في الرابع عشر من شهر اكتوبر لعام 1994 ارتقي إلى العلى الشهيد القائد صلاح جاد الله حسن سالم "أبو محمد " بعد أن صدق الله فصدقه ...ارتقي بعد أن رسم صورة للمجاهد المسلم العزيز الذي شهر سلاحه في وجه الظلم ليقهر جند الغطرسة والعدوان ،وبعد ثماني سنوات من استشهاد هذا القائد برفقة اخوانه الميامين "حسن النتشة وعبد الكريم بدر " كان لزاما علينا أن نتذكر هذا القائد الفذ ونقف وقفة عز وشموخ له، رجل المواجهات.
"حي الشيخ رضوان " ما زال يغفو علي احلام نورانية مزهرا بأطياف شهداء مجزرة الشيخ رضوان حيث خضبت دماء الشهداء(فواز بخيت –عبد الناصر الشريف –مجدي الغوراني) ودماء عشرات الجرحى في ساحة المسجد وذلك في الثامن عشر من شهر مارس من العام 1989.
كان هذا دافعا كافيا لينطلق شباب هذا الحي في مواجهات بطولية لجنود الاحتلال ليمثل رافدا كبيرا للانتفاضة الباركة التي تشتعل نارا ولهيبا في قطاع غزة الذي غدا شوكة في حلق الاحتلال ،وكم تمني قادة العدو زوال هذه المنطقة عن الخارطة واغراقها في البحر ...وكان وجه فتانا يطل من بين الوجوه غضبا ونارا علي هدر الدماء المسلمة في بيت الله تعالي لتغرس في قلب الفتي بذرة الثأر والانتصار .
وبعد ايام من انقضاء عيد الفطر المبارك وبالتحديد في السادس من شوال اندلعت مواجهات حادة في حي الرضوان وكان صلاح وشقيقه خالد من أولئك الذين قفزوا فوق المنازل يدافعون عن الحي بحجارتهم في مواجهة رصاص الصهاينة ...وكان خالد ذلك الشاب الهادئ الوديع صائما في هذا اليوم استجابة لسنة النبي صلي الله عليه وسلم في صيام ستة أيام من شوال يبدو مواجها صلبا والي جواره شقيقه صلاح وذلك حين انطلقت رصاصة غادرة أصابت قدم المدافع العنيد خالد الذي سقط جريحا وأدركه جنود الاحتلال بعد أن سقط أرضا وضربوه بعنف موقع الاصابة وانسابت الدماء الطاهرة زكية من جسد خالد فيما يرفض الصهاينة اسعافه ،وكانت عينا صلاح ترقب الموقف والالم يعتصرهما والدمع ينهمر منهما ،كان ينطلق لانقاذ شقيقه وهو لا يملك أدني عناصر المقاومة اللهم الا قلبا عامرا بالايمان وبحب شقيقه خالد ،ولكن زخات الرصاص انطلقت نحوه وأوقفته جامدا،لكنها لم توقف كوامن نفسه التي تغلي كالمرجل ،وبقي هذا المشهد يعتمل في صدر هذا الفتي ليروي بذرة الثأر والانتصار.
فقد حركت هذه الرصاصات كوامن الجهاد والتضحية والفدائية الي نفس فارسنا الصنديد ...ألم ير جنود الاحتلال وهم يضربون شقيقه وجرحه نازف حتي فاضت روحه من أثر النزيف ظلما وعدوانا ،وفي عزاء شقيقه أقسم (صلاح) علي الثأر من تلك القلوب القاسية حتي يردها لصوابها ...وبينما كان صلاح بهذه الحالة طافت بخاطره صور جده واعمامه يقتلون علي يد ذات القلوب القاسية كما صورها له والده الشيخ الجليل حين حدثه عن قصة الرحيل الكبير للشعب الفلسطيني ورحيل عائلته من بلدة "برير" الفلسطينية والاقامة في حي التفاح الملاصق لمدينة غزة من الشمال.
الميلاد والنشأة
ولد شهيدنا في السادس والعشرين من شهر نوفمبر عام 1972 وأسماه والده صلاح الدين تيمنا بالقائد المسلم (صلاح الدين الايوبي ) أملا بتحقيق النصر علي يد هذا "الصلاح " وله من الاخوة ستة والبنات خمسة ،نشأ فارسنا في ظلال مسجد الرضوان يتنشق خلاله الصفاء والنقاء بعد أن فطم علي العزة والكرامة والحرية علي يد والديه ... وكان الذكاء أكثر ما يميز الفتي وقد زين ذكاؤه جرأة غير عادية فاق بذلك أقرانه ،وقد أنهي الفتي دراسته الابتدائية والاعدادية ،ثم درس المرحلة الثانوية في مدرسة فلسطين الثانوية ،وكان حينها أحد ابرز نشطاء حماس،يلقي الندوات في المسجد عدا عن دوره المتميز في قيادة جهاز الاحداث التابع لحماس في حي الرضوان ... وقد اعتقل ذات مرة في احدي المواجهات العنيفة في مسجد الرضوان علي إيدي القوات الخاصة الصهيونية حيث ضربه جنود الاحتلال بكل وحشية وألقوه بين الاحراش بعد أن فقد الوعي ليزرعوا بذلك بذرة الثأر والانتصار في قلب ذلك الشاب الوديع.
كان صلاح في عنفوان انطلاقه لمواجهة من بذروا داخله الكراهية والثأر لما اقترفت أيديهم تجاه شعبه واهله وشقيقه واتجاهه شخصيا ،وفي مشهد مكرر لحادث استشهاد شقيقه خالد انتصب صلاح فوق أحد الأسطح في حي الرضوان يرجم الصهاينة بحجارته النارية وانطلق الرصاص مدويا في سماء الرضوان ،وكانت احدي الرصاصات نصيب فارسنا المقدام ليضاف الي سجل معاناته صفحة قاسية جديدة حيث اخترقت الرصاصة جسده الطيب واصابت الكبد والبنكرياس واستقرت في الاثني عشر ،وامضي صلاح علي اثرها شهرين راقدا في أسرة مستشفي الشفاء بغزة وثلاثة أشهر في مستشفي المقاصد الاسلامية بالقدس نتيجة سوء حالته الصحية ،كل ذلك كان يمضي ليحفر في شخصية صلاح علامات بارزة لترسخ لديه قسم الثأر لكل قطرة دم أريقت علي أعداء شعبه وارَضه.
الانضمام الي الكتائب
واثر شفائه تحرك بطلنا المغوار لإكمال دراسته العلمية حيث انهي دراسته الثانوية بتفوق كعادته وليتحرك الي الضفة الغربية لاكمال دراسته التعليمية حيث التحق "بالكلية العربية للمهن الطبية " برام الله وحصل علي شهادة الدبلوم في الأشعة وذلك رغم انشغاله الكامل بالعمل الجهادي القسامي الذي بدأت تنمو بذوره في قطاع غزة ،وكان صلاح يعقد آمالا عظيمة علي تقوية الشوكة العظيمة لهذه النبتة الصافية حتى تبقي حماس وكتائبها رقما صعبا ،وفكر صلاح مليا في جدوي نقل العمل العسكري من غزة الفداء الي الضفة الغربية وتحرك لاجل ذلك بكل عنفوان حيث بادر بتوقير بطاقات هوية اسرائيلية مزورة وتزويدها لابناء القسام الاوائل ومطارديها النجوم (بشير حماد ومحمد حرز ومحمد ابو عطايا وطلال نصار ومحمد عايش وعماد عقل ) مع توفير سيارات اسرائيلية ومأوي مناسب لهم ،وكان قدر الله أسبق حيث اعتقل ثلاثة من المجاهدين من أفراد المجموعة من البيت المستأجر في بيتونيا في رام الله وضبطت معهم هوية مزورة باسم "صلاح" الذي فر لمدة أسبوع انتقل خلاله من رام الله الي الخليل الي غزة حيث اعتقل بتاريخ 6/8/1992 في سجن غزة المركزي لينهي صفحة المطاردة الصغيرة ويفتح صفحة اخري لبداية جديدة ولبطولة فريدة خطها مجاهدنا العظيم بصبر وصلابة.
وكان لتلك الأيام القاسية أعمق الاثر في فكر صلاح وشخصيته وتوجهاته الجهادية حيث أخضع فارسنا المغوار لجولات تحقيق رهيبة استمرت ثلاث شهور في زنزانة انفرادية بسجن غزة المركزي كسر خلالها أنفه ،ونقل لمستشفي سوروكا في بئر السبع لإجراء عملية جراحة،الا ان تعنت جهاز المخابرات منع ذلك وأعيد للتحقيق مجددا حيث نقل بعدها الي عزل المجدل لاربعة شهور أخري ،وكان خلالها في تحقيق وتغيب كاملين حتي بدا صلاح في حالة من الانهيار والجنون لينقل للعلاج في المستشفيات ثم يحول لمعتقل النقب الصحراوي ،وعلم هناك أن والده الشيخ "أبا أحمد" قد ابعد الي مرج الزهور أثر عمليات عسكرية فعالة نفذتها كتائب القسام ،اكتسب صلاح خلال تلك المدة المزيد من العزم والصرامة والسرية والكتمان مع مزيد من الاهتمام بالاعداد الجيد والعمل المتقن الدقيق مع شعور جارف أن الاولوية الاولي للعمل الجهادي الافراج الكامل عن كافة المعتقلين الفلسطينيين وعلي رأسهم الشيخ أحمد ياسين.
تأسيس مجموعة خاصة لخطف الجنود
ولما تحقق أمر الله بالافراج عاد صلاح لنشاطه القسامي المتميز حيث بادر لتجنيد مجموعات سرية خاصة جديدة في مناطق الضفة والقدس وكانت الخلية المقدسية (ايمن أبو خليل –طارق عرفة –راغب عابدين –حسن النتشة وعبد الكريم بدر ) أبرز تلك الخلايا حيث قامت اختطاف الجندي "شاحر سيماني " عضو وحدة دوفدفان العسكرية الصهيونية ونتيجة مقاومته العنيفة تم قتله وسلب سلاحه وهويته ،وقد أصيب أيمن أبو خليل في العملية .
ثم تقدمت ذات الخلية وخطفت الجندي "ارئيل فرنكتال " وقد قتل بعد خطفه مباشرة ،ثم قامت الخلية بالاعداد لهجوم مسلح علي منزل شارون في القدس ووقع اشتباك عنيف مع الشرطة الصهيونية وقد استشهد أثره المجاهدان "طارق أبو عرفة وراغب عابدين " وتمكن المجاهدان حسن النتشة وعبد الكريم بدر من الفرار بأسلحتهما فيما أصيب المجاهد أيمن أبو خليل وتم اعتقاله....لتبدأ لمجاهدنا رحلة جديدة ..رحلة المطاردة ،حيث انه قائد هذه الخلية وليكون صلاح بذلك أول مطارد للعدو الصهيوني منذ دخول السلطة الفلسطينية الي قطاع غزة وقد أمضي "ابو محمد شهرين مطاردا داخل قطاع غزة ثم انتقل للضفة الغربية ليكمل نشواره في خليته المقدسية.
نخشون فاكسمان ...في الفخ
صور المعتقلين ومعاناتهم اليومية ما فتئت تراود صلاح والتفكير باطلاق سراحهم شغله الشاغل ،واستأجر لذلك بيتا في بير نبالا قضاء رام الله أغلقه باحكام ،وفي صبيحة الاحد 9/10/1994 تحركت السيارة القسامية وهي تحمل أرقاما اسرائيلية وبداخلها المجاهدون (صلاح جاد الله وحسن النتشة وعبد الكريم بدر ) وعند موقف للجنود الصهاينة توقفت السيارة ليعتليها الجندي الصهيوني "نخشون مردخاي فاكسمان" الي المقر في بير نبالا ليصل في ذات اليوم بيان الي الصليب الاحمر باعلان مسئولية كتائب القسام عن خطف الجندي ويوزع شريط فيديو يظهر فيه الجندي المخطوف وخلفه الملثم القسامي الذي لم يكن سوي المجاهد صلاح جاد الله وهو يحمل سلاح الجندي وأوراقه الثبوتية مع اعلان بكافة مطالب الخلية والتي انحصرت في الافراج عن المعتقلين مع تحديد الساعة التاسعة من مساء يوم الجمعة 14/10/1994 موعدا نهائيا ،وقد اعتبرت أطول فترة زمنية تسمح بها خلية مسلحة تختطف جنديا وتقع تحت سيطرة الحكومة التي يتبعا الجندي المختطف ،وقد غدت هذه الصورة رمزا للعمل القسامي المتصاعد ومثال فخر وتفاؤل للمستقبل الواعد لاولئك الرجال الذين حملوا أرواحهم علي أكفهم وخاضوا بحار المجد والعز والفخار لتسقط امامهم كل حسابات الارقام وتوقعات الساسة.
معركة رام الله الكبري
حركت عملية الخطف هذه العالم بأسره ووقف العالم علي قدم واحدة طوال ستة أيام متواصلة يرقب نهاية المشهد الدرامي لحرب غير متكافئة الارقام والحسابات ،خلية بامكانيات محدودة وقائد شاب مقابل دولة لها جيشها وقائدها الكهل المحنك ولكن نتيجة المعركة تتحدث عن نفسها.
وقد فشلت المفاوضات مع الحكومة الصهيونية في الافراج عن المعتقلين ,ناورت الحكومة لكسب المزيد من الوقت وتم تمديد الزمن الي مساء السبت 15/10/1994 وكانت الدولة العبرية حينها تعتقل جهاد يغمور مراسل الخلية القسامية ،وجهزت القيادة الصهيونية و حدة الاركان الخاصة وحاصرت الموقع القسامي في بير نبالا وذلك مساء الجمعة 14/10/1994 وفوجئت الوحدة الخاصة بالجدران المغلقة والموقع المحصن لتقع في شر أعمالها وتغدو اهدافا سهلة لنيران المجاهدين ليقتل قائد الوحدة الخاصة الصهيونية ويصاب ثلاثة عشر آخرين.
وأعادت الوحدة الكرة مرة اخري مع استخدام مكثف للقنابل والمواد المتفجرة لاقتحام المنزل ولكن اين تتقدم هذه الوحدة وقد أقسم المجاهدون قسم الاستشهاد والا تمتد اليهم يد يهودية حاقدة وفيهم عرق ينبض ،وتقدمت الوحدة ولكن علي جثث ثلاثة من الشهداء وجثة الجندي المختطف ...ونظرا لاستمرار المعركة مدة طويلة بين أعضاء الخلية القسامية ووحدة اركان الجيش الصهيوني فقد سميت بمعركة رام الله الكبري ،وعقد أثر هذه المعركة "اسحاق رابين " رئيس الوزراء الصهيوني ووزير الحرب وقائد أركانه "ايهود باراك " مؤتمرا صحفيا أعلن فيه رابين أن هذا أصعب يوم تمر به حكومة اسرائيل وانه شخصيا يتحمل المسئولية الكاملة لنتيجة المعركة والتي كانت حسب رأي مختلف الاوساط المطلعة أنها خسارة فادحة للجيش الصهيوني خاصة في مثل هذا النوع من احداث الخطف ، وقد احتجز العدو الصهيوني جثة الشهيد صلاح حتي افرج عنها في العام 1997 ولكن هل يضر الشاة سلخها بعد ذبحها ،فالروح في حواصل طير خضر تغدو وتروح في جنة عرضها السماوات والارض حيث شاءت باذن الله تعالي.
وليختم شهيدنا المقدام حياته الجهادية بملحمة تاريخية خالدة ...خلود دمه الطاهر يختمها بمشهد عظيم يصعب علي القلم كتابته يفوق حدود الوصف تضحية وتفانيا وعطاءا وعزا وفخارا ومجدا.
ويصعد الشهداء
ارتقي الشهيد المغوار وهو يحمل هم الوطن وهم اخوانه المعتقلين ،ارتحل بارا بقسمه الاول في الثأر لدماء شقيقه وأعمامه وجده واخوانه في مسجد الرضوان ...وفي الانتصار لقضية شعبه وأمته وإخوانه القابعين خلف القضبان ..ارتقي وهو يواصل دربه لم تثنه الشدائد ولم ترده المحن ولم تعجزه المصائب علي المواصلة بعزم جديد وارادة جديدة ...ارتقي وهو يبني منهجا جديدا في العمل العسكري القائم علي أساس من التخطيط المتين والتنفيذ الدقيق بعيدا عن الارتجالية والعشوائية مع تحديد أهداف مصيرية لمسيرة الجهاد الوضاءة.
ارتقي وهو يرسم صورة جديدة للمجاهد المسلم العظيم ..عزيزا ..كريما ...حرا أبياً ..ملثما ..يشهر سلاحه في وجه الظلم ويقهر جند الغطرسة والعدوان في أكثر لحظات حياتهم ذلة ومهانة ...ارتقي وهو يرسم صورة المستقبل ...صورة العلو الاسلامي القادم والذلة الصهيونية المحاصرة اذا توفرت مقومات النصر وليس أقلها الاخلاص والتفاني من اجل الله ودينه وأرضه وحينها لن يتخلي الله عن جنده.
المراجع
gesah2.com
التصانيف
قصص الآداب