ومن المزاعم الباطلة التي قيلت حول عقيدة الصحابة سكوتهم، وعدم خوضهم في الصفات وعدم سؤالهم عنها، وهذا الزعم في غاية الفساد والبطلان وذلك لأن الصحابة رضوان الله عليهم، إنما سكتوا عن الخوض في الصفات ولم يسألوا عنها؛ لأنهم وجدوا أن كتاب ربهم وسنة نبيهم صلى الله عليه وسلم قد كفتهم مؤنة التكلف والسؤال فقد أحاطت الآيات والأحاديث بكل ما يخص الإله الحق من أسمائه وصفاته، وكل مسائل العقيدة فقد وردت بشتى الأشكال والصور التي يطول حصرها كما ذكرنا من قبل.

ويقرر شيخ الإسلام رحمه الله هذه الشبهة ويرد عليها فيقول: (وصار كثير منهم يقول: إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعرف أصول الدين, ومنهم من هاب النبي صلى الله عليه وسلم ولكن، يقول: الصحابة والتابعون لم يكونوا يعرفون ذلك، ومن عظم الصحابة والتابعين مع تعظيم أقوال هؤلاء يبقى حائراً كيف لم يتكلم أولئك الأفاضل في هذه الأمور التي هي أفضل العلوم ومن هو مؤمن بالرسول معظم له يستشكل كيف لم يبين أصول الدين مع أن الناس أحوج منهم إلى غيرهم) .

ويرد شيخ الإسلام فيقول: (فكل ما يحتاج الناس إلى معرفته واعتقاده، والتصديق به من هذه المسائل فقد بينه الله ورسوله بياناً شافياً قاطعاً للعذر، إذ هذا من أعظم ما بلغه الرسول البلاغ المبين، وبينه للناس، وهو من أعظم ما أقام الله الحجة على عباده فيه بالرسل الذين بينوه وبلغوه، وكتاب الله الذي نقل الصحابة، ثم التابعون عن الرسول صلى الله عليه وسلم لفظه ومعانيه، والحكمة التي هي سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي نقلوها أيضاً عن الرسول مشتملة من ذلك على غاية المراد وتمام الواجب والمستحب) .

ومما يؤكد أن الصحابة رضوان الله عليهم، كانوا في غنى عن السؤال, وإنما سكتوا عن فهم وعلم، ما سبق، وذكرنا من هيمنة مسائل الصفات على الكتاب والسنة، واستيعابها من قبلهم بأعلى درجات الاستيعاب، ولو احتاجوا إلى السؤال لسألوا كما سألوا عن رؤية الله عز وجل، وكسؤال أبي رزين العقيلي أين كان ربنا؟ وقول ذلك الصحابي: أيضحك ربنا؟ وسؤالهم عن القدر، وعن مسائل الآخرة من الحساب، والجنة والنار، فلم يكن هناك حجر على السؤال عن مسائل الاعتقاد، وفي هذا يقول شيخ الإسلام ابن تيمية: (كل من فيه أدنى محبة للعلم أو أدنى محبة للعبادة لا بد أن يخطر بقلبه هذا الباب، ويقصد فيه الحق، ومعرفة الخطأ من الصواب فلا يتصور أن يكون الصحابة والتابعون كلهم كانوا معرضين عن هذا لا يسألون عنه, ولا يشتاقون إلى معرفته, ولا تطلب قلوبهم الحق فيه، وهم ليلاً ونهاراً، يتوجهون بقلوبهم إليه سبحانه، ويدعونه تضرعاً وخفية، ورغباً ورهباً، والقلوب مجبولة مفطورة على طلب العلم ومعرفة الحق فيه، وهي مشتاقة إليه أكثر من شوقها إلى كثير من الأمور، ومع الإرادة الجازمة والقدرة يجب حصول المراد وهم قادرون على سؤال الرسول صلى الله عليه وسلم, وسؤال بعضهم بعضاً، وقد سألوا عما دون ذلك, سألوه: أنرى ربنا يوم القيامة؟ فأجابهم، وسأله أبو رزين: أيضحك الرب؟ فقال: نعم، فقال، لن نعدم من رب يضحك خيراً) .

وغاية القول أن سكوت الصحابة وعدم سؤالهم عن حقائق الصفات وكيفيتها كان لوجود هذا الفهم، والإيمان وعدم تعرض عقولهم لشبهات الشك والحيرة، ولوفرة النصوص القرآنية، والنبوية التي أفاضت في البيان فلم تبقى لأنفسهم مجالاً للتساؤل فكان هذا البيان وهذا الوضوح وسلامة الاعتقاد من أعظم أسباب استقرار عصر الصحابة والتابعين وبعدهم عن الجدال والبدع العقدية فانصرفوا إلى خدمة دينهم، فانطلقوا يفتحون الأمصار شرقاً وغرباً، ويزكون أنفسهم بقراءة كتابه وتتبع سنة نبيه، واجتهدوا بالعبادات، والطاعات النافعة بخلاف من تقاصرت أفهامهم، وضعف إيمانهم، ويقينهم فراموا ابتداع تصور جديد عن الإله الحق فوقعوا في الفتن التي كانت سبباً في حيرتهم وشكهم, وكان من خيارهم الذين امتن الله عليهم بالهداية قبل موتهم أن ندموا أشد الندم على مخالفة منهج الصحابة والتابعين.


المراجع

موسوعة المعرفة

التصانيف

تصنيف :أعلام