذورا؟ لو كان اللقاء على الساحل لكان مباحا؟ - بل الأنكى انه يتعالى على الظهور في القنوات الكردية..
— لم يشارك برأيه في الأحداث الاذارية..
— أما أنا فأشبعت المحافظ المسؤول عن الأحداث شتماً وسباً..
— فليكتب عن الكرد الشهداء بدلا من الموتى المبتدئين من الإغريق والجلالقة، بربك هل سمعت بموتى مبتدئين؟ فليعمل دورة في لغته الأم.
يستمر الجدال حول سليم بركات الذي لا يشبه هؤلاء الفحول، النحارير، غريب مثل ( نبات الأرض البعل). إن كان يشبه أحدا فبطله بيكاس الذي لا يفهمه أحد، حتى أهله، أو يشبه شجرة الزيتون الوحيدة في فقهاء الظلام التي تموت من وحشتها في بيتها، أو مم آزاد الذي ينقلب ابن اوى في ليل الريش، الحيوانات لا تتهم أبناء جنسها إذا اختلفت معها، بالخيانة.
إبراهيم محمود أيضا، في كتابه المذكور، يستعمل ميزانا مشابها باعتباره أن قصيدة محمود درويش "ليس للكردي إلا الريح"، هي رد دين على قصيدة سليم بركات الشهيرة "محمود درويش" | | "تنفيط" العواطف جار على قدم وساق: قصيدة مقابل قصيدة ..برميل مقابل برميل..والحرب والعواطف سجال أو إعادة مال؟
وربما لا يقدّر بركات أوزان وعلو أكعاب هؤلاء الكتاب المحلقين بالطائرات الخاصة أو الحائمين في مربعات الكلمات المتقاطعة لأنه لا يقرأ بالكردية، فقد أذهبت رياح المنافي بالكردية نطقا. وهم أيضا لا يستطيعون تخوينه، إذا رموه في الجب ستمضي أحقاب قبل أن تمنّ الأرحام الكردية بموهبة مشابهة، أو تميل السنابل على كردي مثله. أحس الكرد بالانتعاش عندما كتب سليم بركات نصّ "شعب في حقول الرماية" المباشر بعنوانه ومادته، فهم يبحثون عن أب سردي.. فاليتم الكردي الطويل لن تشفي جراحه دولة، الدولة السياسية خبز والدول الأدبية والغنائية والشعرية فواكه وحلوى.. وقد تغني الدولة الأدبية عن السياسية، إذا كان مواطنوها نباتيين.. تلك حالة خاصة.
لبركات محبون وعشاق وسلالة ومعطف يحاول الكثيرون التدثر به، بعض الأدباء يكتفي بفضل صحبته، للتباهي بها ما دام القلم يعمل بالزيت لا بالحبر.
قدّم كاتب كردي تعريفا سريعا، في إحدى الصحف العربية، بدورية كردية أدبية ثقافية أصدرت عددا خاصا عن بركات، وتهكّم على مساهمات كرد المنفى التي اكتفت بالتباهي بصحبة بركات وجواره وإرسال تحيات بطعم البرتقال إليه، أو قرع الأنخاب أو دق الصور التذكارية معه في الظهيرة. مساهمات تذكر بالطرفة التي قالت النملة فيها للفيل وهما يمشيان فوق الجسر: أنه يهتز تحت أقدامنا |
فقامت المجلة ولم تقعد: خائن، مرتد، فكاهي.. لن ننشر له في مجلتنا الغراء الفصلية (التي تصدر كل ثلاث سنوات مرة)، سننفيه من دولتنا القادمة، لن نعطيه مثقالا من براميل كركوك وزيتها المقدس الذي سيخصص كله لمجلات محجلة تقود تحريرها هيئة مجحفلة يبلغ عددها خمس عشرة نسمة |
لا نشكّ بحب رئيس تحرير المجلة الغراء الموقرة، لقامة سليم الأدبية وربما لأدبه. فقلم رئيس التحرير لا يقول شيئا عن أدب سليم ولا حتى عن سليم نفسه. والمثال الذي سنورده مثال طيب على "حسن الصحبة" وعلى استبداد جملة بركات بجملة نصه الركيكة إلى درجة العبودية الأسلوبية. "الشهادة" الفاضلة توحي بندية النملة والفيل، بلا أي شك: "أخاف الكتابة عن أخي، وابن عمي، وصديقي، وشريكي، وقريبي أيضا، سليم بركات. في ظهيرة كل يوم، تماما في الثانية عشرة، اسمع إليه ويسمع إلي، في تدوين كل منا لرائحة الطهو الكتابي ومذاق الظهيرة بما أسميناه "نوش" الظهيرة، كل يحتسي كأسه في ستوكهولم وغوتنبرغ".
يقول المثل الكردي: تشرب النملة مع الفيل نخب الظهيرة فتظن ظل الفيل ظلها |
المراجع
موسوعة الاوان
التصانيف
فنون أدب
|