تشبه الأكثرية والأقلية في لبنان – لناحية التمايز بينهما – صحني : "جظ مظ"، الأول من بيض وبندورة والثاني من بندورة وبيض. من هذه الناحية أتفهم حيرة من يبحث عن الاختلاف بين الصحنين، خصوصا إذا كان ممن لم تغسل له رأسه حرب تموز الأخيرة ولا مقتل الحريري قبلها.
على مسار التجربة البشرية، تعطي دراما الخطأ/الصواب للبشر الفرصة لتحسين شرطهم البشري وإنتاج وجودهم الاجتماعي على نحو أفضل بإضافة تحسين هنا وترقيع ما يتعذر رتقه هناك. ننفرد نحن سكان مهبط الديانات السماوية (لسوء الحظ) بخروجنا عن هذا السياق. رغم أننا نكرر صباح مساء هذه التعويذة: لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين. أغامر فأقدم تفسيرا لهذا الستاتيكو: المؤمن يلدغ من جحر إيمانه تحديدا، ذلك لأن الحذر يؤخذ من مأمنه. ولا أظن مأمنا أكثر أمنا يمكن أن توفره جهة منافسة للإيمان إلا الشك، وقانا الله منه ومن مسؤولياته الثقيلة على العقل. لذلك لا مندوحة لنا إلا احتمال اللدغ من نفس الجحر إلى ما شاء الله.
لقد أنتج صمود المقاومة في تموز ما سبق أن أنتجه استشهاد الحريري قبلها: تعميق الإنقسام الشيعي/ السني حول تمايز إيماني عمره أربعة عشر قرنا، ولا زال في ميعة الصبا.
ترى أليس من الأفضل لنا أن نصبح بلا ذاكرة؟ سيما والتمايز السني/ الشيعي من جنس التمايز بين صحني الجظ مظ..
ليس بين الامبراطوريتين الصفوية الشيعية والعثمانية السنية المتزامنتين، أو بين الخلافتين الفاطمية الشيعية وتوأمها السني، الخلافة العباسية، فوارق لاهوتية أكثر حدة ووضوحا مما بين طبقي جظ مظ، أدامه الله نعمة على فقرائه.
إذا ضربنا كشحا عما يتصارخ به مشايخ الطرفين، السني والشيعي على الفضائيات، وهو في معظمه مستنبت على حالة عقلية أقترح لها - والله ولي التوفيق- هذا المصطلح: صرمالوجيا، ولمنع الالتباس، المصطلح لعب على القرابة اللفظية بين "الصرماية"، وهي حذاء حلبي أبا عن جد (والله أعلم) وبين مفهوم الصرامة العقلية وتعريفها بحسب المفكر البولوني الأصل ميلتون روكيش: عدم قدرة الشخص على تغيير جهازه الفكري أو العقلي، عندما تتطلب الشروط الموضوعية ذلك، وعدم القدرة على إعادة ترتيب أو تركيب حقل ما تتواجد فيه عدة حلول لمشكلة واحدة، وذلك بهدف حل المشكلة بفاعلية أكبر.
إذا جربنا أن نضرب كشحا - على سبيل التمرين الذهني - عما تقدم، وقررنا التقليب الموضوعي في ملفات الإمبراطوريات الأربعة الموزعة على مقلبي الإسلام بحثا عن الفوارق التي تستحق التمسك بها، إذا استعرنا لغة التجييش التي توارث مشايخ الطرفين إتقان استخدامها، فلن نعود بأكثر مما عاد به حنين: خفان، الفارق بينهما من جنس الفارق بين القدمين.
في فذلكته النظرية لمقدمة تاريخه: "تاريخ الأمم.." يقول ابن مسكويه (توفي 415 ه/1030م) إنه قد أقصى الخوارق ومعاجز الأنبياء والرسل عن كتابه لانتفاء الانتفاع بها، وإنه اقتصر على سرد الوقائع المطابقة للمعقول، نظرا لقدرة البشر على محاكاتها والانتفاع بها. تشير هذه الفذلكة لمؤرخ من القرن الرابع الهجري إلى محاولات مبكرة للعقلانية العربية- الإسلامية ( وابن مسكويه والتوحيدي من الجيل الذي تأوجت على يديه هذه العقلانية) للإفلات من دوغما المقدس التي سيجت النتاج العقلي للبشر بالمناطق المحرمة.
قدم لنا ابن مسكويه تاريخا مغربلا من زؤان المدهش والعجيب، يغطي وقائع الإسلام المبكر، وصولا إلى حواف الخامس الهجري.. فإذا باللاهوت الإسلامي وقود محسن لماكينة التنافس على إنشاء الإمبراطوريات الخراجية، بدءا من التنافس بين بطون قريش على إدارة دولة المدينة التي أسسها النبي محمد (الفتنتان الصغرى والكبرى)، ولاحقا التنافس بين القبائل العربية بعد أن اكتشفت هذه الأخيرة دورها المركزي في تحويل دولة المدينة إلى إمبراطورية واسعة الأرجاء (الانشقاق الخارجي).
الجدلية التي يعريها ابن مسكويه من تزويقات المدهش والعجيب، هذه التي تلقت جرعة مقويات من نظرية الوحي، جعلتها بُعيد هزيمة الرشدية في ربوعنا وانتقالها إلى الضفة الشمالية للمتوسط تزداد شبابا، تظهر العناصر الحقيقية على المسرح:
— الطاقة الحربية للقبائل الرعوية في شبه الجزيرة العربية؛
— الاسلام كعقيدة دينية تحاول أن تلعب دور المايسترو الذي يضبط السلوك التعبوي للقبائل؛
— الممانعة المستمرة بأشكال متنوعة التي تبديها التراثات الأولية للمجتمعات التي طالها الفتح الإسلامي، بوجه الثقافة المتعالمة التي تنتجها النخبة الملتحقة باستراتيجيات سلطة الدولة.
— التفاعل المثمرالمنتج للإمبراطوريات: بين العصبيات ذات الشوكة بالمصطلح الخلدوني، التي تنتجها التراثات الأولية وبين التراث المكتوب بمعنييه: الكتابات المقدسة/ التثبيت الحرفي للكلام الشفهي المؤدي إلى انتصار العقل الكتابي (انظر السيرورات المتشابهة لثلاثة إثنيات شفهية ذات شوكة: العرب والمغول والترك).
— الضغط الذي يتلقاه الرأسمال الرمزي للاسلام بغاية تقاسمه في سياق تنافس العصبيات ذات الشوكة، وعلى خلفية حاجتها الاستراتيجية إليه كملاط لبناء هذه الإمبراطورية أو تلك (انظر في هذا المجال تسنن العثمانيين وتشيع الصفويين في مجرى تنافسهما الإمبراطوري. أو تحول العباسيين التدريجي إلى التسنن في وجه مطامح الفرع الطالبي إلى الخلافة).
أعود الى ما سقته في المقدمة. لم يستند التمايز السني/ الشيعي على تمايز في المعنى. ولم يفض إلى ما يثريه، بل كان استجابة لحاجات العصبيات ذات الشوكة، وهي في الشرط التاريخي ما قبل الرأسمالي: عصبيات رعوية. (لاحظ في هذا السياق المآلات المتشابهة للعرب والترك والمغول كعصبيات رعوية، لجهة التحول من البداوة إلى التحضر، ولجهة ما أفضت إليه مشاريعهم الإمبراطورية من تجديد شباب نمط الإنتاج الخراجي كلما تأزم على خلفية استقرار وتحضر الموجة الرعوية السابقة. وإلا ما معنى الإشكالية الراهنة للإسلام على تنوع مذاهبه مع العصر؟
فيما عدا تمايز العبادات، وهو تمايز أنتجته طبقة رجال الدين الملتحقة باستراتيجية سلطة الدولة وفقا لاحتياجات الضبط والربط للرعية ولإسباغ مشروعية مخلوطة بالمقدس على النخبة الحاكمة عن طريق إنتاج وحدة حال لاهوتية تجمع الطرفين: الحاكم والمحكوم؛ وخارج سياق تقاسم رموز الإسلام التدشيني (النبي وذريته من فاطمة والصحابة والتابعين)، وهو تقاسم سبق وأن اشرنا إلى ارتباطه باستراتيجيات هذه العصبية الرعوية الطامحة إلى الملك أو تلك، لا يتبقى في صحن الخلاف السني/الشيعي سوى نظرية الوحي (السماء تأمر الأرض/ الأرض تأتمر بالسماء).
فيما عدا ذلك يتشاطر الخطابان الأصوليان السني والشيعي صيغة مشتركة (لتجذير التاريخ الحاضر لهذه المجتمعات وغرسه في العصر الافتتاحي، عصر الرسول، مستفيدين مما تم ترسيبه عبر القرون في المخيال الجمعي للمسلمين عن هذا العصر، في وصفه عصرا يقف خارج شروط المبادلات المادية وأشكال الاستغلال والتعبير التي تحدد في كل مرحلة تاريخية الآليات الحقيقية لتوليد أي مجتمع بشري. إنه يبدو عصرا مثاليا يقف فوق التاريخ ويتعالى عليه. هذه اللعبة التي يمارسها الخطاب الأصولي مع عصر الرسول تتيح له إخفاء أشكال الاستغلال والشروط الراهنة للمبادلات المادية التي انغمس فيها حتى لحيته عن طيب خاطر (انظر في هذا المجال النشاطات المالية لكبار رموز هذا الخطاب، وقارن مع بعض من المبشرين بالجنة من الصحابة اللذين أفلتت فضائحهم المالية من عمليات الغربلة التي خضع لها التراث الشفهي عند تدوينه) عن عين المؤمن المعاصر.
المراجع
موسوعة الاوان
التصانيف
سياسة