احتلت نتائج استطلاعات الرأي العامة حيزاً كبيراً خلال فترة الانتخابات التشريعية الثانية التي جرت بتاريخ 25/1، من حيث الاهتمام بها، والتعليق عليها خلال فترة الدعاية الانتخابية، وصولاً للمراهنة على دقة نتائجها المتعلقة بالنسب التي ستحصل عليها الكتل الانتخابية، ومن ثم نقدها وبشدة نتيجةً لإخفاقها في الوصول إلى تقديرات دقيقة لنتائج الكتل يوم الانتخابات، لكن النقد الموجه لهذه الاستطلاعات كان عاماً، لذا ينبغي التفريق بين تلك الاستطلاعات التي أجريت قبل يوم الانتخابات، والاستطلاعات التي أجريت يوم الانتخابات نفسه.
بالنسبة للاستطلاعات التي أجريت قبل الانتخابات من مراكز استطلاعات وبحوث متعددة منها ما هو معروف بمهنيته، ومنها ما هو جديد لم يثبت نفسه بعد (وهذا ليس مدار تعليقنا)، اللافت للمتابع أن نتائج استطلاعات المراكز المعروفة ظهر فيها مشاكل كثيرة، الأولى أنها رجّحت فوز حركة فتح على حماس بنسب متفاوتة، ولكنها أكيدة، والثانية أنها صنفت كتلة فلسطين المستقلة والطريق الثالث بالمراتب الثالثة والرابعة، وبنسب عالية أحياناً عكس الواقع المعروف والمنطقي، وتحديداً الاستطلاعات التي أجراها برنامج دراسات التنمية، وكذلك استطلاعات مركز البحوث والدراسات المسحية.
فيما يتعلق بمشكلة تفوق حركة فتح على حماس، ثم ظهور العكس (وهذه مشكلة نتائج جميع الاستطلاعات) يبدو أن هذا الخطأ كان نتيجة عدم إعلان المبحوثين صراحة لمن سيصوتون، وذلك خوفاً على وظائفهم، أو لاعتبارات أخرى، حيث كانوا يصرحون بأنهم سيصوتون لفتح فيما صوتوا لحماس، ولهذا ظهرت هذه النتيجة المتعارضة، عدا قضية المستقلين الذي حسموا قرارهم في اللحظة الأخيرة بالتصويت لصالح حماس على حساب فتح مما أثر إيجاباً لصالح كتلة حماس (التغيير والإصلاح)، لكن هذا ليس مبرراً لما حصل؛ بما يعني وجود خلل في وعينة الاستطلاعات ومنهجيتها يجب الوقوف جدياً عندها، فيما يتعلق بالمشكلة الثانية والمرتبطة بتصنيف قائمة فلسطين المستقلة والطريق الثالث، فيبدو أنها مرتبطة أكثر بتحيز الباحث الرئيسي، وبالتالي تحيز المواقع التي تم اختيارها لإجراء الاستطلاع فيها، مظهراً هذا الترتيب غير الواقعي، واستمر هذا حتى إجراء الاستطلاع التابع لجامعة النجاح، وكذلك استطلاع مركز بانوراما، الذين أعادا ترتيب الأوراق إلى الواقع مرجحين فوز كتلة الشهيد أبو علي مصطفى بالموقع الثالث، وهذا ما حدث فعلاً، ومن ثم بقية الكتل بمقعدين لكل منهما.
هذا بدوره، يطرح تساؤلات جدية ليس حول مصداقية أدوات القياس ودقتها فقط، بل حول مصداقية مركز الاستطلاعات والباحث الذي يشرف عليها؛ بمعنى هل أصبحت بعض استطلاعات الرأي دعاية انتخابية موجهة لصالح كتلة انتخابية دون أخرى، وذلك بهدف التأثير على الجمهور المتعطش للغة الأرقام، وهذا ما اتضح لاحقاً بوجود نية في التلاعب ببعض النسب والنتائج، وليس المهرب من هذا الادّعاء بوجاهة خطأ المعاينة، لأن ما تم نشره من أرقام ونتائج تجاوز بكثير خطأ المعاينة. كذلك ظهرت بعض الانتقادات اللاحقة التي تلقي باللوم على أدوات القياس مع أنها (أدوات القياس) هي أسئلة تقيس المفهوم، وفي حالة استطلاع التوجهات الانتخابية سؤال بسيط وواضح \"لمن ستصوت\"، وبالتالي أغلب الاستطلاعات لم يكمن خللها في أدوات القياس، بل في منهجية الاستطلاعات وعينتها كما ذكرت.
فيما يتعلق باستطلاعات الخروج (استطلاعات يوم الانتخابات) لم يأت استطلاع واحد بنتيجة قريبة لما حصل، ما عدا تصنيف القوائم الأصغر من حركتي حماس وفتح، وظهرت بهذه الاستطلاعات مشكلتين أساسيتين، الأولى في تلك الاستطلاعات التي أجريت عبر الهاتف، ذلك أن عدد كبير من المواطنين لا يملكون هواتف بسبب قضايا تقنية أو مالية، وبالتالي ستكون العينة متحيزة لذوي الدخل الجيد، ولسكان المدن على حساب سكان المخيمات والقرى، وذوي الدخل المنخفض، وهذا أدّى بشكل رئيسي إلى عدم تطابق نتائج الاستطلاعات مع نتائج الانتخابات، المشكلة الثانية في الاستطلاعات التي أجريت بمقابلة الناخب أمام مركز الاقتراع مباشرة بعد انتخابه، وقام بإجرائها كل من برنامج دراسات التنمية، ومركز البحوث والدراسات المسحية، والتي تكمن أساساً في الوقت تحديداً، ذلك أن هذه الاستطلاعات قامت بتوزيع عدد المقابلات بشكل منتظم على عدد الساعات وفقاً لآلية محددة بأخذ مقابلة من كل عشرة ناخبين، بينما الواقع أن مؤيدي حركة حماس وأنصارها قاموا بالتصويت بكثافة شديدة منذ ساعات الصباح الأولى، وبالتالي فإن عدد المقابلات لم يكن ممثلاً لهذه الحركة، واستمروا بأخذ مقابلات طيلة ساعات ما بعد الظهر مما أعطى ثقلاً أكبر لكتلة فتح مما تستحق.
جميع المشاكل المذكورة، كان يمكن تجاوزها لو تعاطى مدراء المراكز بموضوعية وحيادية تامة دون انحياز لمصالح أو تحالفات مع بعض القوائم، ورغبة في إبراز كتلة على حساب أخرى، وكذلك لو امتلكوا الجرأة للاعتراف بالمشاكل التي واجهتها منهجية الاستطلاع، وعملوا معاً على تسويتها بدلاً من أدّعاء المعرفة العلمية المطلقة والحياد التام، والهجوم على الآخرين، وهذا ما ثبت خطأه تماماً كما ثبت خطأ نتائج الاستطلاعات.
الخطوة المطلوبة الآن هي إعادة دراسة منهجية الاستطلاعات، وآلية عملها من أجل تصويبها عبر تقييمها وتجريبها، وإعادة الاعتبار لاستطلاعات الرأي التي تشكل رافداً مهماً لمعرفة توجهات المجتمع في قضايا عديدة، ذلك أن استطلاعات الرأي تقوم على منهج علمي دقيق، ولا تقوم على تخمينات شخصية أو جماعية، وبمقدار اقترابها من الدقة والتصميم الجيد والاجتهاد ستقترب من المعرفة العلمية المطلوبة، وستقترب من اكتساب ثقة المجتمع ومؤسساته.
- باحث/ منسق مشروع الحكم الصالح
المراجع
www.swmsa.net/articles.php?action=show&id=1120موسوعة الأبحاث العلمية
التصانيف
الأبحاث