أغبط عموم الغرب حقيقة. لا أحسد الغرب، إنما أغبطه. والغبطة هنا هي أمنية لنا نحن غير الغربيين، من أجل أن نتمتّع، في يوم ما، بالذكاء والخيال والتخطيط وإدارة الأمور على النحو الذي يدير به الغرب معارفه وعلومه ورغباته وغرائزه ونزاعاته وغزواته وصراعاته، وكل شؤونه الداخلية والخارجية.

انجلترا، عجوز الغرب الحكيمة التي غربت الشمس عن إمبراطوريتها لكن أبدا لم تغرب الشمس عن عقلها وكياستها وزينتها وزمنها. تعرف انجلترا دائما متى تصرّف حكمتها حتى يكون الزمن متعلّقا بها. بريطانيا لندن هي ساعة بيغ بونغ، وهي توقيت غرينتش الكوني. جعلت ساعتها ليتدرّج فيها الضوء بمقاييسه وأقاليمه، ليلا ونهارا، يمينا ويسارا. بل لعلّ برلمانها هو من أبدع مفاهيم ومواقع اليسار واليمين بالمعنى الأيديولوجي والتاريخي والاجتماعي والسياسي والفكري والحضاري. مع بلاد يتحدّد التوقيت الكوني فيها، زيادة أو نقصانا، حسب وقتها الذاتي الذي صار مطلق الفيزياء والكيمياء في هذا العصر، أي مطلق الزمان والمكان، هل يمكن أن نتعامل معها، مع إجراء من إجراءاتها بسفاهة، أي بغير حكمة؟

لا نتمتّع، وهل في ذلك متعة؟، نحن مجتمعات عربية وإسلامية وكل من يدور في فلك العوالم الثالثة… لا نتمتع سوى بالسّفاهة وفي النادر من الأحوال بالحكمة.

من الحكمة أن نتقبّل القرار البريطاني القاضي بتكريم الروائي الهندي المسلم، الذي ينازعه الباكستانيون إسلامه الأدبيبإسلامهم النووي الذي يباع ويشترى. كاتب من فصيلتنا هرطق وتزندق أو لم يهرطق ولم يتزندق، كان تكريمه عن كل أعماله وتوسيمه بأرفع وسام انجليزي وغربي أيضا، الذي هو "لقب فارس"، عملا في منتهى الذكاء الحضاري الذي يلتبس بالدهاء السياسي في كل حين وآن. فارس وما أدراك ما فارس ولقب فارس. تذكروا جيّدا، دون دعوة للسخرية وإنما هي دعوة اتعاظ لمن يفهم الاتعاظ ويرغب فيه، ماذا فعلت كُتب الفروسية، قبل خمسة قرون ويزيد، بـ"دون كيخوتة" بطل ميجيل دي ثربانتس سابدرا Miguel De Cervantes Saavedra حسب نطقه الإسباني. ليس السياق سياق ثربانتس، رغم أنه سياق فروسيات أخرى مظلمة و بائسة جدّا تخصّنا أكثر مما تخصّ الغرب، ومنها سيف فارس لأسامة بن لادن من جهات باكستانية ردّا على بريطانيا عند تكريمها في هذه الأيام لسلمان رشدي.

لا حق لنا في السخرية، فما البال بالإدانة والاعتداء أو الانطواء أو الإهانة والنذالة، ومحاربة طواحين الهواء وأذرع النواعير. كانت الأوهام جلاّبة الماء لصحارى بلا طواحين ولا ماء. حرب مع نفط أسود لا هواء فيه ولا ماء ولا نواعير ولا طواحين سيحرقنا كأي محروق ما لم نصرّح بفصيح القول، قبل فوات الأوان، إننا مع سلمان رشدي، مع نسائم الرواية والحرية، ومع الحلم ومع مطلق الخيال.

أحدهم يحلم بأنه يغادر دينا أو هُويّة أو يحلم بأمه، أخته، بنته، ابنه، جاره، خياله، تاريخه، ماضيه، حاضره، مستقبله، مقبله، مدبره، ويحاول أن يتخلّص من حلمه الكابوس باللغة. يحاول أن يغرنق وأن يكون لاتا وعزّى وغرانيق عٌلا، شفاعتهن ترتجى، يحاول أن يكون قرآنا يُقرأ. يحاول باللّغة، بلا سلاح ناري ولا سلاح أبيض ولا أسود. يحاول بسلاح اللغة المتمنّعة الماكرة، وغير البريئة في كل الأحوال إقامة في الوجود. أسعفته اللغة الانجليزية لكي يتأنجلز فيها، ولم يحمل من أسلحتها الفتّاكة القاتلة للبشر والشعوب، سوى سلاح حضاري من مستعمليه الكبار شكسبير، أو جيمس جويس، أو ت. س. إليوت، أو الطيّب صالح أيضا، فما بالك بكل الآخرين الرائعين المنتظرين.

نستقبله، سلمان رشدي، ببرلمانات وبشخصيات وبأناس وبجماهير، عمرها لم يسعفها أن تتجمهر على مصلحة مشروعة من مصالحها، حتّى زمن صراعها مع الاستعمار وتضحياتها الكثيرة. ألم تستبدل استعمارا مباشرا بغيضا باستعمار خفي أكثر بغضا؟

لست من المدافعين عن الاستعمار الفائت ولا عمن عوّضه. ولست من الذين يدينون بـ أو يدينون البرلمانات والحكومات والرئاسات والشخصيات والشعب والجماهير، خصوصا الجماهير، في قضية مثل قضية سلمان رشدي. ولكنني أقف متحيّرا ومرتاعا من نوعين من الناس في أمة العرب وأمّة الإسلام، مهما كانت بلدانهم وأنظمة حكمهم.

النوع الأول هم الكتّاب، مهما كان صنف كتابتهم، وخصوصا من يسمّى منهم المبدعون، شعراء وروائيون.

أما النوع الثاني فهم الهاتفون ليلا نهارا، وما بين الليل والنهار، والذين يقيمون في بلدانهم وفي غير بلدانهم، الهاتفون بشعارات حريّة التفكير والتخييل والتنوير والحزبية والجمعيات. وخصوصا منهم أولئك المعارضون والموالون من الشخصيات والتيارات الدينية من بلدان مغاربية أو مشارقية ومنها رموز دينية سياسية أو إعلامية، ويمكن الفضائيات التلفزية والمواقع الالكترونية والورقية، وتتمتّع نفوذ وسطوة كبيرتين لدرجة لا يمكن حتى مجرّد ذكرها، وخصوصا أولئك المقيمين في لندن عاصمة بريطانيا التي توّجت أعمال سلمان رشدي واحتفت. هل يمكن أن نظفر بمساندة لسلمان، وبالتالي لحرية التعبير والتفكير والإبداع ، من قبل مثل أولئك السادة الذين يتنعمون في حرية لندن ويضمون لقيمها كل الشرور. إنها قمة اللؤم الإنساني والجبن الفكري والسياسي والفقهي والإعلامي، يجللان أولئك اللندنيين المتزمّتين المتأسلمين الذين يستفيدون من الحرية للإجهاز على كل حرية، مهما حاولوا التمويه والاختباء وراء شعارات الديمقراطية والحداثة وحقوق الإنسان. هل سلمان رشدي إنسان؟ هل له حقوق كروائي؟

لا أتأسّف عن السياسيين وعن المصالحين والمتصالحين وعن رهط جميع أنواع أصحاب المصالح. لا أتأسف عن الإعلاميين والغوغائيين. لا أتأسف عن الشعب حين يصير جمهورا متجمهرا حول جمهرة أو جمرة تحرقه وتجعل منه حطبا لنار جهنّمهم. لا أسف عن كل ذلك وما شَابَه وما يشوبه وما شابَهَهُ. إنما كل الأسف عن كتّاب عرب ومسلمين، لا يسلّمون بالكتابة حين تكون خالصة للكتابة. يخافون أن تغرنقهم الغرانيق أو تطير بهم فيما ألقي على لسانهم لا لسان الغرانيق. ليت لكتّابنا لسانا؟

النبيّ محمّد، عليه الصلاة والسلام، صاحب كتاب كان يتبرأ دائما من أن يُنسب إليه. كان يشدّد باستمرار أن الكتاب هو كتاب، قرآن، فرقان، لصاحب الكتابة الأزلية، للكاتب الأوّل الذي من فرط علوّه لا يكتب مباشرة ويصرّح دائما عن طريق ناطقين باسمه. محمّد الرسول العربي لم يكن كاتبا، كان ناطقا باسم شيء قاله له الكاتب: انطق باسمي، فنطق. اقرأ فقرأ. محمد لم ينسب شيئا لشخصه ولعبقريته ولإبداعه. كان هو إبداعا وحرفا وحبرا وكتابا لإله غير منظور ولا محسوس ولا يمكن البرهنة عليه، وتلك عظمته.

مَن مِن الكتّاب العرب والمسلمين، مَن مِن اتحاداتهم وتجمعاتهم وشخصياتهم ومعانيهم انتصر لحرية الكتابة والتخييل والرواية؟

من مِن الكتّاب العرب والمسلمين انتصر للكتابة حين تجسّدت الكتابة في سلمان رشدي؟

أغلب الكتّاب العرب المعاصرين هم عرب بائسون قبلا وليسوا كتّابا، كما أن الكثير من المسلمين الراهنين هم مسلمون خاضعون أذلاء قبلا ولم يفكّروا أن يكونوا كتّابا. ومعهم الحقّ. فالكِتابة والكٌتّاب كانوا باستمرار، وعلى مرّ التاريخ، وما سيتفضّل به المستقبل، حياة متنامية، وصيغة اقتراح، أو قوّة روحية مكنونة في صميم اللغة، قوّة غير محسوسة وغير مرئية، ولكن فاعليتها في الوجود حاسمة. كانوا تهتّكا وهتكا وتهتيكا، وما لا تتصوّر الكتابة المنجزة ولا الماضي ولا الحاضر ولا الخيال.

مَن مِن الكتّاب العرب يمكن أن ينتمي إلى محمّد؟ أن ينكر كتابته وينكر اسمه وذاته. وأن يحيل الكتابة كلّها للكاتب؟ لكاتب آخر، غير متعيّن في كل الأحوال. كاتب أبدي يتصرّف أو "يلهو" بنوع من الحروف والكلمات وما نسميه المعنى، وبالكون وبكل ما في الكون. كاتب كاتم لصوته ولبصمته وإمضائه ومنتصر للمنطوق والمفهوم. بصفته معاني وحروفا وخالقا لذاته وللشاخص والذاهل وللمعاني وللحروف.

أجزم أن ما يطرحه علينا سلمان رشدي أدبيا وروائيا، وما تعيد طرحه علينا بريطانيا سياسيا، بحنكة ومكيدة، هو امتحان لمعان يريد الكثيرون الالتفاف عليها، إنما ذلك مما لا يمكن تجاوزه ولا نكرانه، مهما كان تقديرنا لقيمة سلمان رشدي الأدبية، وهي في كل الأحوال ليست بالقليلة، بدليل أنها تثير ذاكرات وخيالات واحتمالات وصراعات وقتلا ومناورات وكثيرا من الفطنة والذكاء في هذا الجانب وكثيرا من الغباء والحماقات في الجانب الآخر.

بالأخير يحقّ لي، ويشجّعني موقع "الأوان"، حين يدعو أنه آن الأوان لقول شيء أو للتذكير بشيء، مثلما هو الحال مع العيّنة الخطيرة التي سأعرضها عليكم لجدال حدث منذ أكثر من 18 سنة حين وقعت واقعة سلمان رشدي وأفتى ما يسمّى "آية الله" الإمام الخميني بقتل سلمان رشدي ورصد لذلك مليوني دولار. وللأسف أن تلك الفتوى المشؤومة مازالت سارية المفعول سريان النار في الهشيم إلى حدّ الآن. في ذلك الوقت كنّا في تونس نحتفل ونزدهي بديمقراطية وليدة يشارك فيها الجميع، قبل أن يخلّ بها الخوانجية قبل غيرهم. كتبت وقتها بامضائي عن سلمان رشدي ضدّا عن هشام جعيط في مجلة "المغرب الغربي" لصاحبها الكبير، الذي له علينا أفضال، السيّد عمر صحابو، بعدد 146 بتاريخ الجمعة 7 أفريل 1989.

والمأساة الحقيقية الصارخة هي كما لو أنه لم تمض من أعمارنا حوالي العقدين. مازال أغلب العرب وغالبية المسلمين يرفسون في الصحن المقعور ذاته ويلوكون مشاعرهم وسخفهم وسخافتهم وسفاهتهم الملازمة لوجودهم الراهن، كما لو أن تاريخهم في العقدين الزائلين لم يشهد شيئا جديدا. لا صومال ولا أفغانستان ولا عراق ولا… كما لو أننا نحن أنفسا لا نزال نخوض الصراع ذاته بذات اللغة التكرارية والأفكار البديهية الضحلة، والجدل العقيم ببراهينه وحججه الرثّة الركيكة

هنا مقدمة المجلة التونسية، وقد كانت حسب معرفتي المجلّة الوحيدة باللغة العربية التي فتحت النقاش حول موضوع فتوى الخميني ورواية "آيات شيطانية" ونشرت مختلف أنواع المقاربات والمواقف والآراء:

"في الملف الذي خصصناه لقضية "الآيات الشيطانية" في العدد 141 صرّح لنا الدكتور هشام جعيّط بأنه لا يؤمن بالاستفزاز في الإبداع، وأنه لن يقرأ كتاب سلمان رشدي ولو وصله، لأن الضجة التي سبقته تفوقه بكثير. ولقد أثار هذا التعليق الصديق حسن بن عثمان فوافانا بهذا الردّ." (آيات شيطانية… وكتّاب أشطنُ

في خضم هذه المشاعر الملتهبة والمتوترة، وهذا السخط العارم، وهذا الجوّ المشحون بالهياج وبالأصوات المتزاحمة الصارخة، التي تتملق وتناور وتنافق وتتذرع بالعاطفة، وأغلبها مندفع لتغذية مشاعر العامة في الكراهية والحقد وتأجيج نزعة طلب الثأر لديها، بمزيد من التضخيم والتهويل لما عرف بقضية سلمان رشدي، وتحويلها إلى فرصة يتبارى فيها (الغيّرون) على الإسلام و(المجرّمون) للغرب المسيحي.

في خضم هذه الأجواء الكالحة التي تسود فيها العاطفة والغريزة، وتذكّر بالأجواء التي تسبق اندلاع محاكم التفتيش والقتل على الهوية، ينبري الرسميون والمقموعون والصامتون إلى تحويل شخص سلمان رشدي إلى كارثة عدوانية ووباء مطبق، لا مثيل لهما، يحلاّن بالدين الإسلامي ويستهدفان نسفه من الأساس، وتُظهر ذلك الكاتب الآسيوي كما لو أنه اقترف جرما شنيعا لم يسبقه إليه أحد. جرم من الخطورة بحيث يستدعي استنفار وتعبئة جميع المسلمين على وجه الأرض، بطمّ طميمهم، لاقتفاء آثار سلمان رشدي وهدر دمه علانية وإحراق جثته على النيران المنبعثة من نسخ كتابه المحروق.

طبعا نحن بإزاء كتاب عبارة عن رواية، ولسنا حيال جريمة نازية، لا نقول ترتكبها إسرائيل، بل هذه الدولة أو تلك من الدول التي لا تُسمّى. فعلا نحن إزاء كتاب، وإزاء فيض من الكلام التحريضي حول هذا الكتاب. كلام تغيب عنه المعرفة لتحلّ محلّها السياسة، والسياسة هنا في بعدها الحربي التخريبي، وهي أخطر نوع من أنواع السياسة. وفي مثل هذا الجوّ لا مجال للهدوء أو الاتزان أو نشدان الحقيقة، لذلك فالأجدى أن ندفع الأمور إلى منتهاها. دون أن نطرح سؤالا حول شروط المعرفة وشروط السياسة في الكلام عن كتاب فنّي روائي لم يطلع عليه أحد من الذين أدانوه. ودفع الأمور إلى منتهاها يتم بمزيد التأجيج وإذكاء التهييج، من موقع الدفاع عن الإسلام بطبيعة الحال، وهل هناك موقع أكثر سلامة وراحة ورياء من هذا الموقع؟

ومن هذا الموقع المدافع عن الإسلام نقرأ رأي الأستاذ هشام جعيّط حول قضية سلمان رشدي، ونستمع إليه بانتباه وارتياب وهو يبدي تقززه من الكتاب ويعلن عدم استعداده لقراءته لو أتيح له ذلك، لأن الكتاب هو استفزاز للإسلام ومشاعر المسلمين حسب مقتطفات قرأها في الإعلام الغربي. ولا ينسى الأستاذ جعيّط أن ينهي رأيه بدعوة، أو بالأحرى، بتأليب الحكومات العربية (هكذا) لاتخاذ موقف صارم من الكتّاب وأيضا من الغرب الذي نشر فيه الكتاب.

واضح أن هذا الموقف إنما يصدر عن مثقف ومفكر بارز في الديار التونسية، لذلك فهو موقف يتمتّع بأهمية استثنائية تؤهله ليكون عيّنة منتخبة لموقف الفكر عندنا من القضايا التي تشغل الرأي العام، سواء بصورة حقيقية أو مزيّفة، وكما قلنا قبلا، فسيكون موقعنا هو موقع المدافع عن الإسلام تجاه ما يسمّى (بالاحتقار الصليبي الغربي للدين الإسلامي) وتجاه ما يكتب عن دين الإسلام بعقلية متشكّكة ومناوئة ولا دينية…

ومما يثير فينا العزم أن نعلن، بدءا، أن أشباه سلمان رشدي في ديار الإسلام كثيرون متكاثرون، ولعلنا لا نجانب الصواب حين نشير إلى أن الأستاذ هشام جعيّط هو في تعاطيه مع الإسلام يصدر من نفس العقلية والروح التي يتخذهما سلمان رشدي، وكذلك يلتقي معه في نفس الهدف والنتيجة، كما لا يغيب على البال أيضا أن جعيّط ينشر هو الآخر كتبه في الغرب (فرنسا) وهذه البلدان هي التي تروّج كتبه مثله في ذلك مثل سلمان رشدي. ولكي لا نظهر أننا نتجنّى عليه سنحاول أن نعامله كما عومل سلمان رشدي من طرف الغوغاء الإعلامية، ونثبت تاليا بعض مقتطفات من كتاب جعيّط الذي صدر سنة 1974 في منشورات seuil بباريس تحت عنوان La Personnalité arabo-musulman et le devenir arabe وأعيد طبعه في دار الطليعة ببيروت مترجما للعربية تحت عنوان: "الشخصية العربية الإسلامية والمصير العربي". وهو كتاب إذا نظرنا له من زاوية دينية نلقاه مكتوبا بروح وفكر ملحدين. سنوجز منه بعض الإشارات:

في مجال اقتراحه لشكل المجتمع والدولة يقول: يمكن زحزحة الإسلام ويجب فعل ذلك (ص 95 من النسخة العربية).

لا ننازع في أن الماركسية تمثّل أملا على صعيد البشرية قاطبة.

نحن ندّعي العلمانية بمعنى أننا نعتقد ضرورة الفصل الجذري بين التشريع الديني والممارسات الاجتماعية والقانون والأخلاقية الممارسة (112).

من حسن الحظّ أن الإنسان خالف باستمرار الدّين أو أن الدّين بقي مثلا لم يطبّق كلّه أبدا وإلا سحقت الحياة (117).

لكن التفكير المتسلّح (تفكير جعيّط) يمكنه التقدّم خطوات أخرى فيتساءل كيف يقبل العقل الناقد العذاب الأبدي فضلا عن كونه جسديا، بالنسبة لغير المؤمنين، وكيف للنزعة الإنسانية الكونية لعصرنا أن تسمح بذلك؟ أين يكمن الحلّ للتناقض بين الحرية ومسؤولية الإنسان التي يتضمنها مفهوم الحساب، وبين قدرة الله وظلمه أو يكاد، التي يترجم عنها القضاء والقدر؟ وهذا الإله ذاته، الشخصي والمتعالي، أي لعبة يلعب؟ لماذا كان متخفيّا؟ أوَ لاَ كان يتكشّف مرّة واحدة وبوضوح للإنسان؟ (124).

القرآن هو في آن عمل الله والرّسول (130).

يوجد رعب لا يكاد يطاق في الدين.

لا منازع في العنف الوارد بالقرآن (135).

إن تخليص المجتمع من سيطرة الدّين أو بالأحرى من المحتوى المؤسساتي الإسلامي المرتبط بعصر مضى، وتجديد علمانية جديدة في أسلوبها، تلك المهمة العاجلة الضرورية وهي مهمة عملية (10).

نقتصر على بعض من هذه الإشارات المقتطعة من كتاب الأستاذ جعيّط، وهي تشكّل، ولا شكّ، إذا نزعت من سياقها (استفزازا) لمشاعر المسلمين تدفع بهم إلى الموت مثلما حصل في الباكستان. وهي بالنتيجة تشكل نظيرا لما أوردته الغوغاء الإعلامية من الكتاب الروائي لسلمان رشدي.

الأستاذ هشام جعيّط يدرك أكثر من غيره أن المعرفة الحديثة كلها، المصاغة في الكتب والمقررة في مناهج التدريس بالمعاهد والجامعات والمستوعبة من طرف المدرسين يمكن أن تُدرج كلّها في الفكر (الحروبي الصليبي) الذي يندرج بدوره وحسب تعبير جعيّط في (تصفية الحسابات بين المركز الأوروبي والمسلمين). مما يستدعي استفزاز مشاعر المسلمين ويدفعهم للتضحية بأرواحهم على غرار موت (بعض المسلمين في الباكستان).

ومن دواعي الانحطاط حقا أن لا يغيب عن أذهاننا أن كتاب سلمان الذي نحن بصدده هو كتاب أدبي فني روائي، لم يطلع عليه أحد، وأن كل الذين تكلموا عنه هم أهل فتيا، دفعتهم الإشاعة لا غير لإصدار أحكامهم، ولم نسمع في هذه البلاد برأي ناقد أدبي أو روائي حول الكتاب المذكور؟

لكن وما دمنا نتعامل مع المشاعر والاستفزاز ـ وهذان المصطلحان ترددا كثيرا في خلال الضجّة الهوجاء العارمة وخاصة من طرف المفتي ورئيس الجامعة الزيتونية وبعض المفكرين والمثقفين ـ فكأن المسلمين هم كتلة من المشاعر المرهفة المشرعة على الحساسية لا غير، أي لكأن المسلمين كتلة بلا منطق ولا عقل ولا فكر، أي لكأن المسلمين كتلة مريضة سريعة الاستجابة لأي عطب مهما ضؤل

إذن، ما دمنا نتعامل مع المشاعر والاستفزاز فلماذا لا ندفع هذه المقدمات إلى نتائجها المرتقبة، وذلك بالتوجّه بالسؤال إلى هؤلاء المدافعين عن الإسلام في مقابل رواية سلمان رشدي الإشاعة ـ لاحظوا كم ابتذلوا الإسلام وجعلوا منه هشّا ومائعا ـ نسألهم مثلا عن رأيهم في الحزب الشيوعي التونسي القانوني والرسمي، هل أن وجوده ينسجم مع مشاعر المسلمين أم يستفزّها؟ نسألهم أيضا عن هذه الأحزاب اليسارية والماركسية التي لا تخفي مرجعياتها، هل هي مع مشاعر المسلمين أم ضدّها؟ وهذه الكتب التي في الأكشاك وفي المكتبات، وهذه الأفلام التي في قاعات السينما، وهؤلاء السيّاح، والكنيسة في قلب شارع الحبيب بورقيبة وبيعة اليهود ومعبدهم في قلب شارع الحرية (إلخ… إلخ) هذه المظاهر والأمور والتعابير هل هي يا ترى مع مشاعر المسلمين أو مناوئة لتك المشاعر؟

عموما فقد جاء في الكتاب العزيز "ان الله متمّ نوره ولو كره الكافرون" ولم تقل الآية الكريمة أن الله متمّ ظلامه، لقد قالت نوره، وكم نحن نعْمَهُ في الظلام، وكم يبعث فينا هذا الظلام من حسد للآخرين وما يتمتعون به من نعمة العقل والحرية والرفاه، لدرجة أن حسدنا لهم يقودنا لإغراقهم في ظلام مثل ظلامنا

إن ما جاء من رأي الأستاذ جعيّط بخصوص قضية سلمان رشدي لهو مما يندرج في أزمة الفكر العربي برمّته. هذا الفكر الذي هو في مأزق وغير قادر على أن يتمزّق، وأن يحسم أموره ويوضّح ما الذي يريد وما الذي لا يريد.

وسنبدي في الأخير استغرابنا واستنكارنا لهذه الدعوة التي وجهها الأستاذ (للدول العربية لتأخذ موقفا صريحا عوض الحفاظ على علاقاتها غير المتكافئة مع أوروبا) لنقول أن هذه الدول كان لها باستمرار موقف صريح من قضايا الكتب والفكر وحرية التعبير والنشر، وهو موقف قاطع مانع، لكن إذا كان لنا أن نطالبها بموقف فإنما ينبغي أن يكون في مسائل أخرى، دون أن نتخذ من قضية سلمان رشدي ومن التهييج أسلوبا، في مسائل من نوع هذه التبعية الاقتصادية والثقافية والسياسية والإعلامية الخاضعة لها كل الدول العربية ومنها تستمدّ امتيازاتها ومصالحها. لكن فللبيت ربّ يحميه، كما للدّين ربّ يحميه على رأي عبد المطلب جدّ الرسول الكريم. حسن بن عثمان).

انتهى النصّ المنشور في العدد 146 من مجلة المغرب العربي. الجمعة 7 أفريل1989

ولا نضيف له بعد 18 سنة وبضعة أسابيع من كتابته ونشره إلاّ: " هل ثمة دين في الدنيا هشّ إلى هذا الحدّ يخاف من رواية أدبية مع أن دين الإسلام جاء ليكون كلّ الرواية وما فوق الرواية؟ فكيف ينحطّ معتنقوه ويحطّون من قدره وقيمته إلى هذا الدرك السفلي؟".

حسبنا اللّه ونعم الوكيل


المراجع

موسوعة الاوان

التصانيف

فنون  أدب  أعمال أدبية