“ووكّل الوزير مماليكه بالشوارع والطرقات، فقطعوا أكمام النساء، ونادى في القاهرة ومصر بمنع النساء من لبس ما تقدّم ذكره، وأنه متى وُجدت امرأة عليها شيء مما منع أُخرِق بها وأخِذ ما عليها. واشتدّ الأمر على النساء، وقبض على عدّة منهنّ، وأخذت أقمصتهنّ. ونُصبت أخشاب على سور القاهرة بباب زويلة وباب النصر وباب الفتوح، وعُلِّق عليها تماثيل معمولة على صور النساء، وعليهنّ القمصان الطوال، إرهاباً لهن وتخويفاً.” (المقريزيّ، السّلوك في معرفة دول الملوك)
كان هذا في عصر المماليك، في أيّام وزارة الأمير منجك، وفي سنة 751 هـ تحديدا. فقد أحدثت نساء الخاصّة في الشّام “قمصاناً طوالاً تخبّ أذيالها على الأرض، بأكمام سعة الكم منها ثلاثة أذرع، فإذا أرخته الواحدة منهن غطّى رجلها”، وانتشرت الموضة انتشار ضوء الفجر في الآفاق، عابرة الشّام إلى مصر، عابرة للطّبقات الاجتماعيّة، منتقلة من سكّان المدن إلى الفلاّحين.
أو لنقل إنّ هذه الموضة انتشرت انتشار الطّاعون أو النّار في الهشيم، لأنّ المؤرّخين الذي كتبوا أخبار هذه الوقائع مثل المقريزيّ (ت 845 هـ) وابن حجر العسقلاّنيّ (ت 852 هـ) وابن تغري بردي (ت 874 هـ) ، تبنّوا عموما وجهة نظر أولياء الأمور الذين تصدّوا إلى هذه البدعة، أي وجهة نظر السّلطة إذ تنتج ثنائيّة العاديّ وغير العاديّ، وتضع الفواصل والحدود، وتقوّم الأجساد والنّفوس بما تقتضيه الأخلاق الدّينيّة.
وقد اتّخذ الأمير منجك هذا القرار بعد أن جمع قضاته، “فأفتوه جميعهم بأن هذا من الأمور المحرمة التي يجب منعها، فقوي بفتواهم.” ولكنّ هذه الفتوى لم تكن كافية لردع النّساء، أي أنّ استمداد شرعيّة هذا الرّدع من الدّين لم يكن كافيا لإنتاج الرّدع الذّاتيّ والشّعور بالإثم، بل كان لا بدّ من الرّدع الواقعيّ، وكان لا بدّ من مشهدة إقصاء النّساء المبتدعات بعرض تماثيلهنّ على الأنظار، وهي أساليب في إبراز السّلطة وجعلها مرئيّة تتّسم بها العصور القديمة حسب فرضيّة ميشال فوكو في “الرّقابة والعقاب”.
لكنّ موضة الأكمام الطّويلة عادت إلى الظّهور بعد حوالي أربعين عاما. احتفظت بها ذاكرة النّساء، أو ربّما اخترقت الأجيال، كما اخترقت البلدان والمناطق والطّبقات، لأنّني لا أظنّ أنّ كثيرا من اللّواتي قطعت أكمامهنّ سنة 751 بقين على قيد الحياة إلى سنة 793. يقول ابن حجر العسقلاّني في “إنباء الغمر بأنباء العمر” : “وفيه أمر كمشبغا نائب الغيبة أن لا يخرج النّساء إلى التّرب بالقرافة وغيرها، وشدّد في ذلك، ومنع المتفرّجين في الشخاتير، وهدّد على ذلك بالتّغريق والتّوسيط، فحصل لأهل الخير بذلك فرح، ولأهل الشر بذلك ترح، ثم منع النساء من لبس القمصان الواسعة الأكمام، وشدّد في ذلك إلى أن رتّب ناساً يقطعون أكمام من يوجد أكمامها واسعة، وساس الناس سياسة حسنة حتى لم يتمكن أحد في مدة مباشرته الحكم في هذه الغيبة أن يتظاهر بفسق ولا فجور من هيبته.”
تكشف لنا هذه الوقائع عن حلقة من حلقات العلاقة بين النّساء والسّلطة ممثّلة في جهاز الحسبة، أي جهاز الأمر بالمعروف والنّهي عن المنكر، ولكن تبدو لنا علاقات الهيمنة فيها معقّدة، فهي أبعد ما تكون عن النّمط البسيط الذي يقابل بين المهيمِن والمهيمَن عليه. فالخطاب الذي يتحدّث عن الرّدع ويعيد إنتاجه، يتحدّث في الوقت نفسه عن فشل الرّدع، وتكرار البدعة المردوعة وتكرار ردعها. والطّريف في الأمر أنّ هذه القمصان ذات الأكمام المجنونة سمّيت في نهاية المطاف باسم الأمير الأخير الذي تشدّد في منعها، فقد أطلقت عليها عبارة “القمصان الكمشبغاويّة”.
هل هي سخريّة الأقدار واعتباطيّة التّسميات، أم سخريّة النّساء العابثات بالممنوعات؟ على أيّة حال، تبدو لنا النّساء من خلال هذه الوقائع وكأنّهنّ فئران نشيطة تعمل في صمت، لتحدث الثّقوب داخل الأسوار التي تحاصرها، وتعيد فتح المنافذ بعد سدّها، ويبدو لنا أولياء الأمور وكأنّهم قطط مرهقة مذعورة، رغم أنّها سيّدة الموقف، ورغم أنّها تعمل في وضح النّهار وتصدع بموائها، فقوّة عضلاتها وكبر أحجامها، وشرعيّة صيدها الفئران، وكلّ ما لها من الميزات لا تقدّم لها الحلّ الكافي الشّافي النّهائيّ لتدجين الفئران المستهترة المختبئة.
ولكن لنعد إلى أصل الثّغرة نفسها، وإلى أسباب سدّها. فهناك تناسب بين عنف الرّدع وقدرة موضوع الرّدع على الاستهواء وجلب الأتباع. لماذا استحدثت النّساء هذه الأكمام الطّويلة، ولماذا أصررن عليها، ولماذا أصرّ أولياء الأمور على قطعها؟ لو تعلّق الأمر بأكمام قصيرة كاشفة، لاتّضحت الغاية من قطعها، لأنّها تكون عندئذ منافية لقواعد الحجاب الثّوبيّ، وهي أن يكون اللّباس واسعا وطويلا. أمّا والأكمام طويلة وواسعة، ومؤدّية مبدئيّا لوظيفة “إسبال الكساء على النّساء”، فإنّ الأمر يبدو غامضا باعثا على الحيرة.
سؤال “لماذا استحدثت النّساء هذه البدعة”، لا يجيب عنه المؤرّخون القدامى، لأنّهم غير معنيّين بذاتيّة النّساء وبنظرتهنّ ومشاعرهنّ وكلامهنّ ومعيشهنّ. إنّهم معنيّون بأفعالهنّ وأجسادهنّ، لاسيّما عندما تُرى وتظهر على سطح المدينة. وقد ذكر المؤرّخ المصريّ أحمد عبد الرّازق بعض هذه الوقائع في كتابه المفيد عن “المرأة في مصر المملوكيّة” (صدر سنة 1999 عن الهيئة المصريّة العامّة للكتاب، ولكنّ مقدّمته كتبت سنة 1974)، وأبدى نوعا من التّعاطف مع النّساء، إلاّ أنّنا مع ذلك لا نرى قطيعة واضحة بين وجهة نظره ووجهة نظر المؤرّخين القدامى. فهو يقول معلّلا بدعة الأكمام الطّويلة : “وليس تغيير الأزياء وتبديلها عند النّساء في الحقيقة إلاّ ضربا من مللهنّ للنّظام الاجتماعيّ، فهنّ أسرع النّاس إلى الملل والرّغبة في التّغيير والتّجديد، وكلّما كثر مللهنّ كثر تغييرهنّ فرارا من السّأم وطلبا للرّاحة، وإذا ابتكر زيّ جديد عدّ مثالا للأناقة في وقته فتنقاد له كما هو معروف نفوس النّساء بلا أدنى تفكير”.
إنّ هذا المؤرّخ الذي كان له فضل الاهتمام بتاريخ النّساء لم يهتمّ مع الأسف بتاريخ سياسة الأجساد بالمعنى الحديث، بل قدّم عرضا للوقائع بمعزل عن إشكاليّات السّلطة، وبقيت المرأة في كتابه صامتة، وبقيت نظرتها وعلاقاتها بالرّجال وبالسّلطة مغيّبة، لأنّه لم يتساءل عمّا تريده المرأة بقدر ما أسقط انطباعاته وتأويلاته الخاصّة على نساء العصر المملوكيّ. بين القدامى ومؤرّخنا الحديث، حدثت نقلة طفيفة، تمثّلت في التّحوّل من المرأة المقصاة الخارجة على القانون إلى المرأة التي تمثّل حالة خاصّة. انتقلنا من خطاب تاريخيّ ينتج التّفريق بين الخير والشّرّ، إلى خطاب ينتج التّفريق بين الرّجال والنّساء، وبين الكونيّ والخاصّ، باعتبار أنّ النّساء آدميّات لطيفات لكنّهنّ أقلّ تفكيرا من الرّجال. انتقلنا إذن من خطاب فتنة النّساء وعلاقتهنّ بالشّيطان إلى خطاب “الجنس اللّطيف”، وهي نقلة يمكن أن نبيّن وجودها في حقول أخرى غير التّاريخ.
أمّا لماذا الرّدع، فهو ما نجد أجوبة عابرة عنه. الإجابة الأولى التي يقدّمها المؤرّخون القدامى ذات طبيعة اقتصاديّة، فهذه القمصان مكلفة، لأنّ ثمنها يبلغ “ألف درهم” أو أكثر. ولكنّ هذه الإجابة غير مقنعة أو غير كافية، أو ربّما تكون مجرّد تعلّة، لأنّ كتب التّاريخ تقدّم أرقاما خياليّة عن تكلفة أنواع أخرى من الملابس والحليّ، دون أن يشكل الأمر وتتدخّل سلطة الضّبط. بل الأرجح أن تكون هذه الإجابة تعلّة لأنّ في عنف الرّدع وخطابه ما يدلّ على أنّ المشكل لا يكمن في الإسراف والتّبذير، بل في إفراط من نوع آخر هو “الفسق والفجور” حسب عبارة العسقلاّنيّ.
السّؤالان مترابطان، وهما وجهان لحقيقة واحدة. وربّما تتّضح الإجابة عنهما في بعض التّفاصيل التّاريخيّة التي ترد عرضا أو تطفو على السّطح. ومن هذه التّفاصيل العرضيّة ما له علاقة بالثّغرات والفتحات، ولكن بثغرات الثّوب وفتحاته أوّلا. فقد نقل أحمد عبد الرّازق خبرا ذكره الشّربينيّ في “هزّ القحوف”، ومفاده أنّ الرّجل في زمن الأكمام الطّويلة هذه “ربّما جامع زوجته من كمّها دون حاجة لرفع بقيّة الثّوب.”
في الكمّ الطّويل ثغرة متّسعة إذن، وهذه الثّغرة هي في الوقت نفسه ثقب من الثّقوب التي أحدثتها النّساء في حصن الحجاب. الأكمام الطّويلة لم تكن طويلة إلاّ لتخفي جسد المرأة وتجعله متاحا في الوقت نفسه، بحيث يكفي أن ترفع اليد الكمّ لتجد المخفيّ الذي يخفيه الكمّ ويكشفه أو يتيحه. ولا ننسى عامل المفاجأة والغرابة، بحيث أنّ اليد تعثر على ما تريد خارج المسالك المعهودة، أو تريد شيئا فتصادف شيئا آخر. وهكذا تنتج المرأة ذات الكمّ الطّويل استعارة عن نفسها من خلال الكمّ : إنّها محجوبة لكنّها تحمل جسدا متوقّدا خلف حجابها، كما أنّ كمّها طويل، لكنّه ينتظر اليد الذي تمتدّ إلى داخله، كما أنّها غريبة تخفي المفاجآت. كأنّ لسان حال هؤلاء النّساء : تريدون منّا أن نسدل الحجاب، ها أنّنا نسدله، ولكن كما نريد، فمن حيث نسدله نفتح فيه منفذا غير مرئيّ ولكنّه متوقّع. تريدون أن نطيل الأثواب ونجعلها واسعة، ها نحن نطيلها ونوسّعها، ولكن حيث نريد. يريد المحتسبون إسدال الحجاب، فتردّ النّساء بإنتاج إيروسيّة الحجب والكشف والغرابة. تريد مؤسّسة الحجاب أن تجعل المرأة غير مرئيّة، فها هي تلفت الأنظار بأمر من جنس الحجاب.
لا يتعلّق الأمر إذن بمجرّد ولوع بالموضة، لأنّ هذا الولوع ليس سببا بل نتيجة لولوع آخر يجب أن نفكّر في طبيعته. ولكنّ الأمر لا يمكن أن يختزل أيضا في مجرّد التّعبير عن الهوامات وفي إثارة هذه الهوامات لدى الجميع. فلعلّ العامل الأساسيّ في هذه البدعة هو ولوع النّساء بالخروج من الغفليّة وبالتّفرّد والانتماء في الوقت نفسه إلى مشترك نسائيّ معيّن، هو تجربة جماليّة – سياسيّة. وقد كانت المرأة فاعلة في هذه التّجربة، إلاّ أنّها أشركت فيها الرّجال، بما أنّ بعض الرّجال صنعوا بالكمّ ما دار بخلد النّساء، عن وعي منهنّ أو عن غير وعي. إنّ المشترك النّسائيّ الذي جعل النّساء بجميع طبقاتهنّ يقبلن على الأكمام الطّويلة هو مشترك إنسانيّ في الوقت نفسه، لأنّ الرّجال استجابوا إلى هوامات الكشف والتّحجّب والغرابة والمنع والإتاحة بما صنعوه أو صنعه بعضهم بأكمام النّساء. فالهوامات الجنسيّة لا تعرف الحدود بين الأجناس والأنواع.
ولذلك يوجد تواصل بين ذوات السّلطة القامعة والذّوات المقموعة، من هذه النّاحية الهواميّة الجنسيّة، فالقامع يدرك سلطة هذه الهوامات الجنسيّة، عن وعي منه أو غفلة، ويقاومها لأنّها تثيره هو نفسه. سلطة القمع تعرف ما تفعل، وذواتها يقمعون أنفسهم قبل قمع المقموعين. ثمّ إنّ قمع المتعة قد يحقّق متعة غير مألوفة، فحدّث ولا حرج عن قاطعي أكمام النّساء وهواماتهم الخاصّة. إنّهم إذ يطيعون الأوامر ويقطعون الأكمام ويمزّقون أثواب النّساء، يمسرحون ولا شكّ نوعا من الاغتصاب أو التّعرية. فيختلط الحابل بالنّابل، وتحدث الفتن، وتلتقي الأجساد، من حيث تريد سلطة الضّبط فصلها وعزلها.
وبقطع النّظر عن التباسات القمع، ليست في هذه البدعة النّسائيّة “قلّة تفكير”، بل فيها نصيب من ذكاء المقموع إذ يتغلّب على ذكاء المؤسّسة القامعة. الأوّل ذكاء بشريّ إبداعيّ، هو ذكاء الأجساد التّائقة إلى الحياة والظّهور، والثّاني ذكاء لابشريّ اتّباعيّ. ذكاء المؤسّسة القامعة يضيّق دائرة الممكن بخلق الحدود، وذكاء الأفراد المقموعين يوسّعها، ليقاوم عدم التّحدّد وعدم الظّهور، فينتج بذلك أشكالا من الحياة، وتجارب حرّيّة مصغّرة وهامشيّة، قد تعود بشيء من الوبال على صاحبها، ولكنّها هامّة على أيّة حال، لأنّها تؤكّد الذّات وهويّتها وأشواقها.
ولكن هل يستوفي هذا الولوع وهذه الإيروسيّة والهوامات الجنسيّة موضوع الأكمام الطّويلة وقطعها؟ هل يمكن أن نستوفي موضوعا نصف أطرافه صامتون، رغم أنّنا تخيّلنا “لسان حالهم”؟ هل يغني “لسان الحال” عن “لسان المقال”؟ وإذا وجدنا منطقة أخرى غير التّاريخ تتكلّم فيها النّساء عن أنفسهنّ؟ وإذا استنطقنا كلمة “أكمام” نفّسها، ووجدنا لها أثرا في الولوع بالأكمام وإطالتها؟ أليس الكمّ لغة هو ما يخفي الزّهرة والثّمرة؟ أليس الكمّ الطّويل هو ما يجعل “القطوف دانية” رغم أنّها غير مرئيّة؟
ابتدأت هذا المقال من حيث يجب أن أنتهي. لأنّ علاقتي بأكمام النّساء تبتدئ بالخرافة لا بالتّاريخ، تبتدئ بأكمام جدّاتي وأقاصيصهنّ، وبالكلمات التي تحنّ إلى الأشياء.


المراجع

alawan.org

التصانيف

تاريخ  أحداث  مجتمع   قصة