من زاوية منهجية شجعت مسارات التنمية السياسية في العراق واختيار جلال طالباني رئيساً للبلاد، ثم تطور الحراك الكردي في سورية، على النظر عربياً الى المسألة الكردية من منظار مختلف، ليس على أنها وضع غريب أو حالة ملحقة أو شيء مرفوض قومياً ومنبوذ بل على أساس علاقتها بمشروع نهضوي عام للمنطقة ككل، وارتباط هذا النهوض بمواجهة أطماع القوى المتربصة بمجتمعاتنا شراً، الأمر الذي يستدعي ضرورة الاعتراف بالشعب الكردي كجزء تكويني وعضوي من نسيج المنطقة، والتسليم بأنه متجذر في تاريخها وحياتها السياسية والاجتماعية منذ مئات السنين، اعترافاً بمصالحه ودوره في التصدي لتحدياتها السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ودفع عجلة تطورها إلى الأمام، ولا تطعن هذه الحقيقة أو تضعها في دائرة الشك والالتباس، محاولات الإلغاء التي دأبت عليها قوى التطرف والتعصب القومي، خارج السلطات وداخلها، ومغالاتها الشوفينية في رسم تاريخ تشكل المجتمعات على هواها، تلغي فيه دور الكتلة القومية الكردية، وتدعي بأن ما هو قائم من تشكيلات قومية واجتماعية ليس إلا حالة مؤقتة أو طارئة صنعتها قوى الاستعمار وتسوياته لرسم خرائط المنطقة.
إن العودة إلى قراءة متحزبة قومياً لتاريخ مجتمعاتنا للطعن بحق هذه الكتلة القومية أو تلك، هي عودة خاسرة ومربكة لجميع الأطراف، وسوف تؤدي بلا شك إلى إشكالات واندفاعات غير محمودة جراء بروز وجهات نظر متنوعة وحتى متناقضة أحيانا، حول أحقية ومشروعية القوى القومية المتعددة التي تشكل بنية هذا المجتمع أو ذاك، مما يشجع على ضرورة الاحتكام إلى النتائج التاريخية الراهنة والاعتراف بحقائقها القائمة كما هي الآن والتي تؤكد أن لحمة المجتمع الذي نعيش هي خليط من قوميات مختلفة تشاركت العيش على أرضه منذ القدم، ساهمت جميعها في صياغته وإيصاله إلى ما وصل إليه اليوم، مما يعني فيما يعنيه، الإقرار الواضح والصريح بوجود الشعب الكردي كجزء عضوي من تركيبة كل مجتمع يتواجد فيه، إيران أو تركيا أو العراق أو سورية، والإقرار بحضور مسألة سياسية ترتبط بحقوقه القومية المشروعة، كحق المواطنة وحقوقه الثقافية والسياسية الأخرى.
من المفارقات المثيرة للجدل، ان النخب القومية العربية عجزت بعد تحررها من المستعمر عن التعامل في شكل صحيح مع الأقليات الأخرى، أو ربما لم تسع أو تبذل جهداً في هذا الاتجاه، وسلكت الطريق ذاتها التي سلكتها الدول الاستعمارية، طريق الوصاية والتسلط والاضطهاد, بل ولم تتوان على امتداد عقود، من ممارسة شتى أنواع القمع والاضطهاد والتفنن بأساليب القهر والإذلال للأقليات القومية غير العربية التي قاسمتها الحلو والمر، وصل الأمر في بعض الأحيان الى خوض ما يشبه عمليات الابادة الجماعية وبواسطة أسلحة محرمة وفتاكة، كالأسلحة الكيميائية والجرثومية، ولا تغيب مأساة حلبجة عن الأذهان أبداً
.
المنطق الذي استندت إليه الحكومات العربية في التعامل مع القوميات الأخرى أساسه ليس فقط العنفوان الشوفيني وإنما أيضاً قلة ثقة بالنفس وبقدرتها كأكثرية على جذب واحتواء الأقليات، وتالياً الخشية من أن يفضي مجرد الاعتراف لهذه القوميات بحقوقها والسماح لها بممارسة تلك الحقوق الى الانفصال عن الوطن، ما يشكل في نظر النخب العربية، تهديداً للوحدة الوطنية ومستقبل البناء والتنمية، فهو بهذا المعنى، الخيانة بعينها، التي يستحق مرتكبها أقصى العقاب.
والأنكى أن بعض القوميين العرب، ممن نصبوا أنفسهم أوصياء على الفكر القومي ووكلاءه الحصريين، يضعون المسؤولية الأساس لما صارت إليه العلاقات بين التنوع والتعدد القومي من توتر واحتقان، ليس على تنكرهم لمبدأ إنساني أساسي وقديم هو الاعتراف بحقوق هذه الشعوب، بل على ممثلي الأقليات القومية من نخب سياسية وثقافية واجتماعية بسبب إصرارهم على التمسك بحقوقهم القومية، وعلى ضع أنفسهم في موقع التميز مع المواطنين من القومية الأكبر، ومثل هذا التوجه يسهل برأيهم الانحراف والانجراف نحو الاستقواء بقوى خارجية للدفاع عن مطالبهم, الأمر الذي جعل التعامل مع القوميات الصغيرة على أساس أنها أشبه بطابور خامس في قلب الوطن, يهدد وحدة أرضه وكيانه ووحدة شعبه.
ربما لم يكن أحد معنيا في ظل مرحلة المد القومي العربي ببذل ولو قليل من العناء للبحث عن السبب أو الأسباب التي خلقت الظروف لمثل هذه التوترات والاندفاعات للأقليات القومية، وغاب عنه أن ثمة في هذا الوضع المأسوي الذي نعيش ما هو فعل ورد فعل، فالتطرف يولد التطرف، ومن السذاجة تعميم أفكار شوفينية تطعن بحق الوجود الكردي في محاولة دأبت عليها قوى التعصب القومي العربي، خارج السلطات وداخلها، دون أن نتوقع رداً من الطبيعة ذاتها، وما يترتب على ذلك من آثار سلبية على الجميع، وكأن التاريخ لم يقل كلمته بأن أي شعب يسعى الى فرض السعادة على شعب آخر بالقوة والإكراه، تلك السعادة التي يحددها هو لذلك الشعب بالنيابة عنه، يقع هو ذاته ضحية تعسفه.
بالمقابل يقودنا الحديث عن الحقوق القومية الكردية، إلى الحديث عن تاريخ ومستقبل نضال الأكراد، إذ تجدر الإشارة هنا إلى انهيار الرؤية الاستراتيجية الثورية القديمة التي اعتمدتها كافة القوى السياسية الكردية على مختلف مشاربها كي تصل إلى أهدافها وحقوقها القومية.
استراتيجية العمل عبر مختلف الوسائل، وخاصة الكفاح المسلح والبؤر الثورية في جبال كردستان، من أجل كسر الحلقة الضعيفة من السلسلة التي تؤلف كردستان التاريخية، مرة في إيران، وأخرى في العراق، وثالثة في تركيا، استراتيجية تغليب الغاية السياسية القومية على ما عداها، وبشكل خاص على هدف النضال الديمقراطي، رغم أنه الهدف الوحيد الذي يعالج ويحل تلقائياً كل الإشكالات والمعضلات القومية مهما كانت صعبة ومعقدة.
وإذا كانت نتائج الحرب العالمية الثانية ومرحلة الحرب الباردة، والانتصارات التي حققتها حركات التحرر في البلدان المتخلفة بوسائل العنف الثوري، هي عوامل تفسر وتبرر الحضور القوي والمتفرد للاستراتيجية السابقة الذكر في توجيه النضالات القومية الكردية، لكن ما حصل من متغيرات عالمية، مع انهيار الاتحاد السوفييتي والكتلة الشيوعية، وسيادة النظام العالمي الجديد وعصر العولمة والثورة المعلوماتية، أطاح موضوعياً، بمثل هذه الاستراتيجية وقلل الى حد كبير من جدواها النضالية، وما عزز ذلك في الخصوصية الكردية، الدروس والعبر المستخلصة من الهزائم والانكسارات التي شهدها النضال الكردي في ثوراته المعاصرة، ودور العوامل العالمية والإقليمية في إجهاض طموحه القومي بعد أن وصلت " اللقمة إلى الفم " كما يقال في غير لحظة من لحظات تاريخه، جمهورية مهاباد في إيران 1947 ،
اتفاق آذار في العراق 1975 ، والنتائج المؤلمة التي أفضت إليها تجربة حزب العمال الكردستاني في تركيا وغيرها، الأمر الذي شجع موضوعياً، لتقدم رؤية استراتيجية جديدة تعتمد أساساً الممر الديمقراطي طريقاً وحيدةً لضمان الحقوق القومية للأكراد بما في ذلك حقهم في تقرير مصيرهم بالاستقلال عن المجتمعات المتواجدين فيها أو بالاندماج الطوعي والنهائي معها، ما يضع على عاتق الأكراد وقواهم الحية ليس أن يؤمنوا بهذا المسار فحسب وإنما أيضاً أن يتقدموا قوى العمل الديمقراطي في كل بلد من البلدان التي تتقاسم كردستان التاريخية وأن يكونوا في طليعة المناصرين لبناء نظام ديمقراطي، دولة المؤسسات، دولة الحق والقانون، هدفاً.
واعتماد خيار النضال السياسي المدني والسلمي، أسلوباً، على قاعدة تربية الذات وتثقيفها، كما تربية وتثقيف الناس، كي يصبح هذا النضال منهجاً أكيداً وثابتاً، لا عملاً ظرفياً ومؤقتاً.
وحين يختار ويتبنى الشعب الكردي وقواه الحية في كل موقع من مواقع تواجده، استراتيجية النضال الديمقراطي لحل مسألته القومية وتعقيداتها، فهو يضعنا أمام مجموعة من الحقائق الداعمة لصحة هذا الاختيار من أهمها:
أولاً: إن النضال الديمقراطي يعني في أحد وجوهه، نضالاً من أجل مساواة جميع القوميات والاثنيات في نظر المجتمع والقانون، وبالتالي، نضالاً من أجل الحقوق المشروعة للشعب الكردي، حقه في المواطنة، حقوقه الثقافية والسياسية، وحقه المتساوي في المشاركة في إدارة السلطة والدولة، بما في ذلك أيضاً، حقه في تقرير مصيره بالوسائل والأساليب الديمقراطية، ولعلنا نستطيع دفع هذه الرؤية " تخيلاً أو حلماً " إلى الأمام، إلى تصور وضع تقوم فيه أنظمة ديمقراطية في كافة البلدان التي يتواجد فيها الشعب الكردي، وما يوفره ذلك من فرصة صحية وآمنة للشعب الكردي لحل معضلته القومية.
ثانياً : إن اعتبار الديمقراطية مدخلاً لحل المسألة القومية سيعمق، بلا شك، حالة التلاحم النضالي بين كافة القوى السياسية العربية والكردية التي يوحدها هدف التغيير الديمقراطي، ويخلق واقعاً من الثقة والاطمئنان بين الشعب الكردي والشعوب التي يقاسمها العيش المشترك، مزيحاً " الشعور العربي الملتبس" بأن الشعب الكردي يخفي وراء نضاله حسابات ومصالح ذاتية ليس إلا، وأنه يترقب الفرصة المناسبة لتحقيقها دون اعتبار للمصلحة الوطنية العامة، كما يزيل بالمقابل الإحساس بالظلم الذي تراكم تاريخياً لدى الأكراد بأنهم كانوا دائماً وقوداً لمختلف القوى السياسية المتصارعة، أو جسراً عبر من فوقه هذا الطرف أو ذاك نحو أهدافه السياسية الخاصة ومن ثم تناسى ما رفعه من شعارات لنصرة الحقوق القومية الكردية، الأمر الذي يوفر مناخاً صحياً يضع الجميع على قدم المساواة في الحرص والمسؤولية الوطنية ويقطع الطريق، مرة والى الأبد، على المحاولات المغرضة لاستخدام المسألة الكردية كوسيلة أو ورقة ضغط في الصراعات والتسويات الإقليمية.
ثالثاً : يكتسب التأكيد على أولوية النضال الديمقراطي أهمية نوعية في اللحظة الراهنة لدعم دعوات الإصلاح السياسي في مجتمعاتنا نحو مستقبل تسود فيه الحرية والتعددية واحترام حقوق الإنسان ويغدو الوطن فيه وطناً للجميع بما يجسر الهوة بين الشعوب ويجنبها مخاطر الانزلاق إلى صراعات قومية لا طائل تحتها، فاستراتيجية النضال الديمقراطي هي الوحيدة الكفيلة بمواجهة الأجواء التي تزداد تهيئاً لتقدم حركات قومية متطرفة خصوصاً في الجانب الكردي تسعى إلى التأثير بالجماهير الكردية واستمالتها على قاعدة الظلم التاريخي الذي تعرضت له من القوميات الأخرى.
في سورية، يعتبر الكرد تاريخياً " على كثرتهم " جزءاً لا يتجزأ من النسيج الاجتماعي، شاركوا في مختلف أنشطة الحياة بصورة طبيعية ودون تمييز، وتبوأ بعضهم مناصب قيادية وسياسية هامة، فمنهم من قاد المعارك ضد الاحتلال الفرنسي كإبراهيم هنانو، ومنهم من وصل إلى مناصب عليا سياسية وعسكرية بما في ذلك رئاسة الجمهورية كفوزي السلو وحسني الزعيم، لكن بدأت تتضح في سوريا معالم "مشكلة قومية كردية" بفعل تعاقب سياسات غير ديمقراطية استمدت نسغها من أيديولوجية مشبعة بالتعصب القومي، تتجاهل التنوع والاختلاف واحترام حقوق الإنسان ومصالح القوميات الأخرى، ما وضع حجر الأساس لنمو شروخ عميقة في اللحمة الوطنية، زادها عمقاً انتعاش المشاعر القومية لأكراد سوريا مع تفاقم مظاهر الظلم التي تعرضوا لها وتواتر الحراك الكردي الخارجي في العراق أو تركيا وانجرار بعض تنظيماتهم الى " لعبة " الصراع الإقليمية والعالمية، ما أشاع مناخاً من الشك والريبة وعزز الاندفاعات الشوفينية العربية ضدهم، وشجع بعض غلاة التطرف القومي على ابتكار أساليب متنوعة لاضطهاد الأكراد وسلبهم حقوقهم كمواطنين تمهيداً لتغييب دورهم كأقلية قومية في التكوين الاجتماعي السوري.
وإذ يتحمل تعاقب النخب القومية القابضة على زمام الحكم مسؤولية أساس تجاه ما آلت إليه الأمور، بإصرارها على تجاهل خصوصية الوضع الكردي وإهمال مطالبه وحقوقه المشروعة ما انعكس إحباطا سياسياً واحتقاناً اجتماعياً في صفوفهم.
فمن دواعي العدل والإنصاف القول إن تطور الحس القومي لأكراد سورية بقي على مسافة من الحالات الكردية في تركيا والعراق وإيران، ربما بسبب كتلته المحدودة بالمقارنة مع الأوضاع الأخرى وتوزع الوجود الكردي على مساحات واسعة ومتقطعة جغرافياً إذا استثنينا منطقة القامشلي في أقصى الشرق، ما يعني أن الولاء القومي الخاص لم يتبلور على حساب ولائهم لوطنهم السوري، فإذا استثنينا قلة من الأصوات المغالية في التطرف، تتفق القوى السياسية الكردية جميعها على شعارات تؤكد على الانتماء الوطني وتدعو إلى تمتين أواصر الأخوة العربية الكردية والحريات العامة والديمقراطية، ولعل مشاركة غالبيتها في إعلان دمشق للتغيير الوطني الديمقراطي ورفض محاولات الترغيب والترهيب للانفكاك عنه دليل أكيد على صدق هذه الشعارات وجديتها، لكن ما يشوب سياساتها ويتركها عرضة للأخذ والرد أنها دأبت في بعض الأحيان على تقديم شعاراتها الخاصة المتعلقة برفع الظلم والاضطهاد القومي على حساب المطالب الديمقراطية العامة، مما رسم مسافة بينها وبين القوى الديمقراطية العربية التي تعتبر المسألة الكردية جزءا لا يتجزأ من القضية الديمقراطية العامة وتجد في انتصار هذه الأخيرة انتصارا للحقوق القومية العربية والكردية على حد سواء.
زاد في اتساع هذه المسافة موقف غالبية القوى الكردية السورية مما حدث في العراق وإحجامها عن إعلان موقف واضح من طابع الحرب الأميركية وأهدافها، ما دفع بعض المتطرفين العرب إلى كيل اتهامات العمالة والتخوين ضد الأكراد، وهذا يأتي منسجماً مع السمة التاريخية للحراك الكردي في سورية فمزاج وحراك الجمهور الكردي يرتبط بشكل كبير مع الحراك الكردي في الجوار، وكلنا يتذكر حركة التطوع الواسعة لأكراد سوريا من أجل دعم البشمركة في شمال العراق قبل توقيع اتفاقية مارس/ آذار 1975،
وأيضاً كيف أذكى الوجود شبه العلني لحزب العمال الكردستاني في الساحة السورية الروح القومية الكردية مجنداً أغلب الشباب والفتية الأكراد للقتال في جبال كردستان التركية، الأمر الذي أكره أحياناً الأحزاب الكردية السورية على توسل النضال الكردي الخارجي في خطابها السياسي لا خصوصية الوضع السوري ومعانيه المميزة، ما أفقدها القدرة على انتزاع الثقة وتبوء موقع الطليعة في عملية التغيير الديمقراطي.
بينما في العراق تتقدم بعد معاناة مريرة أطروحة الفيدرالية وقد امتلكت حيزاً عملياً في التطبيق في فترة التسعينات من القرن الماضي، بعد أن اتخذ أول برلمان كردستاني قرارا بتبني النظام الفيدرالي على أساس التمايز القومي، ثم أدرجت في مشروع الدستور الجديد عبارة تقول: "إن نظام الحكم في العراق فيدرالي, ديمقراطي, تعددّي, ويجري تقاسم السلطات فيه بالاشتراك بين الحكومة المركزية وحكومة إقليم كردستان والمحافظات والبلديات".
ولعل موجبات حضور نموذج دولة فيدرالية في العراق تعود لسبب رئيس هو وضوح التميز القومي جغرافياً عند الأكراد وليس فقط الخوف من ماض مركزي ديكتاتوري يحرمهم حقوقهم ما يعني ضرورة الاعتراف بأن عناصر الوحدة القومية متوفّرة بوضوح في اللغة والأرض والتاريخ المشترك، وهي عوامل وإن لم تبلغ بعد من التطوّر حدّ الانصهار والنضج لكنها تقترن بحماسة للتبلور السياسي الخاص وإرادة فاعلة في تحويل العناصر المكونة لهذه الخصوصية إلى واقع يعكس قوة الرغبة في تحقيق الأماني القومية.
وإذا كانت دعوات التمايز السياسي على أساس طائفي أو مذهبي هي عامل إغلاق وتخلف وتفكك في المجتمع ويفضي غالباً تشجيع الانتماء الديني أو الطائفي أو القبلي كي يغدو مؤسسات سياسية الى إرباكات كثيرة أخطرها تقويض وحدة المجتمع في إطار الدولة الوطنية، فإن الاعتراف بالحضور القومي واحترام حقوقه هو على النقيض، يؤكد الوحدة الوطنية ويغنيها ويضفي على المسار الديمقراطي مزيداً من النضج والتكامل، ما يعطي الحق للأكراد أن يبحثوا عن صورة للعلاقة مع المركز تضمن لهم خصوصية لحمتهم وتمايزهم في إطار الوطن، وخاصة بعد حملات إبادة بشعة وحملات تعريب لإلغاء الهوية الكردية، زادت من إصرار هذا الشعب وتمسكه بحقوقه وبمشاعره القومية.
إن تأسيس عراق فيدرالي هو انتصار للفكر القومي الديمقراطي ويشكل نقلة مهمة في صياغة علاقات صحية بين تكوينات المجتمع الأساسية، على قاعدة احترام عميق لخصوصية الشعب الكردي وحقوقه، أما الذين يرفضون الفيدرالية ويبررون ذلك بأنها مقدمة لتقسيم العراق فلا تزال تأسرهم الرؤية الشوفينية القديمة وأولوية تقويم الأمور والأشياء والناس من منظارهم تسلطهم القومي ليس إلا.
في ضوء التجربتين الكرديتين في سورية والعراق، لابد من إعادة نظر شاملة بأفكارنا القديمة وبشعاراتنا وبمفاهيمنا عن المسألة القومية في بلداننا، وعن المسألة القومية في شكل عام.
وهي إعادة نظر ينبغي ان تأخذ في الاعتبار ان وحدة بلداننا، أسوة بوحدة بلدان العالم قاطبة، هي الأنموذج المفترض للوحدة التي يتجه نحوها العالم.
وحدة لا يمكنها ان تتحقق في صيغة إنسانية عادلة إلا على قاعدة الديموقراطية وحقوق الإنسان والاعتراف المبدئي والعملي بالتعدد والتنوع في القوميات والثقافات وبالتفاعل الإنساني بين هذه القوميات وثقافاتها لمصلحة الحرية والتقدم.
ربما يمكن أن نتفهم شك وريبة الأكراد من الخيار الديمقراطي في ضوء خيبات الأمل المتكررة التي عانوا منها لنيل حقوقهم بعد وعود كثيرة.
ونتفهم أيضاً ضعف حماسهم لأولوية الديمقراطية وترددهم في الاندماج بها، ولماذا يرفض بعضهم تأجيل مطالبه وحقوقه القومية ريثما تتحقق الديمقراطية أو رهنها بقيام نظام حر وتعددي كما يطلب الديمقراطيون العرب، فليس في منطقتنا تجربة ناجحة على هذا الصعيد يمكن أن تشكل مثلاً يحتذى، ثم أن من يحمل لواء الديمقراطية حالياً، هم أشخاص وقوى جاءوا من منابت شمولية، قومية كانت أو إسلامية أو ماركسية، عانى الأكراد من ممارساتها الكثير، لكن إذا صح أن تغدر الإيديولوجيات الشمولية وتنكث بوعودها، ولا يتوانى أصحابها عن ارتكاب أبشع المجازر لتحقيق أهدافهم التي يعتبرونها مقدسة ونبيلة، وهذا واضح في سلوك السلطات الشمولية وفي الإرهاب الأصولي الحالي، لكن من المحال أن ينسحب الأمر على الديمقراطيين، ما دامت الديمقراطية أكبر من غرض سياسي خاص، بل هي نمط حياة وقواعد عمل للجميع، تضمن لكل إنسان منذ البداية حقوقه وحريته، وتوفر له فرصة لا مثيل لها لتقرير مصيره |