قبض ياسر بقوة على القنبلة اليدوية الوحيدة التي بحوزتهم وتجلت في لحظة واحدة كل الصور أمامه، صورة الماضي العامر بالعطاء والتفاني للرسالة الخالدة … وصورة الحاضر الذي يحمل ملامح التحدي غير المتكافئ، لكنه الإيمان يملأ الصدور ويدفع لمواصلة الطريق مهما كان الثمن … وصورة المستقبل المشرق … حيث جنان الرحمان والفردوس الأعلى والشفاعة وعرش الرحمان يتجلى، وحيث الأنبياء والصديقين والشهداء بإذن الله.

كان على ياسر أن يسرع خطاه تاركاً منزله رغم غياب والده (الشيخ حماد الحسنات) خلف الأسلاك الشائكة بتهمة المشاركة في تأسيس وقيادة حركة المقاومة الإسلامية حماس، والاعتقال الإداري الذي لاحقه بعد ذلك.

كان عليه الإسراع استجابة للواجب الإسلامي الذي يستحث خطا الشاب الأسمر الهادئ صاحب العطاء الصامت لينطلق ناحية الجنوب من مخيمه (النصيرات) حيث دير البلح وقربها مزرعة الدواجن التي يعمل بها مع إخوانه …

لم تكن مزرعة الدواجن تلك سوى غطاء للعمل الجهادي القسامي الذي انطلق في المنطقة الوسطى والتي كان ياسر أحد قادته … حيث في أسفل المزرعة يقبع المبنى الذي اتخذته المجموعة القسامية كموقع تحقيق يخطف المتهم بالتعاون مع إحدى المخيمات الوسطى وينقل مقيداً ومعصوب العينين إلى الموقع، ويجري معه تحقيق شامل وينفذ الحكم العادل في المتهم حسب جرائمه أو يطلق سراحه إذا لم تكن جرائمه كافية لتنفيذ حكم الإعدام فيه …

كانت تلك الأعمال حينها تثير الإعجاب والدهشة والتساؤل … من يقف خلفها ؟؟ وكيف تؤدي بهذه الدقة والمهارة ؟؟ (ياسر) يغد السير نحو الموقع المتقدم … والخندق الجهادي الأمامي وتدور به ذكريات الأيام والليالي الخوالي … يتذكر والده وهو يحدثه عن الهجرة والشتات حيث انتقلت الأسرة من (بئر السبع) البلدة الأصلية مع مئات العائلات الفلسطينية حيث آوتهم خيام اللاجئين في قطاع غزة … خيام اللجوء والضياع … وتحولت الخيام مع الأيام إلى بيوت مليئة، حيث يؤوي البيت عشرات الأفراد …

واستقرت عائلة الشيخ حماد في النصيرات ورزقه الله بالأبناء تباعاً … وحدثه والده الشيخ عن يوم ولادته في اليوم الأول من عام 1964م حيث لازالت العائلة تعيش في ظل الحكم المصري في قطاع غزة على أمل العودة إلى بئر السبع … وكم كانت فرحة العائلة بقدوم ياسر ضيفاً جديداً كريماً على هذه الحياة …

وكم كان حلم العودة لازال يراود (الشيخ حماد) … ولكن الحلم سرعان ما تبخر واستيقظ أهل القطاع على تقدم القوات العسكرية الإسرائيلية لتسحق الحلم بمزيد من الاحتلال والمصادرة للأرض. ولكن أين نذهب الآن ؟ مالنا خيار سوى الصمود حيث نحن …

استمر ياسر في خطاه الثابتة وهو غارق في الذكريات … كانت تلك الذكريات تزيد من اضطرام النيران في صدره الجياش ليمارس حقه في الحلم والعمل على تحقيق الحلم الذي ورثه عن والده الشيخ … وعاد ليتذكر أيام الطفولة بين الشجيرات الحانية، يلعب مع الصبية رفقاء طفولته، وفي ظلها ألعاب البراءة، وتذكر المدرسة التي آوته منذ نعومة أظافره والتي يراها الآن بعين خياله بجدرانها المتآكلة وسقفها القرميد الذي يكاد يهوي فوق رؤوس التلاميذ ومدرسيها المخلصين بعطائهم رغم قسوة الظروف، ويوم انتقل ياسر للدراسة في غزة حيث على زملاء جدد وإخوان كرام، ومن يومها بدأت دائرة المعارف للشاب الهادئ الواثق تتسع لم يترك موقعاً إلا وله فيه اخوة وزملاء على طول قطاع غزة، حيث كان ينتقل باستمرار لأداء دوره كأمير للكتلة الإسلامية في مدرسة الصناعة، حيث تعلم هناك خلال عامين من عمره مهنة التكييف والتبريد، وبدأ بعدها يزاول مهنته الجديدة من خلال ورشة صغيرة، لم تكن تؤدي دورها في تغطية النفقات الخاصة، هذا عدا عائلة ياسر الجديدة بعد زواجه وبعد أن رزقه الله بطفلتين … وذلك دفعه إلى البحث عن البديل، حيث عمل في مصنع بسكويت.

دار هذا الشريط بسرعة في ذهن ياسر وهو يتقدم نحو الموقع المطلوب … كان يرى في تقدمه نحو الموقع القسامي تقدماً نحو قدره الذي رسمه له الله عز وجل … حاول للحظات قراءة قسمات المستقبل أو التنبؤ بجزء منه، لكنه لم يفلح في ذلك فعاد أدراجه إلى الذكريات … عاد ليذكر نشاطه الإسلامي قبل الانتفاضة، جال في أرجاء مسجده وتفقد زواياه بخاطرة … وذهب إلى الجمعية الإسلامية في النصيرات ليذكر فيها أيام العطاء الفني، حيث برز كمتحدث ومقدم برامج رغم الخجل الشديد الذي كان ينتابه حين يقف متحدثاً أمام الجماهير … وكان يطرب لسماع النشيد الإسلامي من فرقة الجمعية، وكان يرى في المسرحيات الهادفة التي تقدمها الجمعية بديلاً فنياً حقيقياً للهبوط الذي أغرق به الشعب باسم الفن والتقدم … وكان يمارس هوايته في إلقاء الشعر وقرضه، وكان هذا يسهم في إكساب ياسر جرأة حيناً بعد حين، ولما تولى إمارة الكتلة الإسلامية في مدرسة الصناعة كانت الثقة بالنفس معلماً في شخصية (ياسر) …

رحلت الذكريات مرة أخرى إلى الانتفاضة المباركة وتذكر بمزيد من الفخر دوره مع إخوانه في الهاب جذوتها وإيقاد نيرانها …

وكان ياسر بين أولئك الأبرار الأوائل الذين تقدموا يلبسون القناع تاجاً لرؤوسهم الطاهرة كي تتقد هذه الجمرة التي أحرقت اليد اليهودية …

وعين الاحتلال لم تكن غافلة عن ياسر وهو يتحرك كقائد وضّاء يحظى بحب واحترام إخوانه ويحتل مكانة مرموقة في صفوفهم، لذلك بادر الاحتلال إلى اعتقاله إدارياً وكان من الأوائل الذين افتتحت السلطات بهم معتقل كتسعوت (أنصار 3) في صحراء النقب … ولم يكن هذا ليضعف عزيمة أبي طارق صاحب الإدارة القوية، بل تقدم في العطاء وازدادت حماسته وكان يبدي إعجاباً شديداً بأبطال خطف الجنود (ساسبورتس وسعدون) من أبناء الحماس المجاهدين (نصار وشراتحة والمبحوح)، وكم كان يرغب أن يلتحق بصفوفهم.

ثم جال بخاطره يوم أسندت إليه الحركة مسئولية جهاز الأحداث في المعسكرات الوسطى، وكان هذا فخراً إضافياً، فكم كان ممتعاً أن يعطى المرء لإسلامه ووطنه كل ما يملك من وقت وجهد ومال ودم، ولما قدر الله تعالى تقدمت قوات الاحتلال لاعتقاله ومحاكمته بهذه التهمة ليقضي محكوميته البالغة عامين في معتقل أنصار 3 الصحراوي، وما كاد ينعم (أبو طارق) بشمس الحرية في ربوع قطاع غزة وتحت شمسه الحانية حتى بادر إلى الاستجابة والموافقة على العمل في كتائب الشهيد عز الدين القسام الجناح العسكري للحركة، وكان من أوائل العاملين في المنطقة الوسطى … كان يعشق الجهاد ويهوى أداءه ويحب تنفيذ استجابة لأمر الله تعالى بالجهاد حتى يحققوا أبرز المبادئ التي يؤمن بها (الجهاد سبيلنا).

كان ياسر يصطدم بدابة تسير أمامه وهو غارق في ذكرياته، وانتبه على صوت صاحبها ينادي عليه بالحذر والانتباه … تلفت فإذا هو على مشارف الموقع القسامي الذي يريد أخذ يتمتم مروحاً عن نفسه بأنشودة سمعها حديثاً وظل صداها يتردد في نفسه " مجاهدون … مجاهدون … مجاهدون … مناضلون … مناضلون … مناضلون … فوق التل فوق السهل فوق الجبل مجاهدون، وحدنا كل مبادئنا ورفضنا الموت، وصرخنا في وجه الليل تحدينا الصمت … وحلفنا أن الشمس ستشرق بعد أفول وقهرنا الموت، قهرنا الموت، قهرنا الموت ".

كان قد وصل ياسر إلى مدخل مزرعة الدواجن التي يرتادها بشكل شبه يومي كموقع عمل، حيث تفقد الدواجن وأمدها بالغذاء والماء، ثم دلف عبر فتحة غير بارزة في نهاية المزرعة بها سلم يؤدي إلى أسفل المزرعة، حيث إخوانه في انتظاره وقد جلبوا شخصاً متعاوناً مع الاحتلال، وظلت المحاولات مع الرجل كي يعترف بما لديه من معلومات حتى بادر إلى الحديث وياسر يستمع ويسجل كل ما يتلفظ العميل … ثم طلب منه إعادة اعترافه وسجله على شريط كاسيت … طلب منهم العفو والمغفرة بعد الاعتراف … بادره ياسر : كان ذلك ممكناً لو أنك لم تطلق النار على أبناء الشعب، ولم ترتدي الزي العسكري الإسرائيلي، أما الآن فقد سبق السيف العدل، ولكن بإمكانك التوبة الخالصة لله تعالى والصلاة والخشوع بين يديه طلباً للمغفرة والرحمة … وأحضر له الماء وأرشده إلى طريق الوضوء والصلاة كإعلان للعودة إلى الله تعالى ولو في اللحظات الأخيرة … ثم جلبوا له بعض الطعام تناوله بتردد.

كان العمل الجهادي القسامي يسير بانتظام وهدوء، ولا يعلم به أحد على الإطلاق سوى القائمين وعين الله ترعاهم … فالسرية والكتمان علامات بارزة في شخصية ياسر، ولكن قدر الله النافذ يتحرك لحكمة بالغة لإماطة اللثام وكشف خلايا القسام العاملة، حيث حضر ياسر إلى والده يوماً بعد خروج الوالد من المعتقل ليخبره أنه باع نصيبه في المزرعة لعدم جدواها … ولم يعط الوالد الخبر اهتماماً كبيراً حتى علم بالقصة لمّا قدمت قوات الاحتلال في بداية عام 1992م لاعتقال ياسر … ورفض ياسر الاستسلام وأصبح ضمن المجموعة الأولى لمطاردي القسام … واختارته قيادة الجهاز العسكري ليكون أميراً للمطاردين، وقضى أبو طارق جل وقت المطاردة في مدينة غزة مع إخوانه يتنقلون من موقع لآخر وهم يؤدون واجبهم في الموجهة الجهادية على مختلف الجبهات، كان يشعر ياسر بالمتعة في حياة المطاردة لأنها تجسيد بقوة التحدي والصراع … وما أجملها من معاني حين يحمل صاحبها الحق ويزود عن حمى الشرف والكرامة، والمطاردة تعني في قاموس ياسر المقاومة حتى آخر الأنفاس …

وأضاف استشهاد طارق القسام مزيداُ من التحدي والعنفوان على شخصية ياسر، وكم كان طارق قريباً من ياسر فهما أبناء النصيرات وأبناء الحماس والقسام وأبناء الجمعية الإسلامية، كل ذلك معاً وسوياً، وترى ذلك مجسداً في تسمية ياسر نفسه بلقب (أبي طارق) نسبة إلى طارق الشهيد … وغدا بعده ياسر أكثر تصميماً على مواصلة الطريق حتى نهايته، وكم كان يتمنى النهاية بشهادة في سبيل الله تقر بها عينه ويعز الله بها راية الإسلام ويذل راية يهود …

لم يطل انتظار ياسر، فبعد أكثر من شهر من استشهاد طارق كان القدر يرسم لياسر نفس الخطى، ولكن بصورة جديدة …

ففي مساء الرابع والعشرين من شهر مايو من نفس عام المطاردة (1992)، تقدمت قوة عسكرية نحو منزل الشيخ حسن الديري في حي الصبرة بمدينة غزة لتحاصره، حيث يقبع داخله الأبرار الشهداء (الزايغ … قنديل … الحسنات)، وكان مروان حينها يعاني من أثر الإصابة النارية بقدمه … قبض ياسر على القنبلة اليدوية الوحيدة التي بحوزتهم وتجلت في لحظة واحدة كل الصور أمامه … صورة الماضي العامر بالعطاء والتفاني للرسالة الخالدة … وصورة الحاضر الذي يحمل ملامح التحدي غير المتكافئ، لكنه الإيمان يملأ الصدور ويدفع لمواصلة الطريق مهما كان الثمن … وصورة المستقبل المشرق … حيث جنان الرحمان والفردوس الأعلى والشفاعة وعرش الرحمان يتجلى، وحيث الأنبياء والصديقين والشهداء بإذن الله.

واعتلى ياسر سطح المنزل … ولما تقدمت القوة وأصبحت في مرمى الإصابة انطلق الساعد القسامي بقنبلته وهو يهتف الله أكبر … الله أكبر.

ليتشتت جمع يهود ويقعون مدرجين بدمائهم … ويصوب مروان رصاص مسدسه نحو ضابط الوحدة، فانطلق الرصاص الجبان من كل صوب وحدب نحو أجساد الأبرار ليتحقق الحلم لأبناء القسام بالشهادة والارتقاء إلى الجنان إلى الفردوس الأعلى … ويتحقق حلم يهود في القضاء على إحدى الخلايا القسامية، ويهوي أحد ضباط الاحتلال إلى قعر جهنم، حيث تمكن رصاص القسام من قتله ليحقق الله دعوة ياسر لشهادة يذل بها يهود …

كانت وصية ياسر التي سمعها أهله عبر شريط الفيديو عالقة في أذهانهم ـ عدم الصراخ ـ توزيع الحلوى ـ إقامة عرس الشهادة ـ تنفذ بحذافيرها، حيث ذرفت الدموع على الشهيد الغالي وانتصب عرس الشهيد في قلب النصيرات أمه أبناء القطاع، يهتفون للشهيد وللإسلام وللحماس وللقسام. والتهبت أرجاء القطاع بالمواجهات العارمة غضباً شعبياً على فقدان أناء مقاتلون بررة من أبناء هذا الشعب المعطاء …

ومكث جثمان الشهيد أياماً مع قوات الاحتلال، وبعد ليال ثلاث تقدمت قوة عسكرية تطلب من الشيخ حماد الخروج مع أفراد قلائل من العائلة لدفن الجسد الطاهر … جسد الشهيد ياسر … كانت نظرات الوداع الأخيرة بالغة التأثير، شعر الشيخ حماد بمرارة الفراق ولوعة الحرمان من رؤية ولده الحبيب الوادع، لكنه كان في سعادة غامرة حيث ولده يكمل الطريق التي اختارها برزت معاني التضحية والوفاء من أجل الله والوطن متجسدة في شخص ولده لعودة الراية الخالدة … ووري الجسد الطاهر التراب لتضمه (مقبرة الزوايدة) التي تفخر بثلة من الشهداء الأبرار تقبع أجسادهم في تربتها الطاهرة.

ولم يقف العطاء ولم تقف المسيرة، إذ استمر (زياد حماد الحسنات) شقيق ياسر في طريق شقيقه ليطارد لسلطات الاحتلال فترة من الزمن ثم يتمكن من مغادرة الأرض الحبيبة على أمل العودة القريبة بإذن الله … وقد ألقيت كلمات الرثاء والوفاء للشهيد الغالي في عرسه الكبير ومما تضمنته هذه الكلمات …

" إننا نودع اليوم رجلاً شهماً إلى جنات الفردوس بإذن الله … استشهد في ميدان العز والشرف والكرامة في سبيل الزود عن حياض الوطن المقدس … لقد أوقف شهيدنا حياته منذ نعومة أظافره لخدمة دعوته ووطنه … إن حماس لا ترثيه ولا تبكيه بل تتخذ من سيرته مثلاً أعلى ونبراساً …

إن ما يبعث فينا الثقة والقوة، التاريخ القسامي الحافل بالأعمال المجيدة لشهيدنا الغالي، إن من عرف هذا البطل عرف أن الله قد أودع قلبه سراً علوياً لم يودعه إلا في قليل من عباده الصالحين، منهم ياسر الذي أخذ من الإيمان عقيدة، ومن الإخلاص وطنية، ومن الوفاء عشرة ومن العزيمة إقدام، ومن الثبات إرادة، ومن النبل طبعاً، والبطولة اتصالاً ".

وقد أجمع الذين شاهدوا ياسر في شهادته أنه كان كاليقظ ورائحة المسك تعبق المكان … نعم إنها الكرامة يمنحها الله لأوليائه المجاهدين الذين تقدموا في زمن التراجع ليكتبوا بدمهم صفحة جديدة ويشقوا طريق الحرية … بجهادهم المتواصل وليدقوا أبوابها الحمراء بدمائهم المدرجة الزكية … فطوبى لهم وحسن مئاب …


المراجع

موقع مملكة القصص الواقعية

التصانيف

قصص