ترجمة د. رجاء بن سلامة
نصّ من كتاب "الإسلام والتّحليل النّفسيّ" الذي سيصدر قريبا عن منشورات رابطة العقلانيّين العرب
يوجد في التّراث الإسلاميّ مشهد (…) يظهر فيه الحجاب لأوّل مرّة في قصّة مؤسّس الإسلام. وهذا المشهد قد رواه كلّ مؤلّفي كتب السّيرة النّبويّة، وهو يقع في بدء التّنزيل، أي أثناء فترة البدايات الخطيرة، عندما شكّ رسول المستقبل في ملكاته العقليّة وفاتح زوجته بالأمر:
"…عن خديجة أنها قالت لرسول الله (ص) فيما أكرمه الله به من نبوته: يا ابن العم، أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك؟ قال: نعم، قالت: فإذا جاءك فاخبرني به، فجاءه جبرئيل عليه السلام كما كان يأتيه، فقال رسول الله (ص) لخديجة: يا خديجة هذا جبرئيل قد جاءني، فقالت: نعم، فقم يا ابن عم، فاجلس على فخذي اليسرى، فقام رسول الله (ص) فجلس عليها، قالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاقعد على فخذي اليمنى، فتحول رسول الله (ص) فجلس عليها، فقالت: هل تراه؟ قال: نعم، قالت: فتحول فاجلس في حجري، فتحوّل فجلس في حجرها، قالت:هل تراه؟ قال: نعم، فتحسّرت، فألقت خمارها ورسول الله (ص) جالس في حجرها، ثم قالت: هل تراه ؟ قال: لا، فقالت: يا بن عم، اثبت وأبشر، فوالله إنه لملك وما هو بشيطان." (الطّبريّ، تاريخ الرّسل والملوك).
من البديهيّ أنّ ثبوت هذه الرّواية تاريخيّا غير مهمّ. ما يهمّ هو أن تكون حاضرة في القصّة الكبرى وأن تستعمل لغة المشاهد الأصليّة لكي تظهر معاني إخفاء-إظهار المرأة، أو تترك النّاس يرونه ويعتقدون فيه: ما الذي يقوله هذا المشهد؟ أوّل ما يقوله هو أنّ تاريخ الحقيقة في الإسلام يبتدئ بإزالة امرأة لحجابها. وهو يقول أيضا إنّ هذا التّاريخ يبتدئ بالاعتداء على هيبة ملاك. هذان المعطيان يمثّلان الوجه والقفا لعملة واحدة، هي النّسيج الثيولوجيّ إذ يخفي جسد المرأة الذي يمثّل تهديدا للنّظر العلويّ. كلّ شيء يتوقّف هنا على الفعل الأخير وعلى التّأكيد بأنّ المرأة إذا انكشفت اختفى الملاك. فالملاك الذي لم يعد يظهر في الحقل البصريّ للرّسول في لحظة إزالة الحجاب، لم يختف إلاّ لأنّه ملاك، فهو من حيث هو ملاك لا يمكن أن يحتمل رأس خديجة العاري. فلو كان شيطانا لما أعرض عنها، بما أنّ المفترض هو أنّ الشّيطان وما تعرّيه المرأة أمران من طبيعة واحدة. وبما أنّ الأمر يتعلّق بملاك ينقل كلام القرآن الحقيقيّ (جبريل)، فإنّ بروز المرأة هو ظهور للحقيقة، وهو في الوقت نفسه اعتداء على هذه الحقيقة يحمله فعل البروز في ذاته. فالملاك الذي هرب هو الحقيقة التي اختفت بانكشاف المرأة، ولكنّ اختفاء الحقيقة هنا ليست سوى برهنة على الحقيقة.
والأمر الثّاني الذي يقوله هذا المشهد، هو أنّ وضعيّة المرأة تبدو مرتبطة أصليّا بـ"عدم النّظر"، وعدم النّظر هذا يؤسّس التّصديق. فبينما تصدّق المرأة ما لا تراه، لا يصدّق الرّجل ما يراه. فعليها يعتمد إذن لكي يحصّل تصديقا. ما يمكن أن نسمّيه منذ الآن مشهد البروز (ليس له اسم في التّقليد الإسلاميّ) يؤدّي لا محالة إلى الخروج بالنّتيجة التّالية، وهي أنّ الرّجل لكي يصدّق باللّه عليه أن يصدّق المرأة، وأنّ المرأة تملك معرفة عن الحقيقة تسبق وتفوق معرفة المؤسّس نفسه. فهي التي تتثبّت إذن من حقيقة المؤسّس. إنّها تتثبّت منها انطلاقا من اعتداء على هذه الحقيقة ومن نقص في النّظر يقابل إفراط الرّؤيا لدى الرّجل-الرّسول. يبدو إذن أنّ المرأة تمتلك سلبيّة ما تسمح بتأكيد حقيقة الآخر. فالحجاب يفصل بين الحقيقة ونفيها.
الرّجل المرتعد خوفا ممّا يتراءى له والعاجز عن الحكم على طبيعة ما يسكنه، تواجهه خديجة بتأويل مجسّد بالفعل مزيح للمجهول. فإزالتها الحجاب هو الفعل الذي أتى بالقرار المطمئن لذاتيّة الرّجل المتردّدة. لقد جاءته باليقين عن الآخر في حين كان هو عاجزا عن التّعرّف إليه بنفسه. الرّجل كان مسكونا بالآخر، ولكنّه لم يعرفه. ولولا إزالة المرأة حجابها، أي لولا الحجاب، لبقي متردّدا ولعاش متشكّكا في اللّه. لقد وهبت له المرأة الحكم القاطع الفاصل. فلعلّ الرّجل يجهل الحقيقة (حقيقة الخصاء) التي يحملها. هذه هي المفترضات التي يتضمّنها هذا المشهد وما يستتبعه من نتائج قصوى. فالثيولوجيا تسند إلى حجب-انكشاف المرأة منزلة المنقذ، ومنزلة المنفَذ، منفذ الرّجل إلى التّماهي مع الإلهيّ، وكأنّه يدرك الاختلاف الذي يسكنه عبر إدراك اختلاف جسد المرأة.
وإذا كان الرّجل لا يدرك اليقين بالآخر إلاّ عبر المرأة، أفلا يعني هذا البناء الثيولوجيّ أنّ نرجسيّة الرّجل أكثر إشكالا من نرجسيّة المرأة؟ فبينما تبدو لنا المرأة وكأنّها عارفة مسبقا بحقيقة الآخر، أو مثلومة مسبقا من قبل الآخر وبموجب قدر محتوم، يبدو الرّجل في حاجة إلى المرور بالعمليّة الأنثويّة حتّى يتعرّف على العلامة التي توجد داخله، وكي يحصل له اليقين بالآخر. فحجب المرأة ربّما يكون وقاية من حماقة الرّجل النّرجسيّة.
فخديجة حسب التّاريخ الإسلاميّ هي أوّل من صدّق بالنّبيّ. فأوّل مسلم إذن كان مسلمة. تلك التي تسبّبت في هرب ملاك الحقيقة هي أوّل من آمن. عن طريقها هي يدخل الرّجل في طور البرهنة على إلهه. ولهذا السّبب تقول النّصوص إنّ محمّدا بعد هذا المشهد قال لخديجة : "هذا جبريل يقرئك السلام من ربك" (سيرة ابن هشام). ولكن كيف يفوتنا هنا إدراك انقلاب الوضع؟ فالتي آمن الرّجل عن طريقها أصبحت هي التي تؤمن به. فالمرأة قد تكون الأصل المضادّ الذي يتأسّس عليه الإيمان الأوّل بالأصل.
الحجاب ثمّ كشف الحجاب ثمّ الاحتجاب، هذه هي المقاطع الثّلاثة التي تتكوّن منها العمليّة الثيولوجيّة فيما يتعلّق بالأنثى. كانت المرأة في البداية محجوبة، ثمّ زال حجابها في عمليّة بروز للحقيقة الأصليّة، ثمّ احتجبت من جديد بمقتضى نظام التّصديق بحقيقة الأصل هذه، لأنّ الحقيقة التي تمّت إقامتها تطمح إلى حجب العدم الذي مرّت به.
هذا هو بالفعل الطّريق الذي سيؤدّي تدريجيّا إلى الفرض الصّارم لمحرّم الحجاب في الإسلام. بتحوّل الرّجل الذي شكّ في عقله إلى رجل يؤسّس العقل الثّيولوجيّ، تحوّلت تحيّة الملاك إلى شكّ في المرأة وارتياب لا نظير لهما. إنّ تصديق المرأة الذي مثّل أساس البرهنة على الحقيقة انقلب إلى مؤامرة خطيرة تبدو النّساء من خلالها "ناقصات عقل ودين" (حديث)، و"كيدهنّ عظيم" (القرآن، 12/218). لا شكّ أنّ ذلك المشهد يتضمّن هو نفسه إمكانيّة هذا الانقلاب، بما أنّ البرهنة على الحقيقة تمّ الحصول عليها بإزالة الحجاب، كما تمّ التّأكّد من هويّة الملاك بإجباره على الهرب. ولكنّنا نفهم أيضا عدم حاجة هذا النّظام إلى حرق السّاحرات (وبالفعل لم يشهد تاريخ الإسلام مثل هذه المحارق). ذلك أنّ ما تنسبه الثّيولوجيا إلى المرأة من كذب وقدرة على التّقلّب يبقى وثيق الاتّصال بحقيقة الآخر، مشدودا إليها بالحجاب الذي يجعل هذه الصّفات مقترنة بها، ويجعل السّر المبهم مسبلا عليها. أفليس الحجاب هو الذي مكّن من تجنيب النّساء الحرق؟ أليس من شعارات الإسلاميّين في حملتهم الرّاهنة من أجل تحجيب النّساء: "الحجاب أو النّار"؟
لا يتّسع المجال هنا لكي نفصّل الأسباب العميقة لتحوّل محمّد. ممّا يمكن أن نلاحظه ولا شكّ، هو أنّه بعد موت خديجة، إذ شارف على الخمسين، صار متعدّد الزّوجات محبّا للنّساء والطّيب والصّلاة (حديث). صدّق الرّسول المرأة (التي صدّقته) ثمّ أحبّ النّساء، وهاتان الجملتان توضّحان أبعاد هذا التّحوّل. لنقل باختصار إنّ الأمر يتطابق مع حصول تغيّر في الاقتصاد اللّيبيديّ والسّياسيّ للرّسول وهو ما سنعود إليه لاحقا. (في فصل فرعيّ عنوانه "كلام ألف ليلة وليلة")
إنّ مسرحيّة التّحريم الثيولوجيّ ابتدأت عندما نزل الحجاب. والآلة المعقّدة التي حاولنا تبيّن بعض دواليبها تمثّل دعامة لتأويلات فرضت نفسها، وهي مستقاة من الدّراما المظلمة للأجساد المضطربة بين حياتها وموتها. وعندما يتعلّق الأمر بالإسلام، فإنّ السّيناريو معروف والحلقات التي شطبت عبرها المرأة وتحوّلت إلى كائن مظلم معروفة أيضا بحيث لا يمكن أن ننكر أنّ الإلهيّ فيها بشريّ، وأنّ قوّتها تكمن في تجذّرها في دراما بشريّة، لا بل مغرقة في البشريّة.
المراجع
alawan.org
التصانيف
الآداب الفنون