كان للمرأة دورا مؤثرا في حياته - رحمه الله -، فكانت أمه أول امرأة تأثر بها، فقد كانت سيدة متدينة متصفة بصفات المؤمنين، كانت تحب سماع القرآن وتتأثر بذلك، وقد أخبر عن ذلك بنفسه في إهدائه إليها كتابه التصوير الفني في القرآن.

كانت والدته هي الزوجة الثانية لأبيه، وكان هو أول مولود ذكر لها، لذلك اعتنت به ـ على عادات القرويين ـ عناية فائقة وجعلته محط آمالها، وربته على العزة وتحمل المسؤولية، يقول سيد قطب في كتابه طفل من القرية عن أمه:

كانت تريد منه ـ أي سيد ـ أن يكون رجلاً حتى قبل أوانه؛ لذلك كان يهرب من كل مظاهر الطفولة حتى في طفولته وقد توفيت أمه بعدما استقرت معه في القاهرة، وكانت وفاتها عام 1940م، وقد رثاها رثاء حاراً وبيّن بعض ما غرسته في نفسه، يقول في كتابه الأطياف الأربعة وهو كتاب كتبه بالاشتراك مع إخوته محمد وأمينة وحميدة:

أماه، ولقد كنت تصورينني لنفسي كأنما أنا نسيج فريد منذ ما كنت في المهد صبياً، وكنت تحديثنني عن آمالك التي شهد مولدها مولدي فيتسرب في خاطري أنني عظيم وأنني مطالب بتكاليف هذه العظمة التي هي من نسيج خيالك ووحي جنانك.

كان لسيد قطب - رحمه الله - من الأخوات ثلاث بنات هن: نفيسة وكانت تكبره بثلاثة أعوام، وليس لها اشتراك في الأعمال الأدبية، ونالها وأسرتها نصيب كبير من محنته.

وأمينة وكانت تصغر سيد، ولها اهتمامات أدبية ومشاركات في أعمال أدبية وهي تكتب القصة القصيرة، وأصدرت مجموعتين: الأولى بعنوان: في تيار الحياة، والثانية بعنوان: في الطريق. ولها ديوان شعر نظمته في رثاء زوجها كمال السنانيري بعنوان رسائل إلى شهيد.

أما حميدة فكانت صغرى أخواته، ولها أيضاً اهتمامات أدبية وإسلامية، وقد صدر لها عام 1418 هـ 1998 م مجموعة قصصية بعنوان: رحلة في أحراش الليل.

خفق قلب سيد قطب بالحب عندما كان في القرية قبل أن يغادرها إلى القاهرة، وكان عمره حوالي أربعة عشر عاماً، وكانت الفتاة تربطها به صلة مصاهرة من بعيد، وقد أعجبت تلك الفتاة برجولته وشجاعته ونخوته حيث كان يقف مدافعاً عن الفتيات الطالبات في المدرسة، ويمنع الطلاب المشاكسين من التعرض لهن بالكلمة أو الإشارة، وكانت أحياناً تأتي إلى البيت مع صويحباتها الطالبات للعب مع شقيقته الصغرى، فوقعت محبتها في قلبه وأحس أنها تبادله الشعور نفسه.. فما الذي جذب سيد إلى تلك الفتاة؟

يقول في كتابه طفل من القرية:

كانت خمرية اللون ذات طابع غير مكرر في الوجوه، لم تكن حسب مقاييس القرية جميلة، فليست بيضاء البشرة، وليس أنفها بالقدر المطلوب، وليس فمها كذلك كخاتم سليمان، ولكنها هي وحدها من بين بنات المدرسة، بل من بين بنات القرية جميعاً كانت تبدو في نظره جميلة، وكان سر جمالها عنده أنها ذات طابع خاص.

ترك سيد القرية ورحل إلى القاهرة، وقد حمل معه ذكريات كثيرة، من بينها وجه فتاته، حيث لم تستطع القاهرة بما فيها من جمال وأضواء أن تنسيه وجه فتاته الأولى التي كان عازماً على الزواج منها؛ فبعد ثلاث سنوات عاد في زيارة إلى قريته، وكان أول ما قام به بعد وصوله إلى القرية السؤال عن مصير تلك الفتاة، ولما علم أنها تزوجت في جهة نائية بالقرية القريبة رأى أن مروءته توجب عليه الانسحاب ونسيانها إلى الأبد.

خفق قلب سيد من جديد بعد ما أتم تعليمه وعمل في وزارة المعارف، وكانت الفتاة الثانية بنتاً قاهرية ملامحها تكاد تشبه ملامح بنت قريته، وقد سجل ذلك في روايته أشواك يقول: لم تكن ممن يحسبهن العرف جميلات، لكن كانت هناك في وجهها جاذبية ساحرة. كانت خمرية اللون واضحة الجبين، وفي عينيها وهج غريب تطل منه إشراقة مسحورة.

خطب سيد تلك الفتاة وهو يحلم بعش الزوجية السعيد، ولكن.. في ليلة الخطبة.. إذا بدمعة حزن تفر من عينيها فشعر بشوكة تنغرز في فؤاده.. سألها.. فاعترفت له بأنها قبل أن تتعرف عليه كانت تعيش قصة حب مع ابن جيرانها الضابط في الجيش، وبعد معرفته هذه الحقيقة القاسية عاش في معاناة مريرة استمرت إلى أن قرر فسخ تلك الخطوبة.

وقد سجل قصة حبه تلك شعراً، كما سجلها نثراً ـ في روايته أشواك ـ فنظم قصائد شعرية عديدة، منها نهاية المطاف والكأس المسمومة وبعد الأوان.

استمر تأثر سيد قطب بمعاناة مما حدث له في خطبته هذه فترة طويلة مما صرفه عن الزواج أو محاولة الخطبة مرة ثانية، فاستغرق في الحياة الأدبية ليتخلص من ذكرياته، إلى أن توجه إلى الإسلام بالكلية، فحاول أن يخطب إحدى الفتيات الصالحات عام 1954م إلا أنه في تلك الأثناء تم اعتقاله، وقضى في غياهب السجن عشر سنوات كاملة، ثم أفرج عنه بعفو صحي عام 1964 م. وكان أول ما فكر فيه بعد مغادرة السجن الشروع في الزواج ليحظى بتطبيق سنة النبي - صلى الله عليه وسلم -، فبحث إلى أن وجد بغيته عند إحدى النساء الصالحات، وأوشك أن يعلن خطبته.. لكن القدر لم يمهله، فمضى إلى ربه غير متأسف على الدنيا وزينتها.

هل كان يعلم سيد أن نهايته ستملأ الدنيا وستشغل الناس؟ قطعاً لم يكن ليهتم..

في فجر يوم الاثنين الثالث عشر من جمادى الأولى 1386هـ الموافق 29/8/ 1966م تم إعدام البطل سيد قطب - رحمه الله - في السجن الحربي.. يصف الشيخ عبد الحميد كشك - رحمه الله - يوم تقديم الشيخ الفاضل سيد قطب إلى حبل المشنقة وصفاً مهيباً، فهو يتحدث عن الدبابات والمدرعات أحاطت السجن الحربي، ومئات الجنود المدججين بالسلاح لضمان التمكين من إتمام الجريمة، وتحسباً لأي شاغب يشغب عليهم فيعطل إتمامها، لكن لم يكن هناك من شاغب أو شاجب إما بفعل الخوف والإرهاب وإما إقبالاً على الله - تعالى -، تماماً كما كان حال الشيخ الذي قدم إليه ضابط برتبة كبيرة، وجعل يكلمه في شفقة وهيبة منه قائلاً له: يا أخي.. يا سيد.. إني قادم إليك بهدية الحياة من الرئيس ـ الحليم الرحيم ـ كلمة واحدة تذيلها بتوقيعك، ثم تطلب ما تشاء لك ولإخوانك هؤلاء. ثم قدم ورقة وقال: اكتب يا أخي هذه العبارة فقط: لقد كنت مخطئا وإني أعتذر.

رفع سيد عينيه الصافيتين، وقد غمرت وجهه ابتسامة الواثق من نصر الله المشتاق إلى لقائه، وقال للضابط في هدوء عجيب: أبدا.. لن أشتري الحياة الزائلة بكذبة لن تزول

قال الضابط بلهجة في أسى: ولكنه الموت يا سيد...

وأجاب سيد: مرحباً بالموت في سبيل الله.. ولم تبق هذه الكلمة أي مجال للاستمرار في الحوار، فأشار الضابط المكلف بوجوب التنفيذ، وسرعان ما تأرجح جسد سيد - رحمه الله - وإخوانه في الهواء.. ونفوسهم راضية مطمئنة يرددون لا إله إلا الله محمد رسول الله.

مضى سيد قطب مرفوع الرأس، مقبلاً على خالقه بعدما نثر بذور الصحوة بكلماته التي سُقيت من دمه ونبتت من لحمة، فاستفحلت وأبت أن تموت، وكيف لها أن تموت والبون شاسع بين كلمة نبتت على أشلاء صاحبها وأخرى خرجت مصحوبة بتهويمات التزلف والنفاق، والفكر السقيم.

وصدق ثم صدق سيد - رحمه الله - حينما قال: إن أفكارنا وكلماتنا تظل جثثا هامدة، حتى إذا متنا في سبيلها أو غذيناها بالدماء انتفضت حية وعاشت بين الأحياء.

كانت هذه رؤيته للكلمة، فلم يرض بأقل من أن تغرس كلمته فوق أنقاضه؛ فقالها طيبة، خضرة نضرة فبلغت به الثريا، ومضى بحسن السيرة وطيب الذكر، فيما مضى قاتلوه بسوء السيرة والذكر الخبيث.


المراجع

شبكة صانعات المأثر

التصانيف

قصص