نقرأ في مقابسات أبي حيان التوحيدي :" على أن الترجمة من لغة يونان إلىالعبرانية، ومن العبرانية إلى السريانية، ومن السريانية إلى العربية، قدأخلت بخواص المعاني في أبدان الحقائق، إخلالا لا يخفى على أحد. ولو كانتمعاني يونان تهجس في أنفس العرب مع بيانها الرائع وتصرفها الواسع،وإفتنانها المعجز، وسعتها المشهورة، لكانت الحكمة تصل إلينا صافية بلاشوب، وكاملة بلا نقص. ولو كنا نفقه عن الأوائل أغراضهم بلغتهم كان ذلكأيضا ناقعا للغليل، وناهجا للسبيل، ومبلغا إلى الحد المطلوب. ولكن لابد في كل علم وعمل من بقايا لا يقدر الإنسان عليها، وخفايا لا يهتدي أحدمن البشر إليها ".

يكاد هذا النص يضم مختلف التأويلات التي تقدم عادة لتفسير البون الذي يفصل بين المعاني عند انتقالها من لغة إلى أخرى و من ثقافة إلى أخرى.

التأويل الأول هو ما يمكن أن نطلق عليه بلغتنا المعاصرة التفسير التاريخاني، بمقتضاه تعجز الترجمة عن نقل المعاني بخواصها لكون تلك المعاني مرغمة على أن تهاجر و تستغرق الزمن وتقحم في مسلسل التاريخ، و تنقل عبر وسائط متعددة و متنوعة. و ربما لإبراز هذا العامل يصر التوحيدي هنا على الوقوف على المسافة الزمنية التي قطعتها حكمة يونان، و ذكر مختلف القنوات التي مرت عبرها كي تصل إلى اللغة العربية، مما حال دون حلول حكمة يونان في جسم البيان العربي، و ما ترتب عن ذلك من إخلال بخواص المعاني حرم اللغة العربية من أن تصلها الحكمة " صافية بلا شوب، و كاملة بلا نقص".

يرد هذا التفسير إذا ضياع المعنى إلى تعدد الوسائط، بحيث لو كان في استطاعتنا أن "نفقه عن الأوائل أغراضهم بلغتهم "، من غير قطع كل تلك المسافة الزمنية والانتقال عبر توسطات، لكنا بلغنا" الحد المطلوب" و نهجنا الطريق الصحيح من غير تيه ولا ضلال و" إخلال" بالمعاني.

بيد أن التوحيدي لا يبدو مقتنعا بهذا التأويل "التاريخي"، إذ سرعان ما ينتقل إلى تأويل آخر لا يفسر ضياع المعاني بـ"السقطة" التاريخية، وإنما يرده إلى طبيعة المعنى بما هو كذلك.

ما يحول دون بلوغ المعنى "كما هو"، ما يحول دون بلوغ "خواص" المعاني في هذا التأويل الثاني ليس هو التوسط واللامباشرة، وإنما المباشرة ذاتها. هنا ينطوي المعنى على كثافة ذاتية تحول بيننا وبين الوقوف على خواصه جميعها، تحول بيننا وبين الإحاطة بالمعنى.

حينئذ لا يكون التوسط هو سبب الضياع، ما دام في كل علم " بقايا لا يقدر الإنسان عليها، و خفايا لا يهتدي أحد من البشر إليها". بهذا المعنى تغدو حكمة يونان منطوية على خفايا غابت عن يونان أنفسهم، و يعود الإخلال بالمعاني، ولا يقول التوحيدي خيانتها، من صميم المعاني نقلت إلى لغة أخرى أو لم تنقل


المراجع

موسوعة الاوان

التصانيف

تراجم