الأيديولوجية القومية العربية مشرقية المنشأ ومشرقية الخصائص. بدأت إرهاصاتها الأولى في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، يوم كانت بلاد الشام وبلاد الرافدين جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. وتجلت تلك الإرهاصات في أفكار نخبة من المفكرين وقادة الرأي من أمثال عبد الرحمن الكواكبي، وعبد الحميد الزهراوي، وعبد الغني العريسي ونجيب عازوري وغيرهم ممن تصدوا لمناهضة الاستبداد العثماني من جهة، وللنزعة الطورانية وسياسة التتريك من جهة أخرى. ومنهم من قرنوا مطلب الإحياء الإسلامي بالإحياء العربي (رشيد رضا وشكيب أرسلان ..). كما تجلت في جمعيات سياسية أو ذات بعد سياسي توجها مؤتمر باريس 1913. ولم تبلور "نظرية" قومية عربية إلا في النصف الثاني من القرن العشرين يوم كانت شمس القومية قد بدأت تميل إلى الغروب عن أوروبا، في عالم بدأ يتنبه للشرور الإمبريالية في القومية المسلحة بالأسنان والأنياب، كما لاحظ جورج طرابيشي (راجع جورج طرابيشي،الدولة القطرية والنظرية القومية، دار الطليعة للطباعة والنشر، بيروت، ط1، 1982. وسوف نشير إلى الاقتباسات الأخرى من هذا الكتاب بوضعها بين حاصرتين وإثبات رقم الصفحة في المتن).
ومن ثم، فإن طابعها العربي مبتور من البداية، فلا تكاد تجد لها صدى يذكر في البلدان العربية الإفريقية، إلا بعد الحرب العالمية الثانية: في الجزائر في أثناء الثورة على الاستعمار الفرنسي، وفي مصر، بعد معركة السويس، حتى وفاة عبد الناصر، ولا في الجزيرة العربية، قبل تحالف الهاشميين والبريطانيين، وتصديهم لقيادة "الثورة العربية"على العثمانيين، من دون أن نتجاهل تأثيرها المتفاوت الشدة في الأوساط الثقافية العلمانية وشبه العلمانية، في هذه البلدان، ومن دون أن نتجاهل تمسك الدول العربية الإفريقية باللغة العربية والثقافة العربية الإسلامية في مواجهة الدول التي استعمرتها.
الطابع المشرقي للحركة القومية قد يفسر عدم ارتباط فكرة الأمة بفكرة الدولة لدى روادها الأوائل، ثم لدى منظريها فيما بعد، مع أن مبدأ القوميات في كل مكان يقوم على أن "لكل أمة الحق في أن تكون دولة… وينبغي أن تتطابق حدود الدولة مع حدود الأمة… وأن للأيديولوجية القومية "صوتاً مزدوجاً: بصوت أول تتكلم عن التوحيد، وبصوت ثان تتكلم عن الانفصال". فإن رواد الحركة القومية أسقطوا عامل الدولة من المسألة القومية بسبب نزعة عثمانية ترتكز، "على ضرب من الانتماء الديني يتنافى أو يتعارض، أو على الأقل لا يتطابق مع الانتماء القومي"؛ وتعيد "تفسير حق الأمة، أو المبدأ القومي، من منطلق مجاملة ذلك الشعور الديني، مما عرض الأيديولوجية القومية لعملية بضع وبتر مماثلة لتلك التي عانت منها الأيديولوجيات الليبرالية والاشتراكية والعقلانية عند تكريرها في مصفاة المذهب التوفيقي لمعظم أيديولوجيي عصر النهضة العربي"(1). فإن "ضريبة الانتقاء والتحريف التي أدتها الأيديولوجية القومية للأيديولوجية الدينية المهيمنة تمثلت في اختزال حق الأمة، الذي هو في الجوهر حق سياسي، إلى مجرد حقوق ثقافية: حق لغة وحق انتماء وحق حفاظ على ما أسماه عبد الغني العريسي "خصائص العرب وميزات العرب" …"(2).
النزعة العثمانية نزعة مركبة من عنصر ديني مشدود إلى الخلافة الإسلامية، وعنصر إثني عربي، قوامه وحدة الأصل ووحدة اللغة ووحدة التاريخ، مشدود إلى الحفاظ على خصائص العرب وميزاتهم. والعنصران معاً أثارهما الاستبداد العثماني من جهة والشوفينية الطورانية من جهة أخرى. ومن ثم فإن البعد السياسي في تلك النزعة كان يتأرجح بين مطلب اللامركزية ومطلب الاستقلال، على أن مطلب اللامركزية وإصلاح أحوال السلطنة كان الأقوى، لا بسبب العامل الديني فقط، بل بسبب الخوف من الأطماع الغربية أيضاً، ولعل الأهم من هذا وذاك أن بلاد الشام لم تعش تجربة دولة من قبل، لذلك كانت مطالب رواد الحركة القومية العربية تراوح بين إصلاح السلطنة العثمانية ومساواة العرب بالترك وجعل اللغة العربية لغة رسمية في الأقاليم العربية… من جهة، وبين التطلع إلى إعادة إنتاج الخلافة العربية الإسلامية من جهة أخرى (رشيد رضا وعبد الرحمن الكواكبي وغيرهما).
فقد حدد عبد الغني العريسي حقوق العرب في خطبته في مؤتمر باريس بقوله: "للشعوب حق غير حق الأفراد. فهل للعرب حق جماعة؟ إن الجماعات في نظر علماء السياسة لا تستحق هذا الحق إلا إذا جمعت، على رأي العلماء الألمان، وحدة اللغة ووحدة العنصر، وعلى رأي علماء الطليان، وحدة التاريخ ووحدة العادات، وعلى مذهب ساسة الفرنسيس، وحدة المطمح السياسي. فإذا نظرنا إلى العرب، من هذه الوجوه الثلاثة، علمنا أن العرب تجمعهم وحدة لغة ووحدة تاريخ ووحدة عادات ووحدة مطمح سياسي. فحق العرب، بعد هذا البيان أن يكون لهم، على رأي كل علماء السياسة بلا استثناء، حق شعب، حق أمة. تتساءلون عن ماهية هذا الحق لجماعة الأمة العربية؟ فبياناً لهذا الحق أقول: أول حق لجماعة الشعوب حق الجنسية، فنحن عرب قبل كل صبغة سياسية، حافظنا على خصائصنا وميزاتنا وذاتنا منذ قرون عديدة، رغم ما كان ينتابنا من حكومة الآستانة من أنواع الإدارات، كالامتصاص السياسي أو التسخير الاستعماري أو الذوبان العنصري. وأضاف: وحق آخر هو حق اللغة، فإننا أكثر تمسكاً بمطالبنا المتعلقة باللغة العربية، ويمكننا إجمالها بأن تكون اللغة العربية رسمية في البلاد العربية بمادة قانونية تذكر في القانون الأساسي. وأضاف: ولا تتطرق إلينا فكرة الانفصال عن هذه السلطنة، ما دامت حقوقنا فيها مرعية محفوظة، فارتباطنا بهذه الدولة يتراوح إذن بين ضمان هذه الحقوق، فإن كثر كثر وإن قل قل".
وقال ندرة مطران: إن العرب لا يجهلون حسنات ارتباطهم بالدولة العثمانية وحرصهم عليها، إذا أرادوا أن يصونوا أنفسهم من شرور أقل ما فيها الأسر والاستعباد إلى ما شاء الله. من هذا المنبر، وباسم الأمة العربية الممثلة هنا بكم وبوفود كرام قطعوا الأمصار والبحار ليسعوا في تأييد شأنها وتحسينه، أفتخر بأن الأمة العربية، مسلمة وغير مسلمة، متضامنة ومترابطة في مصالحها… وتنبذ بكل قوتها كل حركة من شأنها تدخل الغريب في أحكامها أو انفصام العرى بينها وبين الدولة العثمانية، وترويج أية غاية كانت غير عربية وعثمانية في البلاد العربية العثمانية".
وقال أحمد طبارة: "نحن قوم ولدتنا أمهاتنا عثمانيين، ونريد أن نبقى عثمانيين، ولا نرضى عن دولتنا العثمانية بديلاً. ولا برهان على ذلك أقطع من طلبنا للإصلاح الذي به حياتنا وحياتها معاً. ولو كنا نبغي الانفصال عنها، كما يرجف المرجفون، لتركنا الحال تجري على ما نرى من سيئ إلى أسوأ، وهي بطبيعتها سائرة في طريق الاضمحلال. كلا، إننا نتجشم الأسفار ونركب الأخطار حباً بصيانة الوطن وحرصاً على حياة الدولة".
وقال اسكندر عمون: "توهم بعض أنصار النظام المركزي من إخواننا الأتراك أن الغرض من النهضة العربية هو الانفصال عن الدولة، ذلك أمر بعيد عن الصحة، فإن الأمة العربية لا تريد إلا استبدال شكل الحكم الفاسد، الذي يكاد يودي بالدولة، بالحكم الذي يرجى منه الصلاح والنجاح لنا ولهم. إن الأمة العربية لا تريد الانفصال عن الدولة، ولا نصرة حزب على حزب أو جنس على جنس. إنما تريد استبدال نظام الحكم الحاضر بنظام يناسب كل العناصر، على اختلاف شؤونها"(3).
وننقل عن جورج طرابيشي قوله: "وعلى الرغم من التغير الكبير الذي سيطرأ على "المورفولوجيا" السياسية للوطن العربي، في ظل الهيمنة والتجزئة الإمبريالية، بالقياس إلى ما كان عليه في ظل الخلافة العثمانية، سوف نلاحظ أن النزوع إلى تفسير القومية العربية تفسيراً ثقافياً، لا سياسياً، سيبقى هو النزوع السائد لدى واضعي النظرية القومية العربية، وخصوصاً لدى ساطع الحصري وورثته، بما فيهم، مع الأسف، بعض من أولئك الذي ينسبون أنفسهم إلى المذهب المادي.
إن خطورة النزعة الثقافوية، التي تتجاهل عامل الدولة في المسألة القومية، تكمن في ترجيحها لكفة ما يسمى بالقومية السلبية على كفة القومية الإيجابية، قومية مجرد الشعور والانتماء على قومية الوعي والفعل. وبالرغم من أن النزعة الثقافوية تبرر نفسها أساساً بطموحها إلى الحفاظ على مقومات الأمة، فلن يكون صعباً علينا أن ندرك أن القومية السلبية التي تنجم عنها توفر أنسب مناخ لتطور الكيانات القطرية، وتيسر لها أن توفق، في آن معاً، بين انتمائها القومي الافتراضي وحدودها الفعلية.
ولئن يكن إسقاط عامل الدولة من المسألة القومية هو القسمة المشتركة للنزعة الثقافوية لدى القوميين الرواد ولدى منظري الأربعينات وورثتهم ومتابعيهم، فإن المعللات التاريخية لهذا المنحى في تفسير المبدأ القومي تختلف اختلافاً بيناً، بحكم اختلاف الظروف التاريخية بالذات. ففي ظل الإمبراطورية العثمانية، وريثة الخلافة الإسلامية، كان فك الارتباط بين مسألة الدولة ومسألة الأمة شبه محتم تحت ضغط هاجس التضامن الديني. ومع أنه كان من المفروض في ظل مثل تلك الإمبراطورية المتعددة القوميات أن تتكلم النزعة القومية، حين تتكلم، بصوتها الثاني، صوت الانفصال، فإن القوميين الرواد، المتوزعة مشاعرهم (وسياساتهم) بين الولاء القومي والولاء الديني، وجدوا المهرب من هذه الازدواجية في تفسير حق الأمة بأنه حق لغة وانتماء وحكومة، لا حق دولة. وبالمقابل، فإن فك الارتباط بين مسألة الدولة ومسألة الأمة أمسى مرة ثانية شبه محتم عندما أفاق العرب من حلم الوحدة العربية الكبرى، الذي داعب مخيلاتهم على امتداد الربع الأول (من القرن العشرين) على كابوس التجزئة القطرية التي رسم حدودها وأرسى مداميكها الاستعمار الأوروبي، على امتداد الفترة الفاصلة ما بين الحربين العالميتين. وإنما هرباً من هذا الكابوس، الذي كشفت الاستقلالات القطرية غداة الحرب العالمية الثانية أنه منقوش في صخر الواقع بالذات، نفى منظرو الأربعينات وورثتهم جدلية الأمة والدولة، وقلدوا الأولى كل الفعالية، وأنكروا على الثانية أية فعالية، وأكدوا على حتمية ذوبان الكيانات القطرية، ولم يروا خطر تصلبها.
ومن هنا كانت أولى المفارقات: ففي الوقت الذي استنفرت فيه الأيديولوجية القومية كل قواها، في عصر القوميات الأوروبي، كيما تنتقل بالأمة من مرحلة القومية الثقافية إلى مرحلة القومية السياسية، تركزت كل جهود القومية العربية على تقديم عامل الثقافة على عامل السياسة، وعلى اختزال الأمة من الدينامية السياسية إلى فاعلية (نحن قد نقول سكونية) ثقافية.
يقول ساطع الحصري، في نهاية الخطاب المفتوح الذي وجهه إلى طه حسين على صفحات مجلة "الرسالة" المصرية 1938: إني أعتقد أن توحيد الثقافة من أهم العوامل التي تهيئ سائر أنواع التوحيد. وأقول بلا تردد: اضمنوا لي وحدة الثقافة وأنا أضمن لكم كل ما بقي من ضروب الوحدة". ويقترب رأي عبد العزيز الدوري من رأي الحصري حين يقول: إن القومية العربية قومية ثقافية، تستند إلى المقومات الثقافية للأمة العربية، لأن مفهوم الأمة العربية قد تكون حول اللغة والتعريب والتراث الثقافي والدور التاريخي للعرب"(4).
على الرغم من أهمية ما نقلناه عن جورج طرابيشي في تفسير عوامل انفصال مفهوم الأمة العربية عن مفهوم الدولة، لا بد من ملاحظة جملة من الفروق النوعية بين الحركة القومية العربية والحركات القومية الحديثة، التي تشكلت بموجبها الدول / الأمم الحديثة. أهم هذه الفروق أن الحركة القومية العربية لم تكن حركة تشكل جماعة سياسية حديثة، أو حركة توحيد قومي، بل كانت، في المرحلة الأولى، مجرد حركة احتجاج على "الاستبداد العثماني" وعلى سياسة التتريك الطورانية، وجزءاً من حركة إصلاحية عثمانية، دستورية، تنشد المساواة والتآخي بين العرب والترك، وتطالب بلا مركزية إدارية وبجعل العربية لغة رسمية في الولايات العربية. وكانت من جهة أخرى تعبيراً غير مباشر وغير واع عن العملية التاريخية التي كانت تجري، منذ وقت طويل، في حياة الإمبراطورية العثمانية، أعني عملية الضعف والتفسخ في النظام الإمبراطوري وفي العلاقات الإقطاعية، التي كان الغرب الرأسمالي أو التوسع الرأسمالي العالمي هو القوة الرئيسة الفاعلة فيها، وكانت "التنظيمات" و"الامتيازات" من أهم مظاهرها، والمسألة القومية و "تسييس مسألة الأقليات" من أهم أدواتها، ولم تنجل نتائجها إلا في ضوء نتائج الحرب العالمية الأولى، التي أعادت تشكيل النظام الدولي، وأنتجت عصبة الأمم ومبدأ الانتداب.
الحركة القومية العربية كانت بعيدة عن وعي هذه العملية، وبعيدة عن التأثير فيها إلا بصفتها أداة حيناً وموضوعاً حيناً آخر، بغض النظر عن تطلعاتها الإصلاحية وأهدافها الذاتية. ثم غدت، بعد الحرب العالمية الأولى، ثورات وطنية (إقليمية) على الاستعمار الغربي وعلى سياساته التجزيئية، في سبيل الاستقلال، ثم حركة احتجاج على الهيمنة الإمبريالية وعلى إقامة دولة إسرائيل، بعد استقلال الدول العربية، التي كانت منقوشة في صخر الواقع، بتعبير جورج طرابيشي. وهي في جميع هذه الأحوال حركة نخبة ذات وعي ملتبس، شبه تقليدي وشبه حديث وذات ورؤية ضبابية، على الرغم من أثر الثقافة الغربية الحديثة البين في وعيها، ولكنه أثر مبتور ومعاد تأويله وإطفاء أنواره أو إخفاتها، لتناسب منطق الثقافة السائدة ومبادئها.
التطور في الحركة القومية العربية هو تطور من حركة احتجاج على وضع قائم "بغية تحسينه" أو إصلاحه، وفق منطوق رواد الحركة القومية، في العهد العثماني، إلى ثورة على الاستعمار وسياساته التجزيئية، في العهد الكولونيالي، ثم إلى "ثورة "على أوضاع قائمة، أبرزها، بعد الحرب العالمية الثانية، هو الدولة "القطرية". الثورة على الدولة القطرية كانت، في واقع الأمر ثورة على الدولة، لا على القطرية. لو كان الأمر على خلاف ذلك لتعززت الدولة وتقلص طابعها القطري تدريجياً أو بضربة واحدة، بعمل توحيدي يفضي إلى بناء دولة قومية. لكننا كسبنا القطرية وخسرنا الدولة. فالدولة القطرية لم تتقومن، بل استحالت إلى سلطة حصرية وتسلطية.
رصد جورج طرابيشي مظاهر إخفاق الدولة القطرية، من إخفاقها على صعيد قضية فلسطين إلى إخفاقها على صعيد قضية الديمقراطية، مروراً بعجزها عن التحرر من الهيمنة الاستعمارية وعن الخروج من دائرة التخلف إلى دوائر التقدم، على صعيد التنمية، وإخفاقها البين على صعيد الوحدة العربية، وعلى صعيد "تحويل العلاقات الاجتماعية، وتحقيق أمنية الجماهير في العدل الاجتماعي"، وكذلك على صعيد "الإنجاز الأساسي الذي كان يمكن للدولة القطرية أن تباهي به، وهو تحرير المجتمع من سطوة الانقسامات الطائفية والعشائرية وإعلاء صفة المواطنة على كل ما عداها من الانتماءات الموروثة عن العصور الوسطى" وبدا له أن سبب هذه الإخفاقات جميعاً هو الطابع القطري للدولة القائمة بالفعل التي عجزت عن تعبئة جماهيرية فعالة وحقيقية، لأنها تفتقد إلى انتماء الجماهير إليها أساساً؛ "فالجماهير تنتمي إلى الوحدة لا إلى التجزئة"(5).
نعتقد أن الأزمة التي أشار إليها جورج طرابيشي ليست أزمة "الدولة القطرية"، بل هي أزمة ناجمة عن تعثر عملية بناء الدولة الوطنية في كل بلد من البلدان العربية، ولا سيما بلدان المشرق العربي، وذلك لأسباب ذاتية وموضوعية، الذاتية منها تتعلق بعدم اعتراف النخب الثقافية والسياسية بالدول القائمة وعدم منحها أي مشروعية. وإذ نتحدث عن تعثر هذه العملية نؤكد أنها عملية جارية ومستمرة، ولكنها تتعثر هنا وتنتكس هناك، ولا تزال تبدو لنا الاحتمال الراجح، بل أكثر من ذلك. ونعتقد أيضاً أن "الجماهير" لا تنتمي إلى الوحدة ولا تنتمي، بالقدر ذاته، إلى الدولة القطرية، بل إلى البنى والتشكيلات الموروثة عن القرون الوسطى، بتعبير الأستاذ طرابيشي نفسه.
لقد حملت النخبة القومية "الدولة القطرية" من المساوئ والعيوب والآثام ما يكفي للحيلولة دون انعقاد أي إجماع وطني حولها، وما يكفي، من ثم، لعدم تبيئتها أو توطينها في مجتمعات لم تعش تجربة الدولة من قبل؛ فبدت كأنها جسم غريب مزروع في بيئة ترفضه، فلا تمده بمقومات الحياة والنمو. الدولة القطرية هي الاسم المرادف للتجزئة الاستعمارية؛ فكأن تناقضها مع المجتمع قد بلغ ذروة لم يعد ممكناً معها سوى حذف أحد النقيضين. ولما كان حذف المجتمع مستحيلاً فلا بد من حذف الدولة القطرية. إن غرس علاقة التضاد أو التخارج بين المجتمع والدولة القطرية في الوعي الاجتماعي، من خلال الثقافة القومية والتربية القومية والإعلام القومي، ويمكن أن نضيف الإسلامي والاشتراكي، أسس لتغول السلطة، التي لا تزيد مشروعيتها على مشروعية الدولة القطرية التي تمسك بزمامها. فمن البديهي أن عدم مشروعية الدولة القطرية يعني عدم مشروعية السلطة السياسية، ولو كانت هذه الأخيرة سلطة حزب قومي عربي، كحزب البعث. ومن البديهي أيضاً أن تشعر سلطة غير شرعية بأنها إزاء عدو موضوعي (الشعب) يتربص بها الدوائر.
بعد صدور كتاب جورج طرابيشي بأكثر من عشر سنوات كتب الجابري في التجزئة والوحدة العربية: "نعم التجزئة نفي للوحدة. ولكن على صعيد اللغة فقط، صعيد الأضداد اللغوية. أما على صعيد الواقع، العربي الراهن، فإن ما يشكل النفي الحقيقي الواقعي للوحدة العربية … هو الدولة القطرية، لا بوصفها رقعة جغرافية ذات حدود… بل بوصفها مؤسسة قانونية قائمة على أساس ما من جهة، وكياناً اقتصادياً وسياسياً تابعاً لأحد مراكز الهيمنة الأوروبية من جهة ثانية، وواقعاً اجتماعياً ذا خصائص مميزة من جهة ثالثة"(6). ومن ثم فإن نفي التجزئة هو نفي الدولة القطرية. لقد اختزل الفكر السياسي "العربي" الدولة إلى دولة قطرية، فأعرض عنها، في أحسن الأحوال. لكن اللافت للنظر عند الجابري دعوته إلى "مواجهة الطابع اللاديمقراطي للدولة القطرية العربية مواجهة صريحة (تشكل) بداية البداية التي على الفكر العربي أن ينطلق منها لتشييد نظرية في الوحدة العربية، النظرية التي لن يكون لها مضمونها التاريخي إلا إذا تحركت في أفق نفي الدولة القطرية انطلاقاً من طرح مسألة الشرعية فيها … الشرعية الديمقراطية والشرعية التاريخية معاً"(7). ما يعني أن هذه الدولة القطرية الرجيمة غير شرعية حتى لو غدت ديمقراطية. أليست دولة ضد الأمة، كما وصفها برهان غليون؟. الجابري الذي بشرنا بضرورة "طرح مسألة الدولة في الوطن العربي"، لم يعرف الدولة إلا بالسلب، دولة غير قطرية، "تتجاوز الدولة القطرية العربية المعاصرة" إلى "أي شكل من أشكال دولة الوحدة"، وكفى الله المؤمنين شر التفكير.
ازورار الفكر السياسي عن الدولة القائمة بالفعل، ومعاداته لها، بحكم صفتها القطرية، وصفات أخرى، تختلف باختلاف الأيديولوجيات والمذاهب، والحيلولة دون تمكينها في الوعي الاجتماعي، وفي الممارسة الاجتماعية، حيث لا يزال العرف هنا والشرع هناك أقوى من القانون وأكثر احتراماً منه، أسهمت كلها في تردي الحياة السياسية والأخلاقية بالتلازم الضروري، وفي انتكاس الدولة الوطنية إلى نظام شمولي. والإشارة إلى العرف والشرع لا تريد التقليل من شأنهما، بل تريد إبراز حقيقة أن المجتمع لا يزال منقسماً على نفسه عشائر ومذاهب وطوائف وإثنيات.
انتكاس الدولة الوطنية، أو جنين الدولة الوطنية، إلى سلطة تجمع خصائص الاستبداد الشرقي وخصائص التوتاليتارية الحديثة يتجلى في تراجع مفهوم العمومية، وتراجع مفهوم المواطنة، التي تعني الانتماء إلى مجال سياسي وأخلاقي عام ومشترك بين جميع المواطنين: دستور وقانون وضعي عام، برلمان، أمن عام، جيش وطني، مؤسسات عامة، إدارة مدنية عامة، نقابات، أحزاب سياسية … إلخ. حدث ذلك في سورية، على سبيل المثال، غداة "ثورة" الثامن من مايو 1963، التي بدأت بإلغاء كل ما هو عام لمصلحة ما هو حزبي، ثم لمصلحة ما هو أقل فأقل. ولا يسع المرء إلا أن يلاحظ اقتران التحلل الأخلاقي بإلغاء عمومية الدولة وإلغاء القانون. وليس مصادفة أن تعلن حالة الطوارئ ويبدأ العمل بالأحكام العرفية والقوانين الاستثنائية صبيحة الثامن من مايو حتى يومنا وساعتنا.
—
(1)- عن جورج طرابيشي، المصدر السابق
(2) - المصدر السابق، ص62
(3)- نقلاً عن جورج طرابيشي، المصدر السابق، ص 59 - 61
(4) - جورج طرابيشين المصدر السابق نفسه، ص 62 - 64
(5) - راجع جورج طرابيشي/ مصدر سبق ذكره، ص197 – 199.
(6) - عن "القومية والوحدة"، المقالات، تحرير وتقديم محمد كامل الخطيب، وزارة الثقافة، دمشق، 1994، ص 803
(7) - المصدر السابق، ص 806
المراجع
موسوعة الاوان
التصانيف
سياسة