كان قارون من قوم موسى عليه السلام، كما أخبر عنه الحق تبارك وتعالى ( إن قارون كان من قوم موسى فبغى عليهم وآتيناه من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولي القوة إذ قال له قومه لاتفرح إن الله لايحب الفرحين ) القصص 76.

وكان فرعون قد علا في الأرض وتجبر واستعبد بني إسرائيل ( إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم إنه كان من المفسدين ) القصص 4. وأثناء هذا الإضطهاد البشع لبني إسرائيل، بعث الله نبيه موسى عليه السلام لإنقاذهم من الإبادة التي كان يمارسها ضدهم فرعون وجنوده، فكان عليه السلام يصدع بما بعثه الله به من الحق أمام هذا الطاغية ويطالبه بتحرير بني إسرائيل من الإستعباد المهين ( حقيق على أن لا أقول على الله إلا الحق قد جئتكم ببينة من ربكم فأرسل معي بني إسرائيل ) الأعراف 105.

أما قارون الذي كان يفترض أن ينتصر لقومه ويدعم قضيتهم بما آتاه الله من المال والجاه، فقد انحاز إلى الجانب الآخر خوفاً على الامتيازات التي اكتسبها على حساب فقراء بني إسرائيل، أن تنالها يد العدل فيما لو أمكن لموسى عليه السلام أن ينتصر (وقارون وفرعون وهامان ولقد جاءهم موسى بالبينات فاستكبروا في الأرض وما كانوا سابقين) العنكبوت 39. ورغم خيانة قارون لقومه بتحالفه مع عدوهم كان ضعفاء الإيمان من بني إسرائيل يتمنون مكانته الاجتماعية لما رأوا ماهو فيه من بهارج الحياة الدنيا وزينتها ( فخرج على قومه في زينته قال الذين يريدون الحياة الدنيا ياليت لنا مثل ماأوتي قارون إنه لذو حظ عظيم ) القصص 79.

يقابل ذلك فئة العلماء الذين يؤثرون ماعند الله من الثواب، على ما حوت الدنيا من مباهج وملذات يعلمون يقينا أن مصيرها إلى الزوال ( وقال الذين أوتوا العلم ويلكم ثواب الله خير لمن ءامن وعمل صالحا ولا يلقّاها إلا الصابرون ) القصص 80.

وكانت النهاية انتصار فريق الحق الذي يمثله موسى عليه السلام والمؤمنون ( كذلك وأورثناها بني إسرائيل ) الشعراء 59. واندحار فريق الباطل الذي يمثله فرعون وهامان وقارون، فالأول والثاني هلكا غرقا، أما الثالث فقد خسف الله به وبداره الأرض يتجلجل بها حتى قيام الساعة ( فخسفنا به وبداره الأرض فما كان له من فئة ينصرونه من دون الله وما كان من المنتصرين )القصص 81.

هذا المشهد نراه يتكرر في عالمنا الإسلامي، خاصة المناطق الساخنة كفلسطين والعراق وأفغانستان، فدول الإحتلال الصليبي اليهودي تمثل دور فرعون بكل فصوله الإجرامية من قتل وتشريد ونهب ثروات وانتهاك أعراض، أما قارون فيمثل دوره بعض المترفين من أبناء الأمة الذين نشأوا وترعرعوا في ظل الإحتلال منذ اتفاقية سايكس بيكو حتى هذا التاريخ، وغالبا مايكونون من العوائل المتنفذة بالعشائر العربية، يقول جون غلوب باشا في مذكراته: ( كانت الحكومة البريطانية بالعراق تحرص دائما على دعم أحد أفراد عائلة زعيم القبيلة وتهميش دور الزعيم الأصلي وتأليب أفراد العشيرة ضده في ترويج الدعاية المسيئة له عندهم بصفته لايراعي مصالح قومه وإن مصلحتهم تكمن في ذلك الزعيم الجديد المدعوم من الدولة المحتلة، وبالتالي يتحول ولاء العشيرة من زعيمها التقليدي إلى ذلك الشخص المصنوع بوحي المحتل، الأمر الذي يجعل هذا الأخير يدين بالعرفان لمن أوصله إلى هذه المرتبة الرفيعة في عشيرته)

وقد أورد غلوب باشا مثالين على هذه السياسة، المثال الأول تنصيب يوسف بن سعدون زعيما لقبائل المنتفق بدلاً من زعيمها الأصلي عجمي بن سعدون. أما المثال الثاني فهو تنصيب لزام أبو ذراع زعيما لقبائل الضفير بدلاً من حمود بن سويط. ومما ذكر هذا المجرم عن لزام أبو ذراع قوله: ( كنت أجلس معه في خيمته بعد تنصيبه رئيسا لعشائر الضفير كي أعطيه بعض التعليمات التي يجب أن يلتزم بها، وهو جالس يستمع إلى ماأقول باهتمام بالغ وكان يرتدي ثوب متسخ وعباءة ممزقة، فعندما فرغت من حديثي إليه نظر إليّ وقال: أسير على أنفي لتنفيذ ماتقول) وهذا الإستهجان يدل على مدى الحقد والإحتقارالذي يكنه هؤلاء المجرمون للمسلمين بغض النظر عن موالاتهم لهم0

ولم يكتف المحتل بتهيئة الجو الإجتماعي لعملائه كي يتبوؤا أماكن مرموقة في مجتمعهم فحسب، ولكنه هيأ لهم أيضا الهيمنة الإقتصادية فملكهم الأراضي ومكنهم من الإستيلاء على مقدرات الأمة، الأمر الذي جعلهم يتحكمون في معيشة الناس كيفما يشاؤون، فالكل عندهم أجير، وكل أجير يخشى أن يفصله رب العمل من عمله الذي هو مصدر رزقه، ولذلك نرى انتشار شراء الذمم على أوسع نطاق في فلسطين والعراق وأفغانستان، فضعف الإيمان إضافة لضيق ذات اليد بين أفراد الأمة، جعل هؤلاء العملاء يشكلون مايسمى زوراً ( مجالس الإنقاذ ) التي تخدم مصلحة المحتل أولا وآخراً، فلا غرابة أن يثني زعماء الإحتلال على الدور الذي تؤديه هذه المجالس لمساعدة قواتهم المهزومة، فقد قرأت قبل أيام تصريح لوزيرة الخارجية أو وزير الدفاع الأمريكيين، لا أذكر لأيهما، يقول فيه أن سياسة تحالف العشائر العراقية مع قواتهم قد نجحت في إخراج الإرهابيين على حد قوله من منطقة الأنبار بالعراق الأمر الذي يشجع المخططين الأمريكان على تطبيقها في مناطق أخرى، وهذا ماتم بالفعل في محافظتي صلاح الدين وديالي، وغيرها من المحافظات العراقية، ولا يستبعد أن تتعدى هذه الإستراتيجية الإستعمارية حدود العراق إلى بلدان أخرى يرى المحتل أن له مصالح إستراتيجية باحتلالها.

أما دور موسى ومن معه من مؤمني بني إسرائيل، فيمثله رجال الأمة المخلصين من علماء وقادة ومنظرين ومجاهدين، فهؤلاء يعلمون أن المحتل هدفه القضاء على عقيدة الأمة واستباحة بيضتها والاستيلاء على ثرواتها، ويعلمون أيضا أن العدو يدرك أنه لن يتحقق له هذا الهدف إلا بعد القضاء على شباب الأمة الذين يمثلون مخزونها الإستراتيجي حتى وإن كانوا موالين لسياسته الاستعمارية، فالعدو لايفرق بين هؤلاء ولا أولئك لعلمه أن الأمة ستصحو من غفوتها يوما ما وأن هؤلاء المستضعفين الذين غرر بهم ورثة قارون سينضمون حتما إلى الركب الجهادي المبارك، وسيقولون عنهم كما قال الذين تمنوا مكانة قارون من قبل ( وأصبح الذين تمنوا مكانه بالأمس يقولون ويكأن الله يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر لولا أن منّ الله علينا لخسف بنا ويكأنه لايفلح الكافرون) القصص 82. عندها سيتحقق للأمة النصر والتمكين بإذن الله كما تحقق لموسى عليه السلام وقومه ( قال موسى لقومه استعينوا بالله واصبروا إن الأرض لله يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتقين ) الأعراف 128.

المراجع

شبكة نور الاسلام

التصانيف

قصص