محمد بن عبد الله البقمي

إن الإنسان في هذه الدنيا ليعيش متنقلاً بين أطوارها، وتقلبه صروفها وتحولاتها، فقد يجفوه القريب، ويبتعد عنه الحبيب، ويتوجس من الغريب، لكنما هنالك صديق حميم، وخلٌ وفي، وأخ عزيز، لا يقل وداده، ولا تتصرم حبال العلائق معه..فلا يتجهم للبعد، ولا يتألم للهجر، لطالما ظل قابعاً، و لربما علاه ما يحصل بدوام المكث والاستقرار والثبات من الغبار ونسيج خيوط العنكبوت.

ذلكم الجليس الحبيب، والصديق القريب: هو الكتاب..

وخير مكان في الدنيا سرج سابح    وخير جليس في الزمان كتاب

الكتاب: وما أدراك ما الكتاب ؟

هو خير جليس، وأنفع أنيس، لا يمل من كثرة مجالستك، في حين قد لا يطيق رؤيتك أحب الخلق إليك، يبيح لك بأسراره، الوقت الذي يحتفظ أعز أصدقائك بأدنى أخباره، إلى غير ذا مما – والله – قد يفنى المداد دون البوح عن شيء من المشاعر تجاه ذلكم الكيان العجيب، بل لو جعلت ماء العيون مداداً للحديث عن (الكتاب ) لما كان كثيراً في حقه..إننا - أيها الأكارم - سنستشعر بقيمة الكتاب، وما يعني من ثقلٍ وتأثيرٍ في حياة الأفراد، حينما نطالع سير سلفنا الصالح – رضوان الله تعالى عليهم – نجد أن الكتب قد حلّت منهم محل الروح من الجسد، فهذا الجرجاني – رحمه الله تعالى – يقول:

ما تطعمت لذة العيش حــتى  صرت للبيت والكتاب جليساًليس شيءٌ عندي أعز من الـ  ـعلم فــما ابتغى سواه أنيساًإنما الذل في مـخالطة الـناس فدعهم وعــش عزيزاً رئيساًبل إن الأمر قد بلغ بهم أعظم من ذلك، فمصابهم بضياع الكتب وفقدها واحتراقها من أعظم مصائب الزمان عليهم، وخذ على سبيل المثال هاتين القصتين:• الأولى: هذا عبدالله بن لهيعة (ت: 174هـ ) محدث مصر وقاضيها: كان إماماَ في الحديث وروايته، فاحترقت كتبه عام 169هـ، فكثر الوهم والتدليس في حديثه، ورواية من حدث عنه قبل احتراق كتبه أوثق ممن حدث بعد احتراقها (انظر: تهذيب التهذيب لابن حجر ).• الثانية: ما أورده السخاوي (في الضوء اللامع 6/105 ) في ترجمة الحافظ الإمام ابن الملقن، قال: " سمعت شيخنا - يعني: ابن حجر - يحّدث عن ابن الملقن، وكان عنده من الكتب ما لا يدخل تحت الحصر، ثم إنها احترقت مع أكثر مسوداته في أواخر عمره، ففقد أكثرها، وتغير حاله بعدها فحجبه ولدها إلى أن مات، وقال شيخنا:

- يعني: ابن حجر - في معجمه: إنه قبل احتراق كتبه كان مستقيم الذهن، ولما احترقت كتبه أنشده شيخنا من نظمه مخاطباً له:لا يزعجنك يـا سراج الدين إن لعبت بكتبك ألسن النيرانلله قـد قربتـها فتقبلـــت والنار مسـرعة إلى القربانوبهذا يتضح مدى التعلق الكبير، والحب العميق، الذي ضرب بجذوره في سويداء قلوبهم للكتب، فالواحد منهم قد يفقد صوابه لفقد كتبه، وفقد الكتاب كفقد الصواب فيا هول من قد أضاع الكتب.. .وبعد هذه الإطلالة السريعة على قيمة الكتب، فإني أرسل عبر بريد القلب، هذه الإشارات تذكيراً لنفسي المقصرة أولاًَ، ومساهمة في إفادة كل محب للعلم والمعرفة، وإليكم الإشارات:

1- لا بد من تحديد الهدف والمنهج الذي تسير عليه، حتى لا تكون حاطب ليل، فقبل أن تفكر في الكتاب الذي تقرؤه، لا بد أن ترسم خطة واضحة المعالم، مدروسة من جميع النواحي، حتى لا تكدّر ذهنك فيما لا تطيق، ولا تشغل فكرك فيما لا تستفيد منه.

2- عليك بالتعرف على الكتاب الذي تود قراءته، فاحرص على معرفة الفن والعلم الذي يدور هذا الكتاب في فلكه، ثم لا بد أن تكون على إلمامٍ واطلاع على أسلوب المؤلف، وتسلسله في أفكار الكتاب، ثم عقب ذلك ينبغي عليك تتعلّم الاصطلاحات الخاصة بالفن الذي يتعلق به هذا الكتاب، حتى لا تخرج من بخفي حنين، فقد يكون أثر ذلك سلباً تجاه مسيرتك العلمية.

3- عليك بتعلم بعض المهارات المتعلقة بالقراءة، كالقراءة السريعة مثلاً، فبعض الكتب فيها من الأمور ما لا يستحق وقتاً كبيراً لقراءتها والوقوف عليها، حينها لابد من التعامل معها بذوقٍ وحرفيةٍ ومهارةٍ عاليةٍ، تجعلك لا تفرط في الفائدة العلمية المركزة، ولا تصرف وقتك فيما لا يفيد؛ فالعلم - أيها الغالي - متين، والعمر قصير واللازم في العلم طلب المهم.

4- عليك بتدوين فوائد الكتاب الذي تقرؤه، وكما قيل في منثور الأشعار:العلم صيد والكتابة قيده قيّد صيودك بالحبال الواثقةثم إن تعليقاتك على كتابك لتدل على مدى تفاعلك مع الكتاب، وقد قيل (كلما أظلم الكتاب أضاء ) وعليك بإيضاح المشكل، وبيان المبهم، وإضافة ما تلزم إضافته.

5- احرص على اقتناء النسخة الجيدة والمضبوطة للكتاب الذي تريد قراءته، وقد قال ابن جماعة في تذكرته: " وينبغي على الطالب أن يشغف بتحصيل النسخة المليحة ". وذلك لما لها من أثر إيجابي يدفع نحو القراءة وانطباع رائع تجاهها.وأخيراً وليس آخراً.

أقول: إن العمل هو المحك الحقيقي، والاختبار الذي يسفر عن مدى جدوى هذه القراءة، فالعلم بلا عمل حجةٌ على صاحبه، ودليلٌ يقوده إلى المهالك في هذه الدنيا قبل الآخرة – نسأل الله العفو والعافية –..ثم إن الشاب، لابد وأن يستعين بالله تعالى على سلوك هذا الطريق، فلا غنى له عن توفيق الله طرفة عين، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله تعالى: (وقد أوعبت الأمة في كل فن من فنون العلم إيعاباً، من نور الله قلبه هداه بما يبلغه من ذلك، ومن أعماه لم تزده كثرة الكتب إلا حيرة وضلالاً ).ويقول الإمام الذهبي: (إن العلم ليس بكثرة الرواية، ولكنه نورٌ يقذفه الله في القلب، وشرطه: الإتباع، والفرار من الهوى والابتداع ) فليتدبر هذا، وبورك في الشباب الطامحين.ومضة أخيرة: - محبوبي من الدنيا. 


المراجع

denana.com

التصانيف

تصنيف :قصص اجتماعية   الآداب