الوطنية مفهوم حديث لم يشع في ثقافتنا المعاصرة، نحن السوريين، إلا بعد نشوء أو إنشاء الكيان السوري، بعد الحرب العالمية الثانية واقتسام تركة الرجل المريض. وقد اكتسب هذا المفهوم أولى دلالاته في خضم الكفاح ضد الاستعمار الفرنسي؛ وتطور بتطور الحياة السياسية، فلا يمكن فصل تاريخه عن تاريخها. وقد تجلى واقعياً في الانتفاضات المحلية التي توجتها "الثورة السورية الكبرى" 1925 – 1927. ثم صار علماً على حركة سياسية استقلالية واسعة وجامعة هي " الكتلة الوطنية"؛ وتبلور بقيام الجمهورية السورية ووضع دستورها عام 1928، وبنمو الحركة السياسية وصولاً إلى إعلان الاستقلال (22 كانون الأول 1943) وجلاء القوات الفرنسية (17 نيسان 1946)، وقيام جنين الدولة الوطنية، الذي عوقت الانقلابات العسكرية نموه ثم أجهزت عليه "ثورة الثامن من آذار" 1963.

ففي كل مرحلة من هذه المراحل كان المفهوم يكتسب دلالة جديدة تجعله يتداخل حيناً ويتخارج حيناً آخر مع مفهوم القومية بمضامينه العرقية / اللغوية والمذهبية. وتجدر الإشارة إلى أن صفة السورية كانت تحيل دوماً على الوطنية السورية. إن تاريخ المفهوم عندنا يشير بالسلب وبالإيجاب إلى ارتباطه الوثيق بمفهوم الدولة الحديثة، التي قامت بالفعل، ومن ثم فإن ضموره أو شحوبه أو غيابه يعني ضمور الدولة أو شحوبها أو غيابها.

منذ ستينات القرن الماضي، بدأ مفهوم الوطنية بالضمور طرداً مع ضمور الحقل السياسي العام وتحوله شيئاً فشيئاً إلى حقل خاص بحزب البعث العربي الاشتراكي، الذي صار "قائد الدولة والمجتمع، وقائد الجبهة الوطنية التقدمية"، فصار للوطنية معنى واحد هو الولاء للحزب الحاكم وسلطته الشمولية، فكل من يواليهما وطني وكل من لا يواليهما صراحة مشكوك في وطنيته، وكل من يعارضهما غير وطني، وصار لها المعنى نفسه أيضاً لدى الأحزاب الأيديولوجية المعارضة، فتحولت الوطنية إلى حكم قيمة يطلق على المحازبين والمناصرين وينزع عن غيرهم. وبرز مفهوم "القومية العربية" الحصري في معارضة مفهوم الوطنية، التي اختزلت إلى "قطرية" ذميمة.

لذلك، فإن محاولة إعادة تعريف الوطنية وتحديد دلالاتها وأبعادها تعترضها عقبات معرفية وأيديولوجية كأداء، من أبرزها:

1) إرادة / إرادات ذاتية تزدري الإرادة الموضوعية، التي تعبر عنها مقولة التملك، تملك العالم بالعمل والمعرفة ومقولة الاغتراب أو الاستلاب، في ارتباطهما معاً بمقولتي العمل والإنتاج الاجتماعي، إذ كل إنتاج هو تملك وكل تملك هو اغتراب واستلاب؛ ومقولة الملكية على اختلاف أشكالها، بوصفها موضوعاً للحق، الذي اشتقت منه سائر الحقوق المدنية والسياسية. ونجم عن ذلك استهانة بالحقوق وازدراء للقانون واستخفاف بمعطيات الواقع وجهل بمنطقه. فالإرادة الذاتية للحزب القومي أو الإسلامي أو الاشتراكي، ولا فرق، تحل محل منطق الواقع وتتبنى أهدافاً ليست من ممكناته، كالوحدة العربية أو الدولة الإسلامية أو دكتاتورية البروليتاريا والأممية البروليتارية.

2) عدم تمييز الإرادة الجزئية، إرادة الحزب أو الطائفة أو "الطبقة" أو الطغمة أو الجماعة الإثنية من الإرادة العامة، التي ترقى بهذه الجماعات المختلفة، إلى جماعة سياسية هي الأمة؛ إذ تنظر كل واحدة من هذه الجماعات المغلقة والأحزاب السياسية التي على غرارها إلى ذاتها على أنها الإرادة العامة، أو على أنها مفوضة وحدها بتمثيلها.

3) عدم تمييز الحرية الذاتية من الحرية الموضوعية، وصعوبة تصور أن الحرية الموضوعية هي العرف والشريعة ثم القانون الوضعي، بحسب درجة تطور الجماعة المعنية وصيرورتها أو عدم صيرورتها جماعة سياسية، إذ الجماعة السياسية وحدها هي التي تتعرف الحرية الموضوعية في القانون الوضعي، الذي تضعه لنفسها، وترى فيه ضماناً للحقوق والحريات وملاذاً من الجهل والهوى.

4) تداخل مفهومي السلطة والدولة في الوعي تداخلاً جعل حدود الدولة متطابقة مع حدود السلطة، فسهل عملية جعل الدولة شيئاً خاصاً وملكية حصرية للفئة التي تستولي على السلطة السياسية، أو للحزب الذي يغتصبها ويستأثر بها أو يحتكرها، لا شيئاً عاما وفضاء سياسياً وحقوقياً وأخلاقياً مشتركاً بين جميع مواطنيها. فإذا زالت السلطة السياسية لأي سبب من الأسباب، أو تغيرت، تزول معها الدولة، أو تتغير. فالسلطة السياسية وهذه الحال ليست سلطة الدولة، بل سلطة الفئة الحاكمة أو الحزب الحاكم أو الطغمة الحاكمة فحسب، وذلكم هو منشأ الاستبداد المحدث.

5) عدم إدراك الحد المفهومي والواقعي الذي يفصل المجتمع المدني عن المجتمع السياسي، وينشأ من عدم الإدراك هذا وهم أن المجتمع السياسي هو انعكاس المجتمع المدني، كانعكاس الصورة في المرآة، لا تجريده وتجريد كل فرد من أفراده. وينجم عن ذلك إما احتكار السلطة والسيادة وإما اقتسامهما، بحسب منطق الغلبة ونسبة القوى الدينية والمذهبية والطائفية والإثنية أو القوى التي "تمثلها". وفي الحالين يلتبس مفهوم الدولة فتضمر واقعياً أو تتبدد.

6) إقامة الحق، الذي تشتق منه جميع الحقوق المدنية والسياسية على أساس الاقتناع الذاتي للفئة الحاكمة وللقوى التي تعارضها أو تناوئها؛ فالفئة الحاكمة أو المعارضة هي وحدها من يقرر ما هي المصلحة العامة وما هي سبل تحقيقها، وهي وحدها من يقرر ما هي أهداف الأمة وما هي سبل تحقيقها، وهي وحدها من يضع معايير الوطنية ومبادئ الحق والأخلاق، فتغدو الحقوق المدنية والسياسية والقيم الأخلاقية مجرد اقتناعات ذاتية لهذه الفئة أو تلك. فلا حقوق عندها لـ "أعداء الشعب" ولا حرية لـ "أعداء الشعب"، وأعداء الشعب بالتعريف هم غير الموالين للحزب المعني أو الفئة المعنية، وهنا يكمن الجذر المعرفي والأخلاقي لتكفير المعارضة وتخوينها، والجذر المعرفي والأخلاقي لمبدأ "الولاء والبراء" المشترك بين الملة والحزب الأيديولوجي.

7) وينجم عن ذلك صعوبة ربط مفهوم الوطنية بمفهوم الدولة الحديثة، دولة الحق والقانون، وصعوبة تصور الأولى، أي الوطنية، على أنها وعي أخلاقي بالانتماء إلى الدولة الوطنية، أو الدولة / الأمة وتصور الثانية، أي الدولة، على أنها تجريد المجتمع المدني وتجريد كل فرد من أفراده وتعبير عن وحدته الجدلية وتحديد ذاتي للشعب، أي صعوبة تصور الدولة على أنها مجال سياسي وقانوني وأخلاقي عام ومشترك بين جميع مواطنيها.

8) مساواة، بل تسوية تعسفية بين الحقيقة الموضوعية والاقتناع الذاتي. وبين القيم السلبية والقيم الإيجابية، ما دامت جميعها اقتناعات ذاتية. فلا يخلو أن تعد الأخطاء والخطايا التي يرتكبها الحكام في منزلة الواجب الأخلاقي، لأنها تنال من "أعداء الشعب" أو من "أعداء الثورة" أو من "أعداء الحزب"؛ إذ يتماهى، لدى الأحزاب الأيديولوجية أو العقائدية، الحزب والشعب والثورة في هوية واحدة.

9)خصوصيات حصرية: حزبية وأيديولوجية ودينية ومذهبية وطائفية وإثنية، لا تتعرف أي منها ذاتها لا في فضاء المجتمع المدني ولا في فضاء المجتمع السياسي ولا في الفضاء الإنساني، والقاسم المشترك بينها جميعاً هو التنكر للدولة القائمة بالفعل وعدم منحها أي مشروعية، لأسباب معتقدية شتى تختلف من حزب إلى آخر ومن جماعة إلى أخرى، ومعارضتها بدولة متخيَّلة، بل متوهَّمة: إما قومية (عربية) وإما إسلامية وإما اشتراكية. ومن البديهي أن التنكر للدولة القائمة بالفعل وعدم السعي إلى جعلها دولة وطنية لجميع مواطنيها هو تنكر للوطنية، فلا وطنية بلا دولة وطنية هي دولة حق وقانون لجميع مواطنيها بالتساوي. ويمكن القول إن سكان سورية ليسوا سوريين بعد، وإن عدداً من الأديان والمذاهب والطوائف والإثنيات المغلقة على ذواتها لا يساوي شعباً.

10) ازدراء الآخر وتكفيره أو تخوينه، في سبيل استبعاده أو حذفه. فنحن لا نستطيع استبعاد الآخر والعمل على حذفه، أو تصفيته ثقافياً وسياسياً وأخلاقياً، ومادياً، إذا أمكن، إلا إذا نسبنا إليه ما يكفي من الصفات السلبية، كالكفر والنفاق والزندقة والشرك والإلحاد والخيانة والعمالة والتواطؤ والتآمر وما إليها من الصفات التي تجعل من استبعاده ومحاولة تصفيته عملاً "وطنياً" وواجباً أخلاقياً.

11)ازدراء للثقافة واستهانة بالإبداع في مختلف الميادين. فالفلسفة والآداب والفنون والدين أيضاً لا ينظر إليها إلا من زاوية الوظيفة الدعوية أو التعبوية أو التبريرية.

12) اعتقاد عميق بتمامية الآراء (الأيديولوجيات) وكمالها وبحيازة الحقيقة واحتكارها. واحتكار الحقيقة مسوِّغ كاف لاحتكار الوطنية واحتكار السلطة واحتكار ثروة المجتمع وقوة عمله وقوة ما يفترض أنها تنظيماته المدنية. وعلى الرغم من هذه العقبات وغيرها لا بد من المحاولة.

الوطنية لغة مصدر صناعي؛ والمصادر، كما هو معروف، أسماء جامدة تدل على معان مجرَّدة، لا على ذوات مشخَّصة، وهو مختلف في دلالته اللغوية والسيميائية عن مصدر الفعل وَطَنَ، بمعنى أقام، وعن النسبة إليه. فالوطن في القاموس هو "منزل الإقامة ومربط البقر والغنم"، على أن الاتفاق في الجذر يوحي بالاتفاق في المعنى، وإن من بعيد. وهي أي، الوطنية، في الاصطلاح، أقرب إلى مفهوم القومية أو الأمَّويةnationalism في الفرنسية والإنكليزية، إن لم نقل إنها هي هي، بعد استبعاد أي عنصر عرقي / لغوي أو ديني؛ أي إنها مفهوم يحيل على وعي بالانتماء إلى الأمة، بل إلى الدولة / الأمة. ولهذا الوعي بالانتماء بعدان متلازمان: الأول ذاتي يتجلى في حب الدولة الأمة بثلاثة أركانها، الأرض والشعب والنظام العام أو السلطة العامة العليا، السيدة، والارتباط بها والدفاع عن قوانينها ومبادئها والتضحية في سبيل حريتها واستقلالها، لا حب الأرض، أي "الوطن" أو المنزل فقط. والثاني موضوعي يتجلى في جملة الحقوق المدنية والسياسية والحريات الأساسية التي يتمتع بها المواطن، ويكفلها ويصونها القانون، وجملة الواجبات والمسؤوليات والالتزامات الملقاة على عاتقه بوصفه عضواً في الدولة الأمة. وينجم عن هذا الوعي نوع من عصبية حديثة، إذا صح التعبير، هي بالأحرى عصبية عابرة لسائر العصبيات العشائرية والدينية والمذهبية والطائفية والإثنية والمهنية والطبقية والحزبية، لأنها ذات جذر ومحتوى إنسانيين، وهذان الجذر والمحتوى الإنسانيان مما يرقى بالأفراد إلى مستوى مواطنين في الدولة / الأمة وأعضاء في الجماعة الإنسانية. ويمكن القول بعبارة وجيزة: الوطنية حقوق مدنية وسياسية وحريات أساسية متساوية وواجبات والتزامات مادية وأخلاقية، يكفلها جميعاً ويحميها القانون، الذي هو ماهية الدولة وروح الشعب، ومن ثم فهي الاسم الآخر للعقد الاجتماعي الذي مبدؤه هو الحرية والمساواة والعدالة، وموضوعه هو الحق، وشكله هو القانون.

والعصبية الوطنية، كأي عصبية، هي عصبية متجهة إلى الخارج، لا إلى الداخل، أي إنها عصبية إزاء الخارج وإزاء الآخر، غير السوري؛ تتحدد جميع تجلياتها بمدى نمو جذرها ومحتواها الإنسانيين وبمدى نمو العناصر الأنسية والعقلانية والعلمانية والديمقراطية الكامنة فيها، فتكون انثنائية وشوفينية وعدوانية أو تواصلية ومسالمة ومنفتحة على كل ما يوافق جذرها ومحتواها. فإن اتجاهها إلى الخارج يجعلها أكثر قوة ومنعة، أما إذا اتجهت إلى الداخل فتغدو عامل تفكك وضعف. فعلى صعيد الداخل السوري ليس هناك أو يفترض أنه ليس هناك بين المواطنين السوريين من هو أكثر أو اقل وطنية من الآخر، بحكم المساواة في الحقوق المدنية والسياسية وفي الحريات الأساسية بين جميع أعضاء الأمة أو أعضاء الدولة الأمة. بعبارة أخرى ليس هناك بين السوريين من هو سوري أكثر أو أقل من الآخر في نظر القانون، لا في نظر نظام الامتيازات والمزايا، فالامتيازات والمزايا نقيض الوطنية. ومن ثم فالوطنية هي حكم واقع، لا حكم قيمة، فلا يجوز تصنيف السوريين وطنيين وغير وطنيين، لأن نزع صفة الوطنية عن الجزء هو نزعها عن الكل؛ وذلك لا يكون إلا بفساد مبدأ الدولة ونفي المساواة بين أعضائها.

والقول إنها عصبية عابرة لسائر العصبيات ما قبل الوطنية يعني أنها لا تلغي أياً من هذه العصبيات القابلة للحياة بحكم قوانينها الداخلية، بل تتخطاهاً جدلياً، أي إنها تبقي عليها وترفعها إلى مستوى أعلى وتفتح إمكانات نموها وتطورها، بتخليصها من النزعات الحصرية والانثنائية أو الانعزالية وتنمية قابليتها للانفتاح على ما هو عام، أي على ما هو جوهرها وماهيتها ومناط سموها الأخلاقي. فالوطنية السورية لا تنفي عروبة العربي السوري أو كوردية الكوردي السوري، ولا تنفي بالقدر ذاته إسلام المسلم السوري أو مسيحية المسيحي، بل تنمي في كل منها وفي جميع أفرادها عنصر العمومية الذي يجعلها تتعرف ذاتها في الكل الوطني الإنساني وتتعرف حريتها في القانون الوضعي الذي يسري على الجميع بلا استثناء، ويحفزها على أن تفصح عن أفضل ما فيها من عناصر المحبة والرحمة والتسامح والتكافل ومن قيم الحق والخير والجمال. ولا سبيل إلى ذلك إلا في إطار الدولة الوطنية.

ومن ثم فإن الوطنية صفة للدولة / الأمة، والوطنية السورية صفة للدولة / الأمة السورية، يكتسبها الفرد بانتمائه الواعي إلى هذه الدولة وعضويته الكاملة فيها. وشرط الوعي هنا شرط لازم لتجاوز الانتماءات ما قبل الوطنية أو ما دون الوطنية، ذلك لأن مفهوم الوطنية يتخطى مفهوم الجنسية، بفضل عامل الوعي، وهو وعي تحمله التربية الوطنية والتعليم العلماني والثقافة الوطنية المنفتحة على أفق إنساني، فضلاً عن المفاعيل الوطنية لعملية الإنتاج الاجتماعي ولمؤسسات الدولة، وفضلاً عن المفاعيل الوطنية لسيادة القانون الوضعي وسريانه بالفعل على الحاكمين والمحكومين بالتساوي وصيرورته لحمة النسيج الاجتماعي وأساس النظام الأخلاقي.

والحديث عن الوعي يفضي إلى الحديث عن الهوية بوصفها وعي الذات، أي وعي حريتها واستقلالها، فالهوية الفعلية الحية للفرد والجماعة على السواء هي الحرية والاستقلال، اللذين من دونهما لا يرقى الفرد إلى مستوى المواطن ولا ترقى الجماعة إلى مستوى الأمة، ومن دونهما لا يرقى الفرد ولا ترقى الجماعة إلى مستوى العضوية في الجماعة الإنسانية، فإن وعي الذات هو إدراك ماهيتها الإنسانية مبدأ ومآلاً. وأراني أميل إلى القول إن إدراك الماهية الإنسانية للذات هو شرط لازم لإدراك صفتها الوطنية، وهو مما يعصم الفرد والجماعة من التطرف القومي ومن نزعة الانثناء على الذات الوطنية / القومية. فالتطرف القومي هو علامة نقص في التطور الثقافي والأخلاقي وهو مرض الوطنية الخبيث.

بهذا المعنى للهوية، أي بمبدأ الحرية والاستقلال، نعارض الهويات الحصرية المغلقة، الدينية والمذهبية والطائفية والإثنية أو العرقية اللغوية، وما شاكلها. ونضع مبدأ الفرق والاختلاف والتعارض الجدلي أساساً للوحدة الوطنية والإرادة العامة والمصلحة العامة، ولوحدة الجماعة الإنسانية. وننظر إلى الوطنية على أنها الحقل العام الحقوقي والسياسي والأخلاقي، الذي تعبر عنه الدولة الوطنية، دولة الحق والقانون، التي تحمل في ذاتها إمكانات تحولها إلى دولة ديمقراطية.

في ضوء ما تقدم تغدو ثنائية الوطني والقومي، التي أربكت الفكر السياسي عندنا ولا تزال تربكه، ثنائية زائفة أنتجتها أيديولوجية ما فوق وطنية ذاتياً وما دون وطنية موضوعياً، بحكم مبدئها الحصري ومحتواها العرقي / المذهبي، أيديولوجية وضعت القومي في معارضة الوطني، وأطلقت على الأخير اسماً تحقيرياً هو "القطري"، ونظرت إلى الدولة القائمة بالفعل على أنها دولة قطرية مصطنعة ومؤقتة أو عابرة، بانتظار قيام "الدولة القومية" المنشودة، التي تضم العرب من المحيط إلى الخليج، فأفسدت الدولة القائمة بالفعل وبددتها، وأعادت إنتاج التحاجز الاجتماعي بين الأديان والمذاهب والطوائف والإثنيات، وغذَّت لدى بعضها ميولاً انعزالية وانفصالية، فوضعت المجتمع أمام مفترق: إما إعادة بناء الدولة الوطنية، وإما الفوضى وحرب الكل على الكل، على غرار ما يجري في العراق ولبنان ويغذي الاحتمال الثاني كل يوم من طرق شتى.

لقد خسرنا الوطنية السورية ودولة القانون أو جنين دولة القانون، ولم نربح "الدولة القومية"، بل إن كل ما ربحناه حفنة من الشعارات الفارغة والأوهام "القومية" تقنِّع القمع والعسف والاستبداد واستباحة الحقوق وإهدار الكرامة الإنسانية. لقد خسرنا الحاضر من أجل "مستقبل" لم ندرك بعد أنه ليس شيئاً آخر سوى ممكنات الحاضر نفسه، وقدمنا الحقوق المدنية والسياسية والحريات الأساسية وحكم القانون قرابين على مذبح الوهم فخسرناها جميعاً ولم نربح سوى الوهم وقبض الريح. خدعتنا أسطورة البعث، بعث الأمة العربية أو الأمة الإسلامية، ولا فرق، فالأسطورة هي الأسطورة، فسرنا وراء سرابها خمسين عاماً ولم نزل نسير ونتردى من هاوية إلى هاوية.

الوطنية، مرة أخرى، هي القومية أو الأموية، بعد استبعاد إي عنصر عرقي / لغوي أو ديني أو مذهبي. والكاتب، الذي يعتز بعروبته أيما اعتزاز، يتحدث صراحة عن قومية سورية وأمة سورية، وعن قومية لبنانية وأمة لبنانية، وعن قومية فلسطينية وأمة فلسطينية وعن قومية عراقية وأمة عراقية وعن قومية مصرية وأمة مصرية … وهكذا، لكي لا يلتبس الأمر بما شاع في أدبيات الحزب السوري القومي الاجتماعي عن القومية السورية والأمة السورية، وحديثه ينطلق من العلاقة الضرورية منطقياً وتاريخياً بين الأمة والدولة، فلا أمة بلا دولة ولا دولة بلا أمة، وينطلق من واقع قائم مضى على قيامه زمن كاف لتكون أمة سورية ووطنية سورية، إلا إذا كنا ذاهبين إلى الإجهاز على ما تبقى من الدولة القائمة بالفعل والدخول في نفق أخر، كالنفق العراقي، وينطلق من تجربة نصف قرن من الاستبداد والعسف وتبديد الموارد البشرية والمادية باسم "القومية العربية" و"الأمة العربية"، تجربة لن يكون لنا مستقبل ديمقراطي قبل فهمها وتعقلها ونقدها ودحض أباطيلها.

فالمسألة الوطنية في سورية هي مسألة إعادة بناء الدولة الوطنية، أو الجمهورية السورية، التي يتساوى فيها جميع السوريين في الحقوق والواجبات، وإعادة بناء الوطنية السورية بمعارضة نزعات أقوامية أو إثنية / لغوية شوفينية عربية وغير عربية ونزعات مذهبية وطائفية قادت كثيراً من البلدان إلى الكارثة؛ فهي من ثم مسألة ديمقراطية، مسألة حرية الفرد وحقوق الإنسان وسيادة الشعب وسيادة القانون وفصل السلطات وتداول السلطة سلمياً وتحرير الدين من ربقة السياسة وحياد الدولة إزاء جميع الأديان والمذاهب والإثنيات والأيديولوجيات و"النظريات" أو العقائد السياسية، وإطلاق حريتها جميعاً في رحاب المجتمع المدني، وتنمية الموارد البشرية والمادية. إنها، بكلمة واحدة، مسألة حقوق مدنية واجتماعية واقتصادية وثقافية وسياسية وحريات أساسية متساوية. والدولة الوطنية في أحد أوجز تعريفاتها هي دولة القانون، الذي يضعه الشعب بوساطة ممثليه المنتخبين انتخاباً مباشراً ونزيهاً، في ضوء قانون انتخاب عصري وحديث، على أساس الدائرة الصغرى، ووفق مبدأ لكل مواطن صوت واحد، ريثما تتوافر الشروط الضرورية الملائمة لانتخابات حزبية ونسبية، في ظل حياة سياسية سليمة. ودولة القانون، التي تعبر عن العقد الاجتماعي، تعيد إنتاج هذا العقد على أسس وطنية وتعززه مرة تلو مرة.

موضوع القانون في المجتمعات المتمدنة هو الحق، وغايته هي الحياة الأخلاقية، بقدر ما يصير القانون وازعاً داخلياً لدى الفرد والجماعة وضامناً للحقوق المدنية والسياسية ولحرية الفرد وحقوق الإنسان، لا مجرد قوة خارجية تكبح الأهواء والنزوات والمصالح الخاصة العمياء وتقيدها، ولا مجرد أوامر و"توجيهات" تقيد الحريات الفردية والعامة وتفرض ولاية "صاحب الأمر" ووصايته على عقول المواطنين وضمائرهم. وحينما يصير القانون لحمة النسيج الاجتماعي يصير الحق واجباً أخلاقياً: حقوق الأفراد تصير واجبات الدولة، وحقوق الأقلية تصير واجبات الأكثرية، وحقوق النساء تصير واجبات الرجال، وحقوق العمال تصير واجبات أرباب العمل، وحقوق الإنسان تصير واجبات الجميع، الذين يصيرون أحراراً بقدر ما يتمتعون به من حقوق مدنية وسياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية. الحياة الأخلاقية، حياة الأمة، وحياة الدولة، لا تتأسس إلا على القانون، الذي هو قانون أخلاقي في نهاية التحليل. وهو ما يجعل من الأمة كائناً أخلاقياً ومن الدولة كائناً سياسياً وأخلاقياً بالتلازم.

في ظل القانون، الذي يتساوى أمامه جميع مواطني الدولة، ويسري بالفعل على الحاكم والمحكوم وعلى القوي والضعيف وعلى الغني والفقير يكتشف الفرد ذاته الإنسانية وهويته الوطنية ويتعرَّفها في الآخر المختلف والمنافس، فيكتشف الأنا أو تكتشف أنه أو أنها أنا وآخر في الوقت عينه، وتصير الآخرية شرطاً لازماً للذاتية، وبعداً ضرورياً، لا غنى عنه، للهوية الوطنية. ذلك ما يحدو بكل فرد لا أن يعترف بحقوق الآخرين فقط، بل أن يدافع عنها دفاعه عن حقوقه أيضاً، لأن الظلم الذي يقع على الآخر يمكن أن يقع عليه، ولأن الاستهانة بحق الآخر هي استهانة بالحق جملة، ولأن الاعتداء على حرية الآخر هو اعتداء على حريته، لأنه اعتداء على الحرية جملة. وذلك ما ينمي في وعي الفرد شعوراً عميقاً بأن حرية الآخر هي ضمانة حريته. فلكم كان الياس مرقص مصيباً وأخلاقياً حين عرف الديمقراطية بأنها حرية الآخر أولاً.

هذه النفحة الأخلاقية لا تتأتى من التشارك في العرق أو الأصل، ولا من التشارك في اللغة ولا من التشارك في الدين ولا من التشارك في المهنة، بل من العقد الاجتماعي بوصفه عقداً أخلاقياً بين أفراد أحرار، موضوعه أو مضمونه هو الحق وشكله هو القانون، أي إن هذه النفحة الأخلاقية تتأتى من المساواة أمام القانون، بوصفه تعبيراً عما هو عام ومشترك بين أفراد الأمة، وفي مستوى أعلى بين أفراد الجماعة الإنسانية. وليس هذا تصوراً مثالياً أو حلماً طوباوياً، بل هو واقع قائم بالقوة عندنا، وقائم بالفعل عند غيرنا، فهل يمكن أن تكون أمة ودولة / أمة من دون هذه النفحة الأخلاقية؟. الأمة عقد اجتماعي / أخلاقي بين مختلفين ومتنافسين ومتعارضين، ومتساوين مع ذلك في الوطنية ومتماثلين في الإنسانية ومتساوين في الحقوق والواجبات، عقد ينسجه تطور تاريخي ليس له قرار، لا يني ولا يفتر ولا يتوقف ولا يكتمل، عقد يعيد المجتمع الحي إنتاجه كل يوم ويعيد كسبه كل يوم.

الاختلاف هو ما يوجب التعاقد، والتشابه أو التماثل هو ما يجعله ممكناً. فمن دون اختلاف وتنافس وتعارض لا تكون هناك حاجة إلى تعاقد. التشابه أو التماثل في العرق أو في اللغة أو في الدين أو في المهنة … لا يقتضي أي تعاقد، ولا يفضي من ثم إلى تشكيل أمة أو مجتمع مدني أو دولة وطنية / قومية.

يتجلى المضمون الأخلاقي للقانون في إرادة الخير العام والنفع العام والحق العام والمصلحة العامة، وفي ابتغاء الأمن والسلم الاجتماعيين، وهذه جميعاً لا تتجلى واقعياً إلا في إرادات الأفراد والجماعات والفئات الاجتماعية وفي منافعهم وحقوقهم ومصالحهم الفردية والخاصة، إذ لا وجود فعلياً للعام إلا في الخاص والجزئي والفردي. فليس من خير عام إن لم يكن جميع أفراد الأمة بخير، وليس من مصلحة عامة إلا بازدهار المصالح الخاصة للأفراد والفئات الاجتماعية المختلفة في رحابها، وليس من حق عام إن لم تكن جميع حقوق الأفراد والجماعات مكفولة ومصونة. فإن عمومية القانون وتساوي جميع المواطنين أمامه هما أساس مضمونه الأخلاقي، وما يوجب سريانه على الحاكمين والمحكومين وعلى المالكين وغير المالكين وعلى الأغنياء والفقراء وعلى الأقوياء والضعفاء بالتساوي. فإن عمومية القانون شرط لازم للمساواة، ولا تكون مساواة إلا بها، والمساواة هي العدالة في واقعها الفعلي، أو هي التعبير العملي عن العدالة. فإن مبدأ العمومية،التي هي ماهية جميع الخصوصيات، هو المبدأ العقلي والأخلاقي الذي يجعل سائر الخصوصيات قابلة للاندماج في ما هو عام من دون أن تتخلى عن خصوصيتها، وهو مبدأ علماني بامتياز، لأن مضمونه هو تساوي المواطنين في الحقوق والواجبات، والمساواة هي جوهر العلمانية، مفهومة فهماً صحيحاً. والعمومية هي، في الوقت نفسه، العنصر العقلي أو العناصر العقلية في الواقع الاجتماعي الاقتصادي والثقافي والسياسي، لأنها تعبير عن العنصر العقلي أو العناصر العقلية في كل فرد من أفراد المجتمع المعني ومن أفراد الجماعة الإنسانية.

نتحدث هنا عن العنصر العقلي والأخلاقي أو العناصر العقلية والأخلاقية القائمة بالضرورة في جميع الإثنيات والأديان والمذاهب والطوائف وفي جميع أفرادها، العناصر التي تجعلها جميعاً قابلة للاندماج في فضاء اجتماعي سياسي عام ومشترك، من دون أن تتخلى أي منها عن خصوصيتها ومن دون أن يتخلى أي من أفرادها عن فرديته. فالمساواة أمام القانون لا تعني إلغاء الفروق أو طمسها، لأن الفروق الواقعية بين الإثنيات والأديان والمذاهب والطوائف والطبقات الاجتماعية وبين الأفراد لا تنتج منها حقوق مدنية أكثر أو أقل، ولا تستوجب حقوقاً سياسية أكثر أو أقل. فكون أكثرية السوريين عرباً ومسلمين سنة، على سبيل المثال، لا يمنحهم حقوقاً مدنية وسياسية أكثر أو أقل من الأكراد أو المسيحيين. إن ما هو عقلي هنا هو أخلاقي بالضرورة، فمن البديهي، وهذه الحال، أن يكون العام والخاص والفردي من ماهية واحدة هي ماهية الإنسان، بوصفه كائناً عاقلاً وأخلاقياً. ويغدو من البديهي أيضاً أن يكون القانون، بصفته العامة والمجردة، شرطاً لازماً لنشوء الأمة الحديثة والوطنية الحديثة، لأنه قوام العقد الاجتماعي. وعضوية الفرد في الأمة، على هذا الصعيد، تعني احترام القانون والتزامَه والنظر إليه على أنه الرابطة الحقوقية والأخلاقية التي تربطه بجميع أفراد الأمة الآخرين، وعلى أنه ملاذ الأفراد والجماعات، يعصمهم ويعصمها من الجهل والهوى. فلا يستقيم أن تكون أمة، وأن تكون هذه الأمة كائناً أخلاقياً من دون هذه الرابطة العقلية / الأخلاقية، أي من دون عقد اجتماعي يكون بموجبه جميع المتعاقدين أحراراً ومتساوين.

من المؤسف والمحزن في آن أن السياسة لم ترق عندنا بعد إلى مستوى العمل في سبيل تظهير العقد الاجتماعي القائم بالقوة في صيغة قانون عام يسري على جميع أفراد الأمة، ويخلصه من أوشاب الخصوصيات الإثنية اللغوية والمذهبية والطائفية وغيرها، التي تشوه العقد الاجتماعي وتفسده وتهدد بنقضه بين الحين والحين. وفي سبيل إلغاء القوانين الخاصة، أعني قوانين الملل والنحل، وإلغاء قوانين الأحوال الشخصية، التي لا تزال تحول دون مساواة المرأة بالرجل، وتهدر حقوق النساء وحقوق الأطفال. وفي سبيل إلغاء القوانين الاستثنائية، التي تفرضها السلطات الشمولية. ولم ترق السياسة عندنا بعد إلى جعل الفروق والتعارضات الاجتماعية مهمازاً لتعديل القوانين وتطويرها وجعلها أدنى إلى العدالة، ولا سيما قوانين الانتخاب، التي تحدد مدى صحة تمثيل الأمة في المؤسسات التشريعية. بل إن السياسة لم ترق إلى مستوى العمل في سبيل المشاركة في الشأن العام وفي حياة الدولة على قدم المساواة، بدلاً من العمل في سبيل احتكار السلطة والاستئثار بمنافعها. المحك العملي للعلاقات الجدلية بين الفكر والأخلاق والسياسة هو الممارسة، لا ممارسة السلطات القائمة فحسب، بل ممارسة الأحزاب السياسية والقوى الاجتماعية المعارضة أيضاً. النقطة التي يتقاطع فيها الفكر والأخلاق والسياسة هي القانون، بصفته العامة والمجردة، وبصفته قانوناً متعيناً في دستور وفي مدونة قانونية، تشمل القانون المدني والقانون الجزائي وغيرهما من القوانين التي تنظم الحياة الاجتماعية.

هنا رودس فلنقفز هنا. ثمة عوامل موضوعية شتى متضافرة ومتراكمة تحيل على عقد اجتماعي قائم بالقوة هنا والآن، وبعض عناصره قائمة بالفعل، من أهم هذه العوامل: 1) العمل في القطاعات الإنتاجية والخدمية الحديثة، أعني العمل الاجتماعي الحديث الذي لا ينظر إلى الفرد إلا بصفته منتجاً للقيمة ولفضل القيمة، بغض النظر عن جميع تحديداته الأخرى وجميع محمولاته، والعمل في الإدارة المدنية العامة، الذي لا ينظر إلى الفرد إلا بدلالة مؤهلاته العلمية ومقدرته على أداء الوظيفة الموكلة إليه، العمل بهذا المعنى هو أول طريق التجريد الذاهبة إلى مفهوم المواطن، وإلى مفهوم السياسة المرتكزة على مبدأ المواطنة، وأول الطريق الذاهبة إلى مفهوم الأمة. 2) التعليم العلماني، الذي يتسع أفقياً باطراد، ويفتح أمام الناشئة أبواب عالم مشترك وينحو نحو الاندماج في العمل الاجتماعي وفي التنمية الاجتماعية والاقتصادية. 3) الثقافة الوطنية ذات المحتوى الإنساني، التي تنزع الورود عن الأصفاد التي تكبل العقل والضمير، وتلجم الإرادة. 4) بقايا منجزات العهد الليبرالي القصير، الذي عاشته بلداننا. وغيرها مما يقتضي تظهير العقد الاجتماعي القائم بالقوة، بين أفراد أحرار، لا بين طوائف وعشائر وإثنيات. فإن مهمة الفكر النظري بوجه عام، والفكر السياسي بوجه خاص التقاط ممكنات هذا العقد، لإنتاج ترسيمة نظرية تستمد أصالتها وحداثتها من معطيات الواقع القائم وممكناته


المراجع

موسوعة الاوان

التصانيف

سياسة