تبلور مفهوم دولة القانون تدريجيا في أوروبا كتصور بديل عن الدولة الإمبراطورية، دولة الحكم المطلق والسلطات المطلقة التي يحظى فيها الملك والإمبراطور بحق منح الحياة وزرع الموت تجاه "رعاياه". اتخذ المفهوم في البداية سمة مثال سياسي يهفى إليه وكشعار سياسي يتجه نحو تطبيقه. اتسم مفهوم دولة الحق والقانون منذ البداية بكونه مفهوما مقارنا، صراحة أو ضمنا، لأن الحديث عن دولة القانون يتضمن الإحالة على نقيضها : الدولة الإمبراطورية التقليدية مطلقة السلطات أو الدولة العصرية المستبدة الشمولية.

دولة القانون بهذا المعنى هي دولة مجردة، دولة المؤسسات بالقيـاس إلى الدولة التقليدية التي هي دولة مشخصنة، دولة الأمير أو السلطان. فإذا كانت السلطة في الدولة التقليدية متمركزة كليا وبشكل مطلق في شخص واحد، هـو بمثابة الواهب للخيرات أو الحارم منها،مثلـمـا هـو السـيد المطـلق واهب الحياة والموت، فإن دولة القانون أي الدولة العصرية الديمقراطية هي دولــة يتم فيها توزيع السلطة واقتسامها لا على أفراد بل على مؤسسات : مؤسسات تشريعية، مؤسسات تنفيذية، مؤسسات قضائية.

تتوزع هذه المؤسسات السلطة، بل تشكل ـ في الصيغة المثالية لهذا التصور ـ بالنسبة لبعضها سلطا مضادة، وظيفة كل منها هو الحد من سلطة الأخرى.

وما يوحد ويربط بين هذه السلط الموزعة هو وحدة الفضاء القانوني، الذي يرسم لكل سلطة مجالها واختصاصاتها وحدودها. فالمعيار والمرجع والحكم في دولة القانون هو القانون سواء تعلق الأمر بالقانون الأساسي الذي هو الدستور أو بالقوانين القطاعية أو الفرعية.

وتقوم الدولة الحديثة على إحلال العلاقات القانونية محل العلاقات الوجدانية والقرابية (العائلية)، والعرقية، والمهنية والمالية والأخلاقية والدينية وغيرها، فسلطة القانون هنا هي السلطةالمرجعية الأعلى التي تستمد منها كل الهيئات والقطاعات والممارسات والتيارات مرجعيتها الرسمية.

تفترض وتستلزم دولة القانون، بجانب سيادة القانون وتوازي وتقابل السلط ومراقبتها لبعضها البعض، وجود فضاء من الحرية السياسية يمكّن كل فرد من أن يكون كائنا متمتعا بالحرية، مساويا لغيره مساواة صورية، ممتلكا للحقوق الضامنة والمؤطِّرة لهذه المساواة، وفاعلا سياسيا بالقوة أو بالفعل، أي بكلمة واحدة مواطنا.

الفرد في الدولة التقليدية هو مجرد مرعي تمنح فيه الجماعة أو الدولة بعض الحقوق وبعض الامتيازات أحيانا، لبعض الأفراد وبعض الفئات، في حين أن الفرد في دولة القانون، هو بالأساس مواطن صاحب حقوقطبيعية، راسخة، لا تقبل السلب، حقوق يضمنها ويحميها القانون.

تقوم الدولة التقليدية على أساس التمايز والامتياز العرقي أو العقدي أو الانتمائي (مثلا الشرفاء مقابل العوام). أما دولة القانون، كدولة تجسد الحداثة السياسية، فهي دولة المساواة الصورية المطلقة. الناس فيها لايتمايزون من حيث طبيعتهم وكينونتهم الإنسانية، بل من حيث ما يملكون وما يستحصلون ومن حيث مواقعهم ودرجة فاعليتهم. فهي تحقق "تساوي الشروط" و"تساوي الحظوظ"، وتعتبر المساواة الفعلية أو الاقتصادية أمرا خارج دائرة اختصاصاتها.

الجانب الاقتصادي الذي يهم دولة القانون هو التطبيق الفعلي لمبدأ "لا أحد فوق القانون" في المجال الاقتصادي، أي إلغاء الامتيازات الاقتصادية والضريبية وإلزامية أداء الضرائب ومستحقات الدولة بالنسبة للجميع لا فرق في ذلك بين أبيض أو أسود، بين شريف أو عامي... بين رجل السلطة والمواطن العادي...

ومقابل ذلك، فإن دولة القانون هي مبدئيا دولة الحق أو الحقوق أي الدولة التي تضمن قانونيا للأفراد حقوقهم المختلفة (السياسية والاقتصادية والقانونية). ومن ثمة فإن حقوق الإنسان، ليست فقط ديكورا وزينة سياسية بقدر ما هي إطار قانوني وسياسي وثقافي ضامن للحق تشريعيا ومؤسسيا وثقافيا. فالقانون هو الصيغة المنظمة للحق في إطار نظام اجتماعي تعاقدي.

إن دولة القانون هي الصيغة التنظيمية السياسية التي تنقلب فيها العلاقة بين الفرد والدولة، بين الحاكم والمحكوم رأسا على عقب. الدولة (المخزنية) التقليدية تعبتر "الحقوق" هبات تتكرم بها على رعاياها، مميزة بينهم تمييزا استثنائيا، في حين أن دولة القانون والحق ترى نفسها تعبيرا عن المواطن وتجسيدا مؤسسيا ضامنا لحقوقه. الفرد في هذا المنظور هو المواطن الذي يهب الدولة مشروعيتها عبر الآليات الديمقراطية، والدولة هي مجموع المؤسسات الممثلة والضامنة للحق العام وللحقوق الفردية. ومن هنا اقتران الدولة الحديثة بالديمقراطية، إذ لا يمكن أن تقوم دولة القانون إلا في إطار ديمقراطي، بل لعل دولة القانون هي من مقتضيات الديمقراطية (الفعلية) ومستلزماتها.

يؤخذ عادة على هذا التصور لدولة القانون والحق أنه تصور ذو نزعة تشريعية وقانونية واضحة، وأنه تصور مثالي أقرب ما يكون إلى تصور عصري لمدينة فاضلة قوامها القانون، مثلما يؤخذ عليه من طرف الاتجاهات الاجتماعية بأنه يتضمن إضفاء صبغة مثالية على القانون، الذي هو تقنين للتفاوت وترسيم لعلاقات القوة والتغلب القائمة في المجتمع.

رغم ما لهذه الانتقادات والمآخذ من صدقية ووجاهة، إلا أن فكرة دولة القانون من حيث هي الحد الأدنى للدولة في وظيفتها السياسية لا تحمل أية مزاعم اجتماعية أو أخلاقية في العدالة الاجتماعية، بل هي مجرد تنظيم لمسألة السلطة بهدف توفير الشروط الدنيا لانطلاق عملية التنافس الاجتماعي. ومن ثم، فإن مصدر قوتها يتمثل فـي تحـقيق التساوي القانوني بين الناس، أي تساوي شروط وظروفحدوث وجريان مختلف العمليات الاجتماعية بما فيها السيرورة السياسية ذاتها.

وعلى وجه الإجمال، فإن دولة القانون هي النقيض الكامل للدولة التقليدية (المخزنية) مطلقة السلطات التي تعتبر الحقوق هبات وأعطيات ومنح تتكرم بها السلطة على مرعييها، وليست حقوقا طبيعية، أو أصلية، وغير قابلة للتفويت، مثلما هي النقيض التام للدولة البوليسية التي تحكمها الهلوسات والهواجس الأمنية، التي تأخذ الناس بالشبهة، وتمارس عنفا على المجتمع وكأنها في حالة حرب معه، في حين أن ما يسود في دولة القانون هي العلاقة القانونية السلمية التي يكون فيها القانون هو الضامن لحقوق الأفراد والفئات المؤطرة بثقافة الحوار والنقاش العمومي، والمُحِلَّة لسلطة القانون الناعمة محل سلطة القوة السافرة.


المراجع

موسوعة الاوان

التصانيف

قانون