" الجمهوريّ هو من رضع مع حليب أمّه حبَّ وطنه أي القوانين والحرّية.." ج.ج. روسّو

" الجمهوريّ شرابٌ مسكرٌ أو نبيذ العنب أتتْ عليه ثلاث سنين.." القاموس المحيط

مازلت أعتقد أنّ مريم بطلة مسرحيّة "خمسون" للفاضل الجعايبي هي أحسن من يعبّر عن حالة تونس اليوم. وللتمثيل، فقط، فإنّ المَشَابِهَ بينهما كثيرة. تونس الواقفة برشاقةٍ، قدماها تنغرس في رمال الصحراء وخاصرتها تتمنطق بسلاسل السباسب وجيدها المرفوع الشامخ إلى الوطن القبليّ ووجهها في رأس الرجاء الأبيض تنظر صوب البحر نظرة فيها من الأمل والدعة ما فيها من الألم والحيرة. وكذلك مريم (الممثّلة جليلة بكّار) هذه المحامية الخمسينيّة عمرها من عمر إعلان الجمهوريّة. تلك المرأةالعصريّة التي دخل والدها السجن بجريرة نصرة الزعيم صالح بن يوسف ذي التوجّه العروبيّ، وإلى السجن ذاته مضى زوجها بتهمة الشيوعيّة، وتدخل ابنتها السجن لأنّها إسلاميّة.

تختصر مريم، وحدها، تاريخ تونس المعاصر، وتقف أيضا لوحدها، في مواجهة كل أشكال التطرّف: زوجها الذي أخلد إلى الصمت وإلى الأبد حين لبست ابنته الحجاب. ابنتها وإخوانها الذين تورّطوا في حالة فصاميّة غيبيّة تتلفّع بالردّة والظلاميّة، وأخيراً السلطة القائمة وما بنت عليه قوّتها من جهاز أمنيّ.

على مسرح فقير كالمسرح الذي اختار الفاضل الجعايبي وجليلة بكّار وفي خطاب جماليّ صدم الكثير ممّن تعوّد لحظات التجريب في "مسرح فاميليا" كانت الصورة على ضبابيّتها دالّة موحية وكانت خمسون عامًا من عمر تونس الحديثة تمرّ متوهّجة دامية حالمة متوتّرة. والأساس، بعد كلّ هذا، أنّ الحصيلة وكشف الحساب يبقيان الباب مفتوحا على الأمل بالمستقبل (لم أفهم لمَ لم يهتبل القائمون على مهرجان قرطاج المناسبة لبرمجة "خمسون" ليلةَ 25 – 7- 2007 عوض ذلك الكوكتيل المملّ من الأغاني "الوطنيّة ").

اخترت هذه البداية حتّى لا أهجم على موضوع الجمهوريّة في تونس، وهو موضوع خاض فيه، هذه الأيّام، المؤرّخون والقانونيّون والمناضلون السياسيّون وطرح فيه أكثر من 2500 مثقّف ومبدع بيانًا بالمناسبة، وأنا للأسف جئتُ على سَاقَتِهِم، متأخّرا كالعادة، فكان لابدّ من تخيّر زاوية أخرى لمقاربةٍ لتكن مثلاً من قبيل الهوامش على الذكرى الخمسين لإعلان الجمهوريّة.

لم يكن الباي محمّد الأمين يعلم، من خلال إمضائه على المرسوم العليّ الذي ينصّ على إحداث "مجلس قومي تأسيسي" بُعيد توقيع معاهدة الاستقلال يوم 20 مار س 1956، أنه كان يمضي على نهاية سلطته. وما أسرع ما جرت المقادير إلى مستقرّها حتّى كان مساء 25 يوليو من سنة 1957 حين صادق هذا المجلس بعينه على إلغاء الملكيّة وإنهاء عهود العائلة الحسينيّة بتونس (من 1705 إلى 1957)، وليمضي محمّد الأمين باي، آخر البايات الحسينييّن، إلى إقامته الجبريّة في ضاحية منّوبة غرب العاصمة التونسيّة.

وجد التونسيّون في الإعلان خطابا جديدا لم يكن لهم به سابق عهد: أمّة تونسيّة، سيادة الشعب، النظام الديمقراطي، الدستور.. وكان النصّ على قصره قويّا حازما ثابتا، جاء ليعلن: بسم اللّه الرحمان الرحيم

نحن نوّاب الأمة التونسية أعضاء المجلس القومي التأسيسي:

بمقتضى مالنا من نفوذ كامل مستمدّ من الشعب.

وتدعيما لأركان استقلال الدولة وسيادة الشعب وسيرًا في طريق النظام الديمقراطي الذي هو وجهة المجلس في تسطير الدستور.

نتّخذ باسم الشعب القرار التالي النافذ المفعول حالاّ.

أوّلا: نلغي النظام الملكيّ إلغاءً تامّا.

ثانيًا : نعلن أنّ تونس دولة جمهوريّة.

كان النصّ، وقد اقتصرنا على فصليْه الإجرائييْن دون فصليْه الترتيبييْن، على قصره ثابتا حازما، وفي الآن نفسه كان مباغتا مفاجئا وملتبسا أيضا. فقبل هذا اللّقاء بدقائق معدودات من إلقاء رئيس المجلس جلّولي فارس الإعلان المذكور كانت وجهة المجتمعين غير معلنةٍ، الخطاب الظاهر قبل هذا الميعاد، وعلى لسان الزعيم بورقيبة نفسه كان نحو المحافظة على عرش الباي ولكن في صيغة ملكيّة دستوريّة، ووجهة أعضاء "الأمّة" كانت، بالمثل، متردّدة وهذا ما يشهد به نائب رئيس المجلس القوميّ التأسيسيّ السيد أحمد بن صالح ذو الوزارات في الستّينات. على أنّ المفاجأة كانت من خلال تدخّلات النوّاب المنادية بالجمهوريّة فحزم جلّولي فارس أمره ليقرأ نصّ إعلان الجمهوريّة الذي يدّعي أحمد بن صالح نسبة حقوق تأليفه إليه.

لم يكن هذا الحزم والثبات والمباغتة هي السمات الوحيدة لولادة هذا النصّ، وإنّما هناك سمة أخرى أدلّ. هذه السمة التي ستبدو في ظاهر الأمر محايدة، خلوا من أيّ دلالة خاصّة، هي سمة الالتباس.

يستهلّ أعضاء المجلس القوميّ التأسيسيّ إعلانهم باسم اللّه. ولي أنْ أفهم منها أنّهم يردّون الحاكميّة للّه. ثمّ يعطفون في المتن بأنّهم يتكلّمون باسم الشعب فينسبون الحاكميّة أو الحكم والسيادة للشعب. من هنا، ومن هذه الكوة الصغيرة يبدأ التعايش الصعب القائم على المدافعة والمنازعة وينشأ التساكن القائم على الحيف والضيم. من هذه الكوّة الصغيرة ألمح علامة، وإنْ تكنْ هيّنةً لدى البعض، على مآزق الحداثة السياسيّة أو على التحدّيات التي تعترض مشاريع استنبات قيم الجمهوريّة والديمقراطيّة في تربةٍ ألفتْ ضروبا أخرى من القيم والنظم.

لا أريد أنْ أميل إلى العدميّة حين أقول إنّ الالتباس التاريخيّ الماثل في التجربة السياسيّة العربيّة، وعلى تفاوت بين صيغها مشرقا ومغربا، يسارا ويمينا، عقائديّة كانت أو ليبراليّة مردّه هذا التدافع والتنازع بيْن منظومتيْن تصدران عن إبستيميّتيْن متباينتيْن: منظومة حسمت أمرها فأحدثت إصلاحها الدينيّ وأنجزت ثورتها الثقافيّة من خلال التنوير وتحمّلت تداعيات ثورتها على الاستبداد ومنظومة مقابلة ما تزال ممزّقة بين اتّجاه لا يرى من حاجة إلى الحيرة والبحث والسؤال لأنّ الحلّ موجود في الماضي، واتّجاه آخر يرى أنّ تحديث المجتمعات العربيّة وعقلنة نظمها الحاكمة لا يمكن إلاّ من خلال القطع الجذريّ مع هذا القديم الماضي. لا، ولا أريد أن أحمّل وزر التخبّط والتململ والبلبلة لمن لا بواكيَ له اليوم أعني اللّغة العربيّة. وإنّما أنا بصدد زاوية من المشكلة منظورا إليها، كما قلت، من كوّة صغيرة.

السائد أنْ نتعامل مع الدّال "جمهوريّة" وكأنّه في قطيعة تامّة مع مدلوله أو في علاقة اعتباطيّة وفق التحديد السوسيريّ (نسبة إلى فرديناند دو سوسير) للدليل اللّسانيّ. وبذلك، فقد نحتْ تعريفات "الجمهوريّة" منحى التعريف بالخُلْف كأنْ تقول إنّ "الجمهوريّة " نقيض الملكيّة أو التيوقراطيّة. وهذا يعني أنّ التعامل مع "الجمهوريّة" بقي في حدود الشكل والتعليب لا يعدوه إلى استكناه معناها ومحتواها. وتكفل العودة إلى المعاجم العربيّة الوقوف على حقيقة غير منتظرة وهي أنّ الجمهور الذي منه اُشتُقَّ المصدر الصناعيّ "جمهوريّة" هو غير الشعب.

تجتمع المعاجم على أنّ جذر "ج.م.هـ.ر" الذي منه انحدر لفظ الجمهور يتمحّض للدلالة على الجمع والجموع والحشد والاحتشاد. نقرأ في معجم " محيط المحيط ": "جمهر الشيء جمهرةً جمعه، والقوم جمهروا بمعنى اجتمعوا". وفي "أساس البلاغة ": "جمهر الأشياء جمعها". ونقرأ في "القاموس المحيط": "الجمهور من الناس جلّهم". أمّا "الجمهوريّ" فيعرّفه بالقول: "شراب مسكرٌ أو نبيذ العنب أتت عليه ثلاث سنين ". وأمّا "الشعب"، فلقد تصفّحت ما تيسّر من معاجم اللّغة، فوقفت على أنّ الشعب اسم الجمع المنحدر عن جذر "ش.ع.ب" من الكلمات الأضداد. شَعَب الشيء فرّقه وجمعه. وفي اللّسان: الشعب الجمع والتفريق والإصلاح والإفساد.

انطلاقا من المدخل الإيتيمولوجيّ لمادّتيْ الشعب والجمهور نتوصّل إلى أنّ سمة الانقطاع والاتّصال في مادّة الشعب – أو الافتراق والاجتماع أو الإصلاح والإفساد كما عبّر عنها المعجم – أمثلُ في التعبير على ما عليه تقوم كلمة La république من فصل للسلطات، وهو أنّ للبعض الحكم وللبعض المراقبة (أو قل للبعض الإفساد وللبعض الإصلاح). فالشعب تعبير عن كتلة سياسيّة قيميّة هي التي تحكم من خلال أفراد منتخبين من صميمه. أمّا لفظ الجمهور فمحض جمع وحشد بلا شحنة قيميّة أخلاقية أو سياسيّة بل هو، بهذا المعنى، لا يزيد على ما تصطلح عليه الفرنسيّة بـ: La foule والإنكليزية بـ: crowd. وأمّا الكلمة الفرنسيّة République فهي من اللاّتينيّة Res publica ركّبت تركيب مزج بين Res بمعنى الشيء أو الشأن وPublica صفةً للشيء أو الشأن. فيحصل من جماعهما الشأن/الشيء العموميّ La chose publique ولقد ترجمت كلمة République إلى العربيّة بالجمهوريّة.

على أنّ Publica اللاّتينيّة لا تعني الجمهور وإنما تعني الشعب. يعرّف قاموس Le Robert الكبير والصغير مصطلح La république بكونها التنظيم السياسيّ للمجتمع وللشأن العامّ، وبأنّها شكلٌ من الحكم حيث السلطة والقوّة ليستا حكرًا على شخصٍ وحيث الرئاسة في الدولة لا تنقاد بالوراثة.

تقودنا هذه المداخل الإيتيمولوجيّة إلى نتيجة أساسيّة: إنّ ترجمة La république إلى الجمهوريّة تبدو حمّالة للالتباس، إذ الشعبُ غيرُ الجمهور، كما ألمحنا، فالشعب مصطلح مشحون بمحمولاته الأخلاقيّة والقيميّة والسياسيّة ويتضمّن مبدأ الانقطاع والاتّصال من خلال دلالته الضدية فيما لفظ "الجمهور" يفيد الحشد والجمع والكتلة الصمّاء بلا أيّ محمول سياسيّ مخصوص. كما أنّ أساس الجمهوريّة مبدآن هما مبدأ انتفاء التوريث ومبدأ توزيع السلطات والفصل بينها عبر آليّة الانتخاب. عند هذا الحدّ، يمكن أنْ نصدع بالقول إنّ لا عهد للعرب والمسلمين بهذا الشكل من الحكم. فأصول الحكم في الإسلام ومن خلال تجربته التاريخيّة هي الخلافة الراشدة والملكيّة وإمارة المؤمنين وولاية الفقيه والسلطنة وغيرها، وهي تتمّ من خلال آليّات الشورى أو التعيين أو الوصيّة أو التوريث والتغلّب.

لكن، هل إنّ القول بانتفاء الجمهوريّة أصلا للحكم في الإسلام يعني بالضرورة انتفاء بعض من ظلالها أعني "روح" الجمهوريّة؟ طبعا لا، لأنّنا لا نعدم في تاريخ الإسلام لحظات مشرقة في سياسة الناس والحكم الراشد والعدالة. غير أنّ الحقيقة تفرض علينا، أيضا، الاعتراف بأنّ أنموذج الحكم في الإسلام وكما يعلن الدعاة إليه ومناصروه ليس ديمقراطيّا على النمط الغربيّ، وأنّ الاجتهادات هنا أو هناك سواء في التنظير أو الممارسة السياسيّة في بيان التوافق والانسجام بين الإسلام والديمقراطيّة والجمهوريّة تبقى بلا سند قويّ يقنع بإمكانيّة تحقّق هذا التوافق وبنجاعة المواءمة دون المغامرة بمراجعة جذريّة لتاريخنا ونظم أفكارنا ودون إصلاح دينيّ أو ثورة ثقافيّة نخلص منها إلى بيان علاقتنا بأنفسنا وعلاقتنا بالآخرين وتحديد مواقفنا بوضوح وصرامة من عديد الإشكاليّات القديمة الجديدة.

يقول الجاحظ ولا إخاله إلاّ ناقدا مستهزئًا: وأَوْلَى الأمور بأخلاق الملك إنْ أمكنه التفرّد بالماء والهواء ألاّ يشرك فيهما أحدًا، فإنّ البهاء والعزّ والأبّهة في التفرّد.

يقف هذه الشاهد - لمن يعرف الجاحظ- ساخرا من أنموذج الآداب السلطانيّة كما ستتجلّى، فيما بعد، مع الماورديّ والطرطوشيّ وابن خلدون وغيرهم. وهي آداب لا ترى للجمهور أو الجماهير أو للشعب أيّ اعتبار، بل إنّ هذا الإهمال المنهجيّ صار من تقاليد الأدب السياسيّ العربيّ تجلّى في ضمور الاحتفال بالتاريخ الاجتماعيّ لحساب التأريخ السياسيّ " للرسل والملوك.."، وانحسر الاهتمام بالدولة السياسيّة على حساب ما صار يعرف في الأدبيّات الحديثة بـ"المجتمع المدنيّ". لم ينصرف هذا الخطاب السياسيّ إلى "الرعيّة" بقدر ما كان منصرفا إلى الراعي ينصح له في موضوع إحكام سيطرته على "رعيّته". بل إنّه لا يتعامل مع الرعيّة كيانا قائما بذاته بقدر ما يتعامل معها على الدوام "موضوعا" لـ "ذات" السلطان ينشد إطاعته ويبرّر خضوعه للراعي.

" أيّها الناس " كانت الخطاب الوحيد الممكن مع رعيّة مدعوّةٍ إلى الانقياد والخضوع إلى صاحب الشريعة مرّةً وإلى أُولِي الأمر مرّةً.

إذا كانت الدولة التي ولدت فيها تجربة السياسة العربيّة الإسلاميّة هي دولة تنهض على مبدإ "التملّك" وما يستتبعه من "شخصنة" السلطة مع اختلاف درجات ذلك التملّك وتلك الشخصنة سواء في خلافة اللّه في الأرض أو في خلافة رسول اللّه أو في إمارة المؤمنين أو في ولاية الفقيه أو في الملوكيّة أو في دولة السلطان عامّة، وكانت الدولة الحديثة قائمة على " الشيء العامّ/العموميّ " La chose publique وعلى مَأْسَسة المجال السياسيّ والحقوق المدنيّة، علمنا، مِن بين أسباب أخرى ذاتيّة شخصيّة أو موضوعيّة، لمَ هذا التردّد والحذر في تفعيل تجربة سياسيّة متطوّرة تبدو كثير من الشعوب جديرة بها ومنها شعبنا في تونس وريث قرطاج التي امتدح أرسطو في كتابه "السياسة" دستورها ومؤسّساتها ووريث القيروان مجتمع المعارف والعلوم والآداب وجسر عبورها بين المشرق والمغرب، ووريث كوكبة المصلحين التونسييّن في القرن التاسع عشر ودستور "عهد الأمان"، ووريث نصف قرن من "الجمهوريّة".

خمسون سنة مضت بإنجازاتها وإخفاقاتها وبآمالها وخيباتها، لا يطلب منها أكثر من الوفاء للنصّ الأكبر أيْ للدستور التونسيّ بمكوّناته الثلاثة: إعلان الجمهوريّة وتوطئة الدستور ومنطوقه. ولا ينتظَر منها، أيضا، أكثر من مجاراة تيّار الديمقراطيّة الجارف وهو يمرّ حولنا من الشرق والغرب ومن الشمال ومن الجنوب وفي مجتمعات خلفيّاتها التاريخيّة والثقافيّة دون خلفيّاتنا، ورصيدها السياسيّ والمدنيّ دون رصيدنا لعوامل مختلفة.

فهل نحن واهمون أم جادّون حين ننتظر القطع مع التردّد والدخول الفاعل والواثق في العصر من خلال التلازم بين الجمهوريّة والديمقراطيّة، أم أنّنا بانتظار أن يبعث اللّه لهذه الأمّة على رأس [المائة سنة الجارية] من يجدّد لها دينها ودنياها؟

لننتظرْ. ومن يعشْ يرَ


المراجع

موسوعة الاوان

التصانيف

سياسة