"لا بد وأن أحدهم قد أساء لجوزيف-ك- لأنه ودون أن يرتكب أي ذنب اعتقل في صباح جميل". فرانز كافكا (المحاكمة)

في أحد الصباحات الجميلة وجدتني أدعى للاعتراف بإثنيتي " الألمانية". استجابتي الطبيعية كانت في البحث عن مخرج. ومع ذلك- كما يتعلم المرء من قراءته لكافكا- ليس من السهل أن يحصل المرء على مهرب كهذا. ولكن هل يمكن لي أن أنكر هذه التهمة وأعارض ما تستلزمه، أو هل يمكن أن أجد شخصاً يشهد لصالحي أو – وياله من أمل طائش- هل يمكن أن أبتكر سبباً مخففاً لهذه التهمة؟

بالطبع، أستطيع أن أجادل بأن أسلافي لم يكونوا ألماناً، بقدر ما هم سوابيين،أو بروسيين، أو دانماركيين (وربما كان الأمر أكثر بعداً وأعمق أسطورية) إذ يمكن أن يكونوا طلياناً أو إسباناً. وربما كان باستطاعتي اللجوء إلى التفكيك الفعال للأصل الإثني الذي طرحه جاك روبو، والذي يمكن إثباته في قولنا " هل لوبان (زعيم اليمن المتطرف) فرنسي؟" فروبو يأخذ بعين الاعتبار المعاني الضمنية لتعريف جان ماري لوبان للشخص الفرنسي بوصفه شخصا والداه فرنسيان:

"إذا كان لوبان فرنسياً تبعاً لتعريف لوبان، فهذا يعني، تبعاً لتعريف لوبان، أن والدة لوبان ووالده فرنسيان. وهذا يعني تبعاً لتعريف لوبان أن والدة والدة لوبان، ووالد والدة لوبان، ووالدة والد لوبان دون أن ننسى والد والد لوبان فرنسيون تبعاً لتعريف لوبان. وينطبق هذا على والدة والدة لوبان، وعلى والد والدة لوبان. بالإضافة إلى والدة والد لوبان، ووالد والد لوبان، سيكونون فرنسيين أيضاً تبعاً لتعريف لوبان. وبالطريقة ذاتها، وللأسباب ذاتها أيضا سيكون والد والدة والدة لوبان بالإضافة إلى والدة والد لوبان ووالد والد لوبان سيكونون فرنسيين أيضاً تبعاً لتعريف لوبان وبالطريقة ذاتها و للأسباب ذاتها أيضا سيكون والد والدة والدة لوبان بالإضافة إلى والد والد والدة لوبان، وينطبق هذا على والدة والد لوبان وعلى والد والد لوبان، من الفرنسيين. وتبعاً للتعريف الصادر عن لوبان الذي يمكن للمرء أن يستنتج من خلاله دون أية متاعب ودون معونة من لوبان نفسه، استمرار المرء لهذه المحاكمة، إما أن هناك لا نهاية من الفرنسيين الذين ومنذ فجر البدايات الأولى للبشرية قد ولدوا وعاشوا وماتوا فرنسيين تبعاً لتعريف لوبان، أو أن لوبان ليس فرنسياً تبعاً لتعريف لوبان". (- أود أن أقدم شكري لجان جاك بوسيل لمساعدتي في تأسيس وترجمة هذا النص. جميع الترجمات الأخرى هي لي. المؤلفة.)

ولكن حتى لو كان روبو شاهداً موثوقاً، وحتى لو تمكنتُ من تقوية موقعي مؤقتاً بمساعدته، ألن تكون دوافعي وراء محاولتي أن أصنع مخرجاً موضع مساءلة؟ ألن يستخدم دافعي للهروب في تثبيت خطيئتي؟

في ألمانيا (الغريبة) في فترة ما بعد الحرب لم يكن للمرء أن ينشر "ألمانيته" في العلن. فالإعلان عن الهوية الإثنية أو العرقية أو القومية عموماً- وعن الهوية الألمانية خصوصاً- مع تغذية لهذه الهوية، كان قد أطلق الكثير من الإيحاءات المغرضة. لقد تم تلطيخ وتلويث تصنيفات البشر في العمق على الصعيدين السياسي والأخلاقي عبر هذه الوسيلة. وعلى أساس هذه البيّنة أستطيع أن أتوقع الآن من أن ترددي في أن أتصرف بوصفي " ألمانية"، سيتم تشخيصه على أنه أكثر الأشياء الألمانية مثالية فيما يتعلق بي. كما ستوحي مقاومتي المستمرة بأن الإثم ربما كان أفدح من الاشتباه الذي تم في البداية.

لقد أصبحت ممارسة تغذية الهوية الإثنية بالإضافة إلى أشكال أخرى من الهويات الجماعية الثقافية في السياق ما بعد التفكيكي للتسعينات، ممارسة جماهيرية مرة أخرى. رغم ذلك وبعد هذا التفكيك، لم يعد بإمكان الإثنية أن تكون حقيقية. إذ عليها أن تكون شيئاً مبنياً، ومتعدداً، ومهجناً، ومتشابكاً.

يشير استخدام فيرنر سولورس لكلمة "اكتشاف" إلى هذا التحول في عنوان أحد كتبه (The Invention of Ethnicity): "إن إطلاقنا كلمة إثنية- أي أن تنتمي ويتم إدراكك من قبل الآخرين على أنك تنتمي إلى مجموعة إثنية- هو " اكتشاف"، فالمرء يشير إلى تأويل في سياق حديث وما بعد حديث."

ويبدو هنا أن ارتباط سولورس" بالسياق ما بعد الحداثي لا يتأثر بشيء، إذا كان المرء متعباً في ظل "الاعتقال" الإثني. لكنه ومع ذلك يُفهم ذلك "الاعتقال" على أنه " اعتداء":

"هل من الممكن أن يأخذ المرء الاعتداد ما بعد الحداثي على محمل الجد ويشايع فكرة معينة عن التاريخ وعن الفرد وعن الحياة الجماعية في العالم الحديث؟"

في غياب نظرية موثوقة من شأنها أن تؤيد مزاعم المرجعية، يضيع معنى هذه الاكتشافات ويهدد بالتلاشي. واستجابة لهذه المشكلة، يقدم سولورس مفهوماً للإثنية أعيد تعريفه:

"ليست الإثنية تلك القوة الضاربة عميقاً الباقية من الماضي التاريخي، بل هي أحد الملامح الحديثة والمحدثة لاستراتيجية متناقضة..فهي تميز إحساساً حديثاً مكتسباً من الانتماء يحل محل المجتمعات المرئية والمحسوسة…فهي ليست شيئاً بل سيرورة- وهي تتطلب عملاً استكشافياً مستمراً من القراء."

وينقل سولورس المعنى من المجتمعات الفعلية التي ما يزال بإمكان بنيات الإثنية أن تشير إليها، إلى نشاط الرعايا الراغبين في الانتماء إلى هذه المجتمعات. وهنا تتحول الإثنية من شيء يكونه المرء إلى شيء يفعله.

ولكن ماذا إذا لم يكتسب المرء "إحساساً حديثاً بالانتماء" بل رغبة باللاانتماء- أو على الأقل رغبة في إبقاء الاحتمالات مفتوحة على اللاانتماء كمخرج طوارئ يستطيع المرء عبره أن يعطي المخبرين (المتلهفين دائماً) الزلة؟ هنا ستنتقل فكرة الإثنية من نموذج الاعتراف بالحقيقة أو إنكارها (الحقيقة الأكثر أو الأقل وضوحاً) إلى الاختيار بين صيغتين من القراءة ورغبتين فيهما. وهكذا، توجد إعادة تعريف سولورز متسعاً لإمكانية اختيار اللاانتماء – وهو خيار أعتبره أساسياً. لأن مجرد اختيار المرء أن يفعل الأمر الآخر يستطيع أن يمنع الاكتشاف من أن يصبح غير قابل للتمييز عن الفكرة القديمة للحقيقة التي لا مفر منها بكل رعبها الملازم. إن تجربة المرء في الوطن لها تتمتها القلقة والضرورية. وهي تجربة أن يكون المرء أجنبياً. ففي العام 1977 عندما كنت في الجامعة، أمضيت عامي الأول في الخارج، في جامعة أوهايو. كان الكثير من الطلاب يذكرون عرضاً بأنهم كانوا " ألماناً". رغم ذلك كنت أعلم بأنني الطالبة الوحيدة من ألمانيا في ذلك الحرم الجامعي من بين أربعة عشر ألفاً من الطلاب. عندما حضرت مرات متتالية أمسية أدبية لإيلي فيسيلوأداء أحد الطلاب لعرض "كباريه" (فيلم سينمائي موسيقي يحكي عن أحد مغنيي الكباريهات في ألمانيا خلال عقد الثلإثنيات. أخذ الفيلم عن الرواية المشهورة" وداعاً يا لين" التي كتبت عام 1939. عرض الفيلم عام 1972 ونال ثماني جوائز أكاديمية أخرجه Bob Fosse- المترجم.)، تكثف إحساسي بفردانيتي الغريبة. ويبدو بأن كلا الحدثين أفرداني من بين الجمهور العريض بأكمله واعتبرا أنني الشخص الوحيد الذي يتوجهان إليه بخطابهما ذاك. وفجأة ألفيت نفسي نقطة معزولة سلطت عليها الأضواء في مكان معتم امتلأ ببشر بدوا مزيفين وهامدين. إذا كانت تلك اللحظة تمثل النزعة الجوهرية التي شعرت تبعاً لها أنني " الألمانية الحقيقية" الوحيدة بين الطلاب في ذلك الحرم الجامعي والشخص الوحيد الذي وجهت له تلك العروض، فإن ذلك الإحساس لم يمنحني الراحة. ولم تكن هي اللحظة التي جعلتني أشعر بأي حال من الأحوال بأنني في وطني وضمن مجتمعي. وإذا ما أول المرء تلك اللحظة على أنها اللحظة التي أسست هوية، فإن هذه الهوية لعبت دور المعارض المطلق للهوية الجماعية. وإذا كانت هذه اللحظة تدور حول كوني "ألمانية" فهي لا تدور حول كوني ألمانية بشكل إثني. ففي تلك اللحظة يقبع المرء – المكشوف تماماً والمختفي بشكل كامل، والموقعان صامتان ومركزيان –وراء اللغة وقد سقطت من أي نظام دلالي.

ويصبح المرء في الوقت ذاته، المتهم الوحيد والقاضي الأوحد. لقد واكبتْ أعمال فرانز كافكا وإيغنبرغ باخمان آثارا لأحداث من هذا النوع.

يزداد جوزيف ك.،بطل كافكا، إرهاقاً في سياق محاكمته. فهو ما يزال يقيم الفوارق بحرص لمعظم الوقت. لكن لحظات ما كانت تجبره أن يستريح على الأريكة في مكتبه. وفي مقطع شطبه كافكا، ينزلق جوزيف ك في أريكته نصف نائم، لتغيم الفوارق بين أولئك المرتبطين بالمحكمة، وبين الذين لا علاقة لهم بها:

"هنا، في هذه الإغفاءة اختلطوا فيما بينهم، فقد نسي العمل الجلل للمحكمة، أحس وكأنه المتهم الوحيد، وكأن الآخرين من الموظفين والمحامين امتزجوا في أروقة المحكمة، وقد أخفض أشدهم كآبة ذقنه إلى صدره، وأطبق شفتيه، واكتسى تلك النظرة القاسية التي تعبر عن تفكير مسؤول." إن إغفال الفوارق الضرورية، ينقل جوزيف ك. من الإحساس بأنه "المتهم الوحيد" إلى "اختراق" مفاجئ يظهر فيه إلى جانب القضاة. على أية حال، يعتبر جانب القضاة مكاناً محرماً على جوزيف ك.، ولم يكن من الممكن للمحاكمة أن تستمر وجوزيف ك. في دور القاضي. وهنا يراقب كافكا المقطع، ويعيد ترسيخ الفوارق وبالتالي ينقذ روايته.

وفي حين حافظت رواية كافكا على مشهد المتهم، تسبر رواية باخمان (Ein Bwildermuth) أغوار قاض أجبر على محاكمة مجرم له نفس كنية القاضي. بينما تستأنف المحاكمة يزداد قلق القاضي " فقد كان عليه أن يقرأ اسمه مرات ومرات كشخص غريب":

"وهنا كان اسمه جزءاً من حكاية كريهة….فالأحداث المكتوبة في الملفات لم تهزه من قبل بمثل هذه الطريقة. ولم يتساءل أبداً ولا في أي حال من الأحوال، كيف يمكن لاسم أن يقترن بمجرم، وسيارة مهشمة واختلاس وزنا. كان من البديهي بالنسبة له أن تعطي الأسماء معلومات عن مثل هذه الأشياء وأن تجتمع الأحداث مع تلك الأسماء التي يمكن للمرء من خلالها أن يميز المدعى عليهم من الشهود." ص 19-218

وكما في مقطع كافكا المبعثر، ينهار الفرق بين المتهم والقضاة، ومعه تتفتت بداهة الأسماء، وإمكانية النطق بالحقيقة بواسطة اللغة، وبالتالي يتعذر الوصول إلى حكم حاسم وجلي. في سياق المحاكمة يحاول المجرم جاهداً أن يعترف، وينجح فقط في جعل الحكاية تمتنع عن أن تُروى أكثر فأكثر. أخيراً يدعو النائب العام " بصوته الحاد" المجلس التائه للعودة إلى الواقع وهنا يصرخ القاضي ويكف عن كونه مؤهلاً لممارسة مهنته.

"قرأ التقارير والآراء، وسرعان ما حفظها عن ظهر قلب. لقد حاول – وكأنه غير معني- في أن يخلق في داخله الحكاية، ويهشمها إلى قطع متناثرة. تلك الحكاية التي صنعها الحدث للجمهور. إنه ولوحده، ورغم كل شيء كان يعرف أنه لا يمكن تلفيق حكاية كما أنه لا يمكن إقامة دليل على صلة ذات معنى، بل هناك مجرد حادثة مرئية وقعت مرة واحدة عبر صدمة روح على روحه غير المؤهلة لأن تحدث أي اضطراب في العالم أكثر مما تحدثه حالة من الفوضى القصيرة الهلعة."

ما حدث للقاضي لا يثمر حكاية وبالتالي لا يثمر حكماً. إن صمته ينبه فقط لموقع الصدمة… مكان سقط فيه شيء ما من خارج اللغة وتحدى ذلك الشيء كل محاولة لتلفيق حكاية حوله.

في الأحداث التي عطلت رواية كافكا، والتي سببت صمت قاضي باخمان، تفتح لحظة من الارتداد الذاتي ثغرة في اللغة. إذ تؤكد رواية كافكا نفسها مقابلَ ذلك الحدث في الحين الذي تؤكد فيه رواية باخمان على ذلك الحدث. وبعد الحادثة- يعيش القاضي المتهم في تلك اللحظات ومعها لحظات من القصور التي تتحدى الإمساك بمرجعية اللغة. وهذا موضوع لا يؤكد على الفروقات بل على المخرج، وهو الموضوع الذي تدافع عنه جوليا كريستيفا في "زمن النساء".

"يمكن تلخيص هذه السيرورة على أنها عملية جوننة لعملية الفراق التي تؤسس للعقد السوسيورمزي، وكمقدمة لمرحلتها الأكثر تطوراً في باطن كل هوية ذاتية كانت أم جنسية أم إيديولوجية. ويتم ذلك بطريقة يمكن أن يتم استبدال المسعى الجلي المتزايد والاعتيادي لفبركة كبش محرقة ضحية تؤسس لمجتمع ما أو مجتمع مضاد، بتحليل إمكانيات الضحية\الجلاد التي تميز كل هوية وكل رعية وكل جنس."

إن إمكانيات هذه / الضحية الجلاد/ أو القاضي المتهم هي إمكانيات أحد الرعايا الذي يعرف أنه لن يكون قادراً على أن يجهر باسم هويته.

وإما أن تحوز الأسماء التي تشير إلى الإثنية (شأن جميع الأسماء واللغة عامة) المغزى، أو أنها تفشل في ذلك. هذا المغزى الذي يعتمد على قراءة الناس بعضهم لبعض – إما بشكل عرضي، أو بشكل ساخر، أو بشكل كارثي- كما يعتمد على قراءة البشر لأنفسهم بمصطلحات هذه الأسماء (وعلى كيفية قيامهم بذلك) أو أنه لا يعتمد على هذه القراءة. فالطمأنينة التي تهيئها الأسماء للبعض والمخاطر التي تطرحها بالنسبة للبعض الآخر، تتنامى بشكل متناسب مع الإيمان "البديهي". تلك الأسماء "تعطي" معلومات.. وتلك الأحداث "تتجمع" مع تلك الأسماء التي يستطيع "المرء" من خلالها أن يميز المدعى عليهم من الشهود. "وبشكل معاكس، يمكن الانغماس في اكتشافات الإثنية بشكل أكثر بهجة عندما تنظر هذا الاكتشافات إلى نفسها نظرة أقل جدية. على أية حال، يتم تعيين مشهد الجريمة، والاعتقال والعار، في مكان آخر. وفي مكان آخر أيضاً تكمن إمكانية الضحك وإمكانية تشكيل هروب.

"نعم نحن ألمان"… اعتاد أولئك الطلاب في أوهايو أن يقولوها. وأنا أيضاً سعيدة لأن أقول هذه الكلمات من وقت لآخر. ولكن في تلك اللحظات، لن تعني لي أي شيء. فالترجمة الإنكليزية للكلمة اللاتينية Alibi هي " مكان آخر"… ها قد وجدت مكاني الآخر.

(الكاتبة أستاذة الأدب المقارن في جامعة آيوا الأميركية)

ترجمة: صخر الحاج حسين


المراجع

Text

التصانيف

الآداب   الفنون