سلسلة تأملات تربوية في بعض آيات القرآن الكريم

إبراهيم عليه السلام أبو الحجة والمنطق (1)

 

لقد أعطى الله عز وجل خليله إبراهيم عليه السلام الحُجة البالغة، القوية الدامغة، التامَّة الكاملة، التي ليس فيها نقص ولا غموض، وحاجَّ بها قومه عبَّاد الكواكب والتماثيل، وأبهت بها النمرود؛ ﴿ وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ ﴾ [الأنعام: 83].


وتهدف هذه المقالة إلى:

1- بيان ما كان يتمتَّع به إبراهيم عليه السلام من ذكاء بالغ استخدمه في مشوار حياته الدعوي، ومارس قدرات فكرية متعدِّدة، يُسميها الآن علماء النفس بالذكاء الناجح، وهو آخر ما توصل إليه العالم "روبرت ج ستيرنبرغ" منذ عشرين عامًا فقط.

2- بيان ما كان يتمتَّع به إبراهيم عليه السلام من الحُجَّة كمنهج علمي امتاز به خطاب الوحي، من خطاب عقلي منطقي، يَجهله الكثيرون، ولا يُجيدونه في دعوتهم، مما جعل أعداء الإسلام يتهمونه بالجمود والتخلف.

3- بيان الأنواع المختلفة من المنهج العِلمي، والمواقف الواقعية التي يستخدم فيها.

4- بيان بعض الإعجاز العلمي في القرآن الكريم التي جاءت في ثنايا الأحداث.

5- بيان ما يظنه البعض كذبًا في أقوال إبراهيم عليه السلام: ﴿ إِنِّي سَقِيمٌ ﴾ [الصافات: 89] ﴿ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا ﴾ [الأنبياء: 63]، بل هي فروض افترضها إبراهيم عليه السلام بما يتماشى مع معتقدات القوم وأهوائهم؛ كقوله أيضًا للكوكب، ثم القمر، ثم الشمس، لما رأى كل واحد منهم: هذا ربي، ثم أعقب ذلك إثباته لهم عدم صحة هذه الفروض بالمنهج العلمي الذي يَقبله العقل، وهذا مُنتهى الذكاء، والذي يُسمى الآن: "الذكاء الناجح"؛ أي: الذي يَعني التفكير القائم على العلم بالبيانات الموجودة وتحليلها واستخدامها لحل مشاكل في الواقع الحياتي بنجاح.


لقد مرَّت رحلة دعوة إبراهيم عليه السلام لقومه في مراحل مُتتابعة، كل مرحلة تمهد للمرحلة التالية لها، وتقوم على المرحلة السابقة لها، كما تدلُّ على ذلك الأحداث التي روتها العديد من السور القرآنية، وإن كان ما جاء بكل سورة ليس تكرارًا لما جاء بالأخرى، ولكن يكمل بعضه بعضًا، وما جاء بكل سورة يناسب موضوعها، فالقرآن الكريم ليس به تكرار كما يؤكِّد على ذلك المفسرون.


المرحلة الأولى:

دعوة إبراهيم عليه السلام قومه لعبادة الله بالقول والنصيحة المباشرة:

إنَّ قوم إبراهيم عليه السلام كانوا يعبدون الكواكب، ويُصوِّرون أصنامًا على صُورها يعبدونها ويَعكفون عليها.

فبدأ إبراهيم عليه السلام دعوة قومه إلى توحيد الله بالعبادة، وبيَّن لهم أن ما يَعبدون ما هو إلا إفك مفترى، وأنها لا تَملك لهم رزقًا، ثم أخبرهم بأنه مُبلِّغ من ربه لا يَستطيع هدايتهم إلا بإذن الله، ولفَت أنظارهم إلى أنَّ مصيرهم - إن لم يستجيبوا للدعوة - مصير أمثالهم من الأُمم السابقة.

قال تعالى: ﴿ وَإِبْرَاهِيمَ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاتَّقُوهُ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

  • إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * وَإِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ الْمُبِينُ ﴾ [العنكبوت: 16 - 18].


وبدأ القوم يُراوغون فيما عرضه عليهم إبراهيم، وأصرُّوا على ما هم فيه، وكانت حُجَّتهم: ﴿ قَالُوا وَجَدْنَا آبَاءَنَا لَهَا عَابِدِينَ ﴾ [الأنبياء: 53].


المرحلة الثانية:

استخدام المنطق العقلي بالبرهان العلمي

(منهج البحث العلمي) الهادئ:

بعد عدم استجابة قوم إبراهيم عليه السلام لدعوته المباشرة بالقول والنصيحة المباشرة، هداه ربُّه إلى مسلك آخر يُحاول به إقناع قومه: ﴿ وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ ﴾ [الأنعام: 75].


هذا المسلك قائم على عدة أسُس:

1- مُسايرة قومه على ما هم فيه من اعتقاد؛ من أجل استمالة قلوبهم للاستِماع، ومن أجل أن يعطوا عقولهم فرصةً للتفكير الهادئ البعيد عن التعصُّب وعدم وضع الأقفال عليها بعنادهم.

2- استخدام الحقائق الكونية البادية للعيان في صفحة الكون والتي لا ينكرها الإنسان.

3- استخدام المنهج العلمي القائم على التفكير العقلي السليم؛ بفرض الفروض التي تُساير اعتقاداتهم، ثم اختبار صحة كل فرض بالمنطِق العقلي القائم على مشاهدة الحقائق الكونية في صفحة الكون.

عدم فرض رأيه عليهم في تفنيد الفروض، فكان يُخاطب نفسه ويلومها أمامهم دون مس مشاعِرِهم أثناء اختبار هذه الفروض.

4- التدرُّج مع القوم للوصول إلى الحق دون غرة عقلية؛ لأن الهدف هو إقناعهم، وليس إفحامهم وهزيمتهم وبيان جهلهم، فهي دعوة ربانية.


فهيا بنا نرى ذلك.

﴿ فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآفِلِينَ ﴾ [الأنعام: 76].

نوَّرَ الله عز وجل بصيرة إبراهيم عليه السلام ليرى بهذه البصيرة الحقائق الكونية (ملكوت السموات والأرض) التي بها يكون يقينه، فقد رآها ببصرِه طوال أيام حياته مِن قبل، فالنجوم والقمر والشمس تظهر في صفحة السماء يوميًّا ثم تغيب، ولكن ما الجديد؟ إنه يحدِّث نفسه أمام القوم كأنه يرى ذلك لأول مرَّة، فهو يمعن التفكير بعقله أمامهم؛ ليُحرِّك عقولهم، ويستخدم المنطق العقلي لإثبات حقيقة الألوهيَّة، مُستخدمًا الحقائق الكونية التي يُشاهدها في إثبات هذه الحقيقة؛ حتى يُقنع قومه المشركين بها.


هنا يفترض إبراهيم عليه السلام فرضًا: (هذا الكوكب ربي)، ويحاول إثبات مدى صحَّته بالمنطق العقلي الفطري الذي غرسه الله في فطرة كل إنسان.

إنه يرى هذا الكوكب يغيب ويَختفي، فيدرك أن هذا الفرض غير صحيح؛ لأن ربي لا يغيب.

ثم يعاود الكرَّة ليفترض فرضًا آخر: (هذا القمر ربي)، وكان مبرِّره في ذلك أنه أكثر سطوعًا من الكوكب السابق.

﴿ فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ ﴾ [الأنعام: 77]، ثمَّ يُحاول إثبات مدى صحة هذا الفرض.

لقد غاب سطوع القمر، إذًا هذا الفرض غير صحيح أيضًا، إن ريي لا يغيب ولا يَخبو.

وهنا وبعد عدم صحَّة الفرض الثاني، يستعين بربه الذي لم يرَه بعد أن يَهديه في تفكيره للوصول إلى كيفية الإثبات، وهو هنا يَلفت انتباه القوم إلى ما سيصل إليه؛ حتى لا تكون المفاجأة على نفوسهم.


﴿ فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ ﴾ [الأنعام: 78].

ولكنه يعود مرةً أخرى ليفرض فرضًا ثالثًا:

لقد رأى الشمس أكثر سطوعًا وأكبر حجمًا من القمر، فافترض أنها ربه، وذهبَ يَبحث عن مدى صحة ذلك.

لقد أفَلَتْ هي الأخرى، فأيقن عدم صحة ذلك.

ولكن كيف عبَّر إبراهيم عليه السلام عن عدم قبول هذا الفرض؟

انظر ماذا قال: ﴿ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ


بقول هذه العبارة الواحدة حقَّق بها:

رفض الفرض الثالث.

رفض الفروض الثلاثة معًا.

تغيير مسار البرهان للوصول للفرض الصحيح.

إنه يُخاطب نفسه ويُخطِّئها في فرض الفروض السابقة.

ويوجِّه الحديث في نفس الوقت إلى القوم في لباقة وأدب جمٍّ في الخطاب لعلَّهم يرشدون.


مسلسل

الفرض

اختبار صحة الفرض

نتيجة الاختبار

الفرض الأول

رأى كوكبًا قال هذا ربي

فلما أفل

قال: لا أحب الآفلين

(رفض الفرض)

الفرض الثاني

فلما رأى القمر بازغًا قال هذا ربي

فلما أفل

قال لئن لم يَهدِني ربي لأكونن من القوم الضالين

(رفض الفرض)

الفرض الثالث

فلما رأى الشمس بازغةً قال هذا ربي هذا أكبر

فلما أفلت

قال يا قوم إني بريء مما تشركون.

(رفض الفرض)


ثمَّ استطرد ابراهيم عليه السلام قائلًا:

﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79]

وهذا هو "الفرض العكسي الموجَب" كما يتمُّ تسميته في المنهج العلمي الوضعي الذي وضعه البشر، والذي يتم فرضه بعد رفض الفروض.


البرهان المعاكس Contraposition هو أن تفرض عكس المطلوب إثباته، ومنه تصل إلى عكس المفروض.

ونحن هنا لا نقيس كلام الوحي على كلام البشر، نَستغفِر الله، ولكن لنبيِّن الإعجاز القرآني للبشَر وأن القرآن به علم العلوم.

انظر كلمة ﴿ حنيفًا ﴾ في الآية ومعناها في معجم القرآن الكريم.

إنها تعني مائلًا عن الباطل إلى الدين الحق.

فمائلًا تعني عكس.

ففي الفروض: الكوكب، والقمر، والشمس كلها تُرى، والله لا يُرى.

هذه الأشياء مخلوقة (مفطورة)، والله فاطرها.

هذه الأشياء تغيب وتَختفي، والله لا يَغيب.

هذه الأشياء مَحدودة رغم كبرها كالشمس في الفرض الثالث، والله الأكبر، والله واسع لا يُحيطه شيء.


لذلك جاء الفرض العكسي المُوجب (عكس الفروض السابقة)، والذي عبَّر عنه إبراهيم عليه السلام بالقول:

﴿ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ﴾ [الأنعام: 79].

لاحِظ أن إبراهيم عليه السلام في صياغته للفرض الصحيح ما زال يوجه الحديث لنفسه، رغم أن هذا الكلام موجَّه إلى قومه؛ كتلطُّف في الخطاب لعلهم يَهتدون.


تذكَّر هنا

إنَّ إبراهيم عليه السلام في هذا المَوقف هو الذي فرض الفروض، وهو الذي قام بمُناقشة عدم صحَّتها، ثم صاغ في النهاية الفرض العكسي الموجَب.

وكان قومه مُستمعين لحواره؛ لأننا سنلاحظ اختلافًا جوهريًّا بعد ذلك في مرحلة تكسير الأصنام، وسنُناقش ذلك في حينه.


المراجع

alukah.net

التصانيف

قصص  مجتمع   قصة