«بابا سارتر» رواية للعراقي علي بدر، صدرت عن دار رياض الريس في بيروت، طبعتها الأولى في مايو (أيار) 2001.

الحبكة والأسلوب

تنفصل رواية «بابا سارتر» لعلي بدر عن الرواية التقليدية بواسطة طرائق متنوعة، كتقطيع السرد والغموض في أحداث الرواية ومتابعة افكار الرواية لتشكل فلسفة خاصة بها. وعلى طريقة ألف ليلة، تستدعي الرواية اطاراً داخل اطار، فالراوي الواعي بالعملية الروائية، يدخل إلى المتن الحكائي من خلال ادعائه بأنه سيؤلف، أو يكتب، سيرة أحد الاشخاص، ويكلف بذلك من قبل اثنين «حنا يوسف» حفار القبور ذي السحنة المرعبة وصديقته الخليعة التي كان يطلق عليها اسماً توراتياً غريباً (نونو بهار)، هما من اغوياه بكتابة سيرة حياة الفيلسوف العراقي الذي كان يقطن محلة الصدرية ابان الستينات، ويمول هذا المشروع، تاجر عراقي نصف مجنون، نصف معربد، غير شريف بالمرة، يطلق على نفسه (صادق زاده). والحكاية الخارجية تتعلق بعملية كتابة الحكاية الداخلية، فتبدو العلاقة بين الحكايتين علاقة تداخل على المستوى الروائي، ومعنى هذا ان الحكاية الداخلية ليست مستقلة عن الحكاية الخارجية، كلتاهما متشابكتان في كل واحد، لإعطاء صورة متكاملة عن العراق الثقافي، فترة الستينات وما بعدها.

الشخصيات والتفاصيل الصغيرة في الرواية

يبدأ الراوي بكتابة، أو برسم، التفاصيل الدقيقة لحياة عبد الرحمن، فيلسوف الصدرية الذي كان يعيش حياة سارتر إلى حد التطابق، انه يشبهه في كل شيء، تسريحة شعره، نظارتيه، اهله، وكان يتمنى لو كان الوجود عادلا ومتساويا واخلاقيا، حتى يكون اعور ليتشابه مع عور سارتر. وهذا العور كان يترك لديه شعورا قاسيا مهدما، حتى حين كان يعيش في باريس عاصمة الوجودية، يحضر لدراسة الدكتوراه في الفلسفة الوجودية في جامعة السوربون اواخر الخمسينات، ولئن فشل في دراسته وترك العلم لاهله فقد عاد بزوجة شقراء فرنسية على عادة العراقيين (فإن لم يكن بالعلم فبمصاهرة أهل العلم على الاقل)، كما قال نوري السعيد يوما. عاد عبد الرحمن من باريس إلى بغداد، أوائل الستينات، عودة ابدية، مع زوجته الفرنسية، معللا النفس بحياة فلسفية دون شهادة في الفلسفة، فاستقبله المثقفون بعاصفة من التصفيق والتشجيع، فأطلق عبارته الشهيرة (ما معنى الشهادة في عالم لا معنى له).

ابتداء من هذه اللحظة يتابع الكاتب رصد حياة الشارع الثقافي في بغداد وبيروت وانتشار الوجودية بين المثقفين واستقبالهم لعبد الرحمن الذي أصبح فيلسوف الصدرية بلا منازع وطبقت شهرته العالم العربي، حتى كتب له يوما سهيل ادريس يطالبه فيها بكتابة مقالات وجودية لمجلة «الآداب» ووقعتها معه زوجته عايدة، وقد رفض عبد الرحمن هذا الامر بصورة قاطعة، بحجة انه يفكر فلسفيا باللغة الفرنسية، ولذا لا يمكنه نقل افكاره باللغة العربية. وفي الواقع كانت ثقافته تستند إلى الكلام، لا إلى الكتابة، كما كانت ثقافة أغلب مثقفي جيله وهي: الجلوس في المقاهي والتحدث بصورة لا نهائية على طق الدومينو وشخير النارجيلة صباحا، الرقود في السينمات متراصين على الكراسي الخلفية عصرا، وفي المساء العربدة في الملاهي والبارات والأماكن العامة، الكتب لا تقرأ منها الا عناوينها ولا يعرف أحد منها الا العروض المتيسرة في الصحف والمجلات الادبية، ومع ذلك ممالك تبنى في الكلام وممالك تهد، عروش يهزها الكلام ويخلخلها ومدن يصنعها الكلام ويؤسسها، وليس هنالك في واقع الامر من كان بإمكانه ان ينقذ جيلا بأكمله لا يكتب لانه لا يريد ان يكون مخدوعا وجزءا من هذه الترسانة التي صبها الاستعمار والرجعية والجاحدون. «وهكذا كان عبد الرحمن متكلما، لأن الكلام يحقق له عدمية حقيقية لا مجازا، يمنحه فلسفة واقعية لا فكرة استعمارية، كان عبد الرحمن متكلما لا كاتبا، كان فيلسوفا لا دجالا» ص.52، اما لماذا كان سارتر يكتب، فلكي يترجم إلى العربية، فلو لم يكن يكتب فمن اين كنا سنسمع به.. سارتر شيء آخر.

السخرية الجادة

ويتفنن الروائي وهو يرسم عالم إسماعيل حدوب والحياة اليومية التي يحياها لينتهي به المطاف إلى رسم صورة بانورامية للعالم السفلي الذي تعيشه هذه الفئة في بغداد الخمسينات والستينات. كان إسماعيل يبحث عن المال، أي مال وبأية وسيلة، وكان شاؤول، الثري اليهودي، يبحث عن تابع ليستغله، يؤمن شاؤول ان إسماعيل ضالته، فيأخذه وينظفه ويجعله تابعا له، لكن هذا القناص اللامع ادرك ما كان يريده منه شاؤول وقلده وخدعه ثم تركه وركض وراء عبد الرحمن فيلسوف الوجودية، لأن وجوديته واضحة أكثر من ماركسية شاؤول. كان إسماعيل يريد ان يعيش على حساب غيره. فالحياة لا يمكن الوصول إليها إلا بالمال، والمال لا يمكن الوصول إليه إلا بالأدب والأدب بحاجة إلى مال وصكوك وصرف ونقد، ولكن على حساب التجار والوسطاء والسماسرة والسياسيين. اصر الفيلسوف على الالتزام بإسماعيل، لانه اختار حريته والحرية التزام، وهكذا كانت الفلسفة بالنسبة إلى إسماعيل اعظم واخطر بكثير من الحديث النظري عن مستعمرة السعادة التي يحلم بها شاؤول ورواد صالونه من الأدباء الذين ينظرون للحداثة.

تمسك إسماعيل بصداقة ووجودية الفيلسوف، لأنه ذهب إلى فرنسا ورأى الوجودية بأم عينيه، هنا لم يروها، انما حلموا بها وتصوروها وتخيلوها. وكان عبد الرحمن لا يرى في الوجودية «إلا الشعور بالغثيان، غثيان مستديم من كل ما هو سياسي واجتماعي واخلاقي وحياتي» ص. 111. وبعد اربعة اعوام كان إسماعيل قد خان عبد الرحمن مع زوجته الفرنسية، ابنة خالة سارتر وسارت الفضيحة في كل مكان، مات عبد الرحمن أو قتل أو انتحر، وابنة خالة سارتر عادت إلى منزل سارتر، وكان المثقفون العراقيون يقولون ان سارتر لا يعرف اين يخبئ وجهه من الفضيحة، ولم يبق من عبد الرحمن سوى جاكتة صوفية سوداء وكحلية موضوعة على اكتاف إسماعيل حدوب.

نهاية الرواية

تتأهب أحداث الرواية صعودا، ثم تعود بها إلى البدايات أو تنتقل في محطات عديدة، عبر مدن وعواصم عدة، تغذيها شخصيات متنوعة، ظريفة وجادة، غنية، دنيئة أو وضيعة، والكاتب في كل ذلك يبرع في تحريك الشخوص عبر منطوقها الفكري والثقافي، المتدني أو الراقي، رجل الشارع والغانية والفيلسوف الذي كان وجوديا مذ كان طفلا، واعادت باريس حقل تجربته بتطبيقه لفلسفة العبث عمليا، تلك التي كان يعيشها في ليل باريس كل يوم. وخلال ذلك تتغلغل طفولته، ومراهقته وما علق منها بالذاكرة لتفسح المجال بالكشف عن سبب هذا الخراب الداخلي، بخاصة علاقته بوالديه وبالخادمة رجينا وسعدون السايس والبستانية والغسالات والخادمات والسواق والعربنجية «إذ كان يرى فيهم حياة أخرى، غير تلك التي كانت تحتفظ بها عائلته والعوائل الراقية الممدنة التي تخفي قذارتها تحت الياقات اللماعة والقمصان البيضاء المنشاة» ص.181.

انك لتستغرب وانت تقرأ رواية «بابا سارتر» من كل هذه المعلومات التي حشدها المؤلف في روايته. انه المؤلف العارف المحيط بكل شيء، يأتيك بالمعلومات والمعارف، بل انها تتدفق عبر النسيج الروائي لتشمل الاسواق وبيوت الناس وعاداتهم وتقليدهم ونسيجهم الاجتماعي، دياناتهم وطوائفهم، الملل والنحل، تاريخ العراق منذ العثمانيين إلى استعراض الجيش الإنكليزي في شارع الرشيد إلى الملكية فالجلاء.


المراجع

ويكيبيديا, الموسوعة الحرة

التصانيف

روايات علي بدر  روايات بالعربية  روايات 2001  روايات عراقية