إن موقف الماتريدية من أخبار الآحاد مركبٌ من المقدمات الثلاث - كما سبق-:

1- أخبار الآحاد ظنية لا تفيد اليقين.

2- لا يحتج بها في باب الاعتقاد، وتصلح للعمليات.

3- إن وردت في مخالفة العقل؛ فإن كانت نصاً ترد، وإلا يفوض مرادها أو تؤول إلى ما يوافق العقل.

ونحن نعارض الماتريدية في جميع هذه المقدمات معارضة علمية على وجه البصيرة بتوفيق الله تعالى فنقول:

أولاً: القول بعدم الاحتجاج بأخبار الآحاد في العقيدة قولٌ مبتدع مخالفٌ لطريقة السلف المتوارثة ولاسيما منهج الإمام أبي حنيفة وأصحابه الأوائل.

ثانيا: أحاديث الصفات ليست أخبار الآحاد، بل هي من قبيل المشهورات والمتواترات فلا يصح زعمكم أنها ظنية.

ثالثا: أحاديث الصفات ليست أخبار الآحاد مجردة بل هي موافقة لكتاب الله والعقل الصريح والفطرة السليمة في الدلالة على صفات الله تعالى فلا يصح قولكم: إنها ظنية.

ورابعاً: القول بظنية أخبار الآحاد، هكذا مطلق العنان - لا يصح لأن أخبار الآحاد المحتفة بقرائن الصحة - بجميع أنواعها - مفيدةٌ للعلم اليقيني فهي كالمشهورات والمتواترات كل ذلك باعترافكم.

وخامساً: لو سلمنا مقدماتكم - على سبيل فرض المحال - لنقولُ: إن المراد من العمل أعم من عمل الجوارح، فيشمل عمل القلب، فصح الاحتجاج بخبر الواحد في باب العقيدة حتى باعترافكم أيضاً.

الوجه الأول:

أن القول بأن أخبار الآحاد ظنية لا تصلح لإثبات العقيدة والفرق بين أبواب العقيدة، وبين أبواب الأحكام وأن أخبار الآحاد تصلح للأحكام دون العقائد - قول مبتدع في الإسلام ابتدعه طوائف الجهمية من المتكلمين ثم دب إلى بعض الأصوليين والفقهاء.

وأنه مخالف لما أجمع عليه الصحابة والتابعون ومن بعدهم من أئمة هذا الدين. حيث يحصل لهم العلم من تلك الأحاديث الصحيحة الصريحة التي رويت من طريق الثقات الأثبات، ولو سلمنا أنها لا تفيد العلم اليقيني - كما هو زعم المتكلمين - لا نسلم هذه التفرقة: من أن أخبار الآحاد تصلح لإثبات الأحكام العملية ولا تصلح للمباحث العقدية العلمية. لأن هذه التفرقة هي خلاف ما أجمع عليه السلف بل هذه التفرقة أصل من أصول الضلال.

1- قال إمام عصره المجمع على إمامته أبو المظفر منصور بن محمد السمعاني (489هـ) جد صاحب الأنساب:

قولهم: إن أخبار الآحاد لا تقبل فيما طريقه العلم - رأي سمعت به المبتدعة في رد الأخبار.

إذ أن الخبر إذا صح ورواه الثقات والأئمة، وتلقته الأمة بالقبول فإنه يوجب العلم، وهذا قول عامة أهل الحديث والمتقنين من القائمين على السنة. وأما هذا القول المبتدع فقول القدرية والمعتزلة، وكان قصدهم منه رد الأخبار. وتلقفه منهم بعض الفقهاء الذين لم يكن لهم في العلم قدم ثابت، ولم يقفوا على مقصودهم من هذا القول، ولو أنصف أهل الفرق من الأمة لأقروا بأن خبر الواحد قد يوجب العلم.

ثم ذكر الإمام السمعاني أدلة قاطعة على ذلك وبين بالحجج الدامغة أن منهج النقد عند المحدثين منهج متين رصين، لا يغادر للظنين طنيناً بل يورث يقيناً .

2- وقال ابن القيم على سبيل التسليم: "إن هذه الأخبار لو لم تفد اليقين فإن الظن الغالب حاصل منها ولا يمتنع إثبات الأسماء والصفات بها كما لا يمتنع إثبات الأحكام الطلبية بها.

فما الفرق بين باب الطلب وباب الخبر؟ بحيث يحتج بها في أحدهما دون الآخر؟ وهذا التفريق باطل بإجماع الأمة، فإنها لم تزل تحتج بهذه الأحاديث في الخبريات العلميّات كما تحتج بها في الطلبيات العمليّات، ولا سيما أن الأحكام العملية، تتضمن الخبر عن الله بأنه شرع كذا وأوجبه، ورضيه ديناً، فشرعه ودينه راجع إلى أسمائه وصفاته.

ولم تزل الصحابة والتابعون وتابعوهم، وأهل الحديث والسنة يحتجون بهذه الأخبار في مسائل الصفات والقدر والأسماء والأحكام، ولم ينقل عن أحد منهم البتة أنه جوّز الاحتجاج بها في مسائل الأحكام دون الإخبار عن الله، وأسمائه وصفاته. فأين سلف المفرّقين بين البابين؟.

نعم سلفهم بعض متأخري المتكلمين الذين لا عناية لهم بما جاء عن الله، ورسوله وأصحابه، بل يصدون القلوب عن الاهتداء في هذا الباب بالكتاب، والسنة وأقوال الصحابة ويحيلون على آراء المتكلمين، وقواعد المتكلفين، فهم الذين يعرف عنهم هذا التفريق بين الأمرين...؛

وهذا التقسيم أصل من أصول ضلال القوم. فإنهم فرّقوا بين ما سموه أصولاً وما سموه فروعاً، وسلبوا الفروع حكم الله المعين فيها،...، وجعلوا ما سموه أصولاً من أخطأ فيه عندهم فهو كافرٌ أو فاسق، وادعو بالإجماع على هذا التفريق" .

3- وقال الإمام ابن القيم أيضاً: ونحن نشهد بالله ولله شهادةً على البت والقطع أن الصحابة رضي الله عنهم كانوا يجزمون بما يحدث به أحدهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولم يقل أحد منهم لمن حدثه عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: خبرك خبر واحدٍ لا يفيد العلم حتى يتواتر؛ ولم يكن أحد من الصحابة ولا أحد من أهل الإسلام بعدهم يشك فيما أخبر به أبو بكر الصديق، ولا عمر، ولا عثمان، ولا علي ولا عبدالله بن مسعود، ولا غيرهم عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بل كانوا لا يشكون في خبر أبي هريرة رضي الله عنه، مع تفرده بكثير من الحديث ولم يقل أحد منهم يوماً واحداً من الدهر: خبرك هذا خبر واحد لا يفيد العلم.

وكان حديث رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أجل في صدورهم من أن يقابل بذلك، وكان أحدهم إذا روى لغيره حديثاً عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في الصفات تلقاه بالقبول، واعتقد تلك الصفة على القطع واليقين، كما اعتقدوا رؤية الرب وتكليمه ونداءه يوم القيامة لعباده بالصوت الذي يسمعه البعيد كما يسمعه القريب ونزوله إلى السماء الدنيا كل ليلة وضحكه، وفرحه، وإمساك سماواته بإصبع من أصابع يده، وإثبات القدم له سبحانه وتعالى.

ومن سمع هذه الأحاديث ممن حدث بها عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- أو عن أحد من الصحابة "رضي الله عنهم" اعتقد ثبوت مقتضاها بمجرد سماعها من العدل الصادق ولم يرتب فيها قط. إلى أن قال ابن القيم: حتى إن الصحابة ربما يَتَثَّبتونَ في بعض أحاديث الأحكام حتى يستظهروا بآخر؛ أما أحاديث الصفات فلم يطلب أحد منهم الاستظهار فيها البتة، بل كانوا أعظم مبادرةً إلى قبولها وتصديقها والجزم بمقتضاها، ومن له أدنى إلمام بالسنة والالتفات إليها - يعلم ذلك دون شك، ولولا وضوح الأمر في ذلك كالشمس في رابعة النهار لذكرنا أكثر من مائة موضع.

فهذا الذي اعتمده نفاة العلم عن أخبار رسول الله - صلى الله عليه وسلم- خرقوا به إجماع الصحابة المعلوم بالضرورة، وإجماع التابعين، وإجماع أئمة الإسلام؛ ووافقوا به المعتزلة، والجهمية، والرافضة، والخوارج الذين انتهكوا هذه الحرمة، وتبعهم بعض الأصوليين، والفقهاء، وإلا فلا يعرف لهم سلف في الأئمة بذلك بل صرح الأئمة بخلاف قولهم.

ثم أفاض الإمام ابن القيم في نقل إجماع الأئمة على ذلك ولاسيما الأئمة الثلاثة مالك، والشافعي، وأحمد، وأصحاب الإمام أبي حنيفة، وغيرهم .

4- وقد ذكر ابن عبدالبر الإجماع على قبول خبر الواحد في العقائد وله كلام قيم في بيان منهج السلف في العقيدة ولاسيما في الصفات فارجع إليه .

الوجه الثاني:

أن نعارض الماتريدية بمنهج الإمام أبي حنيفة وأصحاب الأوائل في مصدر تلقي العقيدة فإن منهجهم في تلقي العقيدة أنهم يأخذون العقيدة عن كتاب الله تعالى والسنة الصحيحة بما فيها أخبار الآحاد، كما يستخدم الإمام دليل الفطرة الصحيحة السليمة أيضاً. فلا يوجد في منهج الإمام وأصحابه شيء مما زعمه هؤلاء المتكلمون: من أن ظواهر النصوص أدلة لفظية ظنية أو أخبار الآحاد ظنية لا تثبت بها العقيدة، بل نجد عندهم خلاف ما عند هؤلاء المتكلمين.

إذاً فهم خارجون جهاراً على أئمتهم مخالفون لمنهجهم في تلقي العقيدة.

وأنهم مبتدعون في تفريقهم حول أخبار الآحاد: من أنها تفيد العمل ولا تفيد العلم ومخالفون لإمامهم في آنٍ واحدٍ فليسوا أهل السنة.

وها هي نماذج من نصوص الإمام أبي حنيفة وبعض كبار أصحابه.

1- قال الإمام أبو حنيفة:

"من قال: لا أعرف ربي في السماء أو في الأرض فقد كفر. وكذا من قال: إنه على العرش ولا أدري العرش في السماء أو في الأرض؟.

والله يدعى من أعلى لا من أسفل لأن الأسفل ليس من وصف الربوبية والألوهية في شيء وعليه ما روي في الحديث، أن رجلاً أتى النبي صلى الله عليه وسلم بأمة سوداء فقال: وجب علّي عتق رقبة مؤمنة أفتجزئ هذه فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: ((أمؤمنة أنتِ فقالت: نعم فقال: أين الله فأشارت إلى السماء، فقال: (أعتقها فإنها مؤمنة)) .

قلت: أيها المسلم هذا نص أبي حنيفة بشهادة الحنفية الماتريدية جميعاً وعلى آخرهم الكوثري فقد ترى أن الإمام استدل في أكبر مسألة، وأوضحها في العقيدة - وهي العلو لله تعالى واستوائه على عرشه- بدليل الفطرة، وحديث الجارية اللذين تلاعب بهما المتكلمون وعلى رأسهم الكوثري أنواع التلاعب، ولم يكتف الإمام بإثبات علو الله تعالى بل كفّر من أنكر ذلك أو شك فيه، وفي ذلك عبرة للمتكلمين عامة وللماتريدية خاصة.

ولا شك أن حديث الجارية خبر الواحد وإن قيل بتواتره.

2- وقال الإمام محمد بن الحسن رحمه الله:

"اتفق الفقهاء كلهم من المشرق إلى المغرب على أن الإيمان بالقرآن والأحاديث التي جاءت بها الثقات عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في صفة الرب عز وجل من غير تفسير، ولا وصف ولا تشبيه فمن فسر اليوم شيئاً من ذلك فقد خرج عما كان عليه النبي"؛ وفارق الجماعة فإنهم لم يصفوا ولم يفسروا ولكن أفتوا بما في الكتاب والسنة ثم سكتوا، فمن قال بقول الجهم فقد فارق الجماعة؛ لأنه قد وصفه بصفة لا شيء .

تفكر أيها المسلم: في كلام هذا الإمام، فإنه مشتمل على الأمور الثلاثة على الأقل:

الأول: الإجماع على إثبات الصفات لله التي جاء بها الكتاب والأحاديث المروية عن طريق الثقات.

الثاني: الإجماع على إثبات الصفات بالأحاديث بدون تقييد كونها متواترةً أو مشهورةً أو أخبار الآحاد بعد أن كانت صحيحةً مرويةً عن الثقات.

الثالث: الإجماع على الإيمان بصفات الله تعالى من غير تكييف ولا تشبيه ولا تفسير الجهمية وتأويلهم الذي هو عين التحريف والتعطيل المؤدي إلى كون الله تعالى موصوفاً بصفة لا شيء لأن نفي علو الله والقول بأنه لا فوق ولا تحت ولا داخل العالم ولا خارجه ولا متصل به ولا ومنفصل عنه صفة معدوم بل ممتنع كما يأتي تفصيله إن شاء الله تعالى.

"هذه الأحاديث قد روتها الثقات فنحن نرويها ونؤمن بها ولا نفسرها" .

فهذا نص صريح في إثبات الصفات بالأحاديث التي رويت عن الثقات بدون قيد التواتر فيصح الأخذ في باب العقيدة بالسنة بعد أن كانت صحيحة مروية عن طريق الثقات وهذا هو منهج السلف الصالح، ولاسيما أئمة الحنفية وفي ذلك عبرة للماتريدية أيما عبرة.

4- وقال الإمام الطحاوي فيما ذكره عن الإمام أبي حنيفة وصاحبيه، الإمامين أبي يوسف، ومحمد رحمهم الله في أحاديث الرؤية:

"وكل ما جاء من ذلك من الحديث الصحيح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فهو ما قال: ومعناه، على ما أراد الله تعالى، ولا ندخل في ذلك متأولين بآرائنا ولا متوهمين بأهوائنا" .

5- وقال: "وجميع ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من الشرع والبيان كله حق" .

فهذا النص كما ترى ينادي بأندى الصوت أن الحديث بعد ما صح عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- يستدل به على إثبات العقيدة من دون قيد التواتر والشهرة فثبت ثبوتاً واضحاً كفلق الصبح بل كالشمس في رابعة النهار أن منهج الماتريدية كغيرهم من المتكلمين منهج مبتدع مخالف لمنهج السلف، عامة ولاسيما الإمام أبي حنيفة وأصحابه الأوائل.

فوا عجباً للحنفية الماتريدية حيث يتهالكون في تقليد الإمام أبي حنيفة رحمه الله في المسائل الفقهية، ولو كانت مخالفةً للكتاب والسنة الصحيحة المحكمة الصريحة مع نهي الإمام أبي حنيفة رحمه الله وغيره من الأئمة عن مثل هذا التقليد الأعمى حتى باعتراف الحنفية وينبذون أصول هذا الإمام ومنهجه ومنهج أصحابه الأئمة الأوائل في باب العقيدة وراءهم ظهريا، وفي ذلك عبرة، فهل من معتبر؟

فلو كانوا حنفية كاملة على تعبير العلامة عبدالحي اللكنوي، لما نبذوا منهج الإمام وأصحابه الأوائل هكذا بالمرة.

مع أن أبواب الاعتقاد أهم من الأحكام فخروجهم على الإمام أبي حنيفة في الأصول وتشبثهم بأقواله في الفروع، ولو كانت مخالفة للأحاديث الصحيحة من عجب العجاب.

6- هذا، وللإمام ابن أبي العز الحنفي كلام مهم في شرح قول الطحاوية فارجع إليه .

الوجه الثالث:

أن عامة أحاديث الصفات ليست أخبار آحادٍ - كما يزعم من لم يجمع طرفها ولم يعش معها، لأن أحاديث الصفات إما متواترة لفظاً ومعنى، أو معنى فقط، أو مشهورة، فلا يصح زعمهم: "أنها أخبار آحادٍ وهي ظنية لا تثبت بها العقيدة". لأنها ليست أخبار آحادٍ باصطلاح الحنفية الماتريدية واعترافهم بل هي فوق أخبار الآحاد في المنزلة وإفادة العلم، فقد صرحوا بأن المتواتر يوجب اليقين بلا شكٍ عندهم، وأما المشهور فيوجب علم الطمأنينة؛ فيجوز الزيادة به على كتاب الله عندهم، والمشهور في حيز المتواتر، بل قد صرح الإمام أبو بكر الجصاص الحنفي بأن المشهور قسم من المتواتر؛.

فقد صرح الحنفية بأن حديث الرجم وأحاديث المسح على الخفين، ونحوها مما كان أخبار الآحاد في القرن الأول ثم اشتهر فصار من المشهور في القرن الثاني والثالث ومثل هذا يثبت به العقيدة حتى باعترافهم هم وشهادتهم بلسانهم وبنانهم.

فقد قال الإمام شمس الأئمة السرخسي الحنفي رحمه الله (490هـ): "فأما الآثار المروية في عذاب القبر، ونحوها فبعضها مشهورة، وبعضها آحاد وهي توجب عقد القلب..." .

ومثله بنصه قوله الإمام صدر الشريعة عبيد الله بن مسعود الحنفي (747هـ): "فيكفي له خبر الواحد وفي هذا نظر لأنه يجب أن لا يختص هذا بأحكام الآخرة بل يكون كل الاعتقاديات كذلك" .

ثم لم يجب عن هذا الإشكال وهذا يدل على أنهم عملوا قوة هذه الأخبار ولو كانت أخبار آحاد.

الحاصل: أنه لما أنه لما كان غالب أحاديث الصفات إما متواتراً لفظاً ومعنى أو معنى فقط، أو مشهوراً - وهذه الأنواع أعلى مرتبة من أخبار الآحاد؛ فالمتواتر يفيد العلم القطعي اليقيني، والمشهور يفيد علم الطمأنينة، وكلا النوعين تثبت به العقيدة عند الحنفية الماتريدية - لم يصح دعواهم حول أحاديث الصفات أنها ظنية بحجة أنها أخبار الآحاد؛ فإن دعواهم بهذا الإطلاق والعموم منهدمة على عروشها منهارة على أسسها، وهذا واضح جداً، فدعواهم هذه كما تدل على استخفافهم بالنصوص وتقديم العقول الفاسدة عليها، كذلك تدل على جهلهم بالنصوص وبعدهم عنها؛ لأن أحاديث الصفات ليست كلها أخبار آحاد بل غالبها متواتر.

قال الإمام ابن القيم رحمه الله:

"والأخبار المقبولة في باب الأمور الخبرية العلمية أربعة أقسام:

أحدها: متواتر لفظاً ومعنى.

والثاني: أخبار متواترة معنى، وإن لم تتواتر بلفظ واحد.

والثالث: أخبار مستفيضة متلقاة بالقبول بين الأمة.

والرابع: أخبار آحاد مروية بنقل العدل الضابط عن العدل الضابط عن مثله حتى تنتهي إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم-.

فأما القسمان الأولان: فكالأخبار الواردة في عذاب القبر، والشفاعة، والحوض، ورؤية الرب تعالى، وتكليمه عباده يوم القيامة، وأحاديث علوه فوق سماواته على عرشه، وأحاديث إثبات العرش... ونحو ذلك مما يعلم بالاضطرار أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جاء بها كما يعلم بالاضطرار أنه جاء بالتوحيد وفرائض الإسلام وأركانه، وجاء بإثبات الصفات للرب تبارك وتعالى - فإنه ما من باب من هذه الأبواب إلا وقد تواتر فيه المعنى المقصود عن النبي -صلى الله عليه وسلم- تواتراً معنوياً لنقل ذلك عنه بعبارات متنوعة من وجوه متعددة يمتنع في مثلها في العادة التواطؤ على الكذب عمداً أو سهواً... أفادت العلم اليقيني... وهذا عند أهل الحديث أعظم من علم الأطباء بوجود بقراط وجالينوس فإنهما من أفاضل الأطباء، وأعظم من علم النحاة بوجود سيبويه، والخليل، والفراء، وعلمهم بالعربية،، لكن أهل الكلام وأتباعهم في غاية قلة المعرفة بالحديث وعدم الاعتناء به وكثير منهم بل أفضلهم عند أصحابه لا يعتقد أنه روي في الباب الذي يتكلم فيه عن النبي -صلى الله عليه وسلم- شيء أو يظن أن المروي فيه حديث أو حديثان كما تجده لأكابر شيوخ المعتزلة، كأبي الحسين البصري الحنفي يعتقد أنه ليس في الرؤية إلا حديث واحد وهو حديث جرير، ولم يعلم أنه فيها ما يقارب ثلاثين حديثاً؛ وقد ذكرناها في كتاب (صفة الجنة) (حادي الأرواح) .

فإنكار هؤلاء لما عليه أهل الوراثة النبوية من كلام نبيهم أقبح من إنكار ما هو مشهور من مذاهب الأئمة عند أتباعهم.

وما يعلم أن كثيراً من الناس قد تطرق سمعه هذه الأحاديث ولا تفيده علماً، لأنه لم تجتمع طرقها وتعددها واختلاف مخارجها من قبله.

فإذا اتفق له إعراضٌ أن نفرةٌ عن رواتها، وإحسان ظن بمن قال بخلافها.

أو تعارض خيال شيطاني فهناك يكون الأمر كما قال الله تعالى: قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاء وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُوْلَئِكَ يُنَادَوْنَ مِن مَّكَانٍ بَعِيدٍ {فصلت:44}.

فلو كانت أضعاف ذلك لم تحصل لهم إيماناً ولا علماً...

فإذا اجتمع في قلب المستمع لهذه الأخبار العلم بطريقها ومعرفة حال رواتها وفهم معناها - حصل له العلم الضروري، الذي لا يمكن رفعه؛ ولهذا كان جميع أئمة الحديث - الذين لهم لسان صدق في الأمة - قاطعين بمضمون هذه الأحاديث شاهدين بها على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- جازمين بأن من كذب بها أو أنكر مضمونها فهو كافر مع علم من له إطلاع على سيرتهم وأحوالهم بأنهم من أعظم الناس صدقاً وأمانةً وديانةً، وأوفرهم عقولاً وأشدهم تحفظاً وتحرياً للصدق ومجانبة للكذب وأن أحداً منهم لا يحابي في ذلك أباه ولا ابنه ولا شيخه، ولا صديقه، وأنهم حرروا الرواية عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- تحريراً لم يبلغه أحدٌ سواهم لا من الناقلين عن الأنبياء ولا عن غير الأنبياء وهم شاهدوا شيوخهم على هذه الحال وأعظم وأولئك شاهدوا من فوقهم كذلك وأبلغ حتى انتهى الأمر إلى من أثنى الله عليهم أحسن الثناء وأخبر برضاه عنهم واختياره لهم واتخاذه إياهم شهداء على الأمم يوم القيامة.

ومن تأمل ذلك أفاده علماً ضرورياً بما ينقلونه عن نبيهم أعظم من كل علم تنقله كل طائفة عن صاحبها، وهذا أمر وجداني عندهم، لا يمكنكم جحده؛ بل هو بمنزلة ما تحسونه من الألم واللذة والحب والبغض، حتى إنهم يشهدون بذلك ويحلفون عليه، ويباهون من خالفهم عليه.

وقول هؤلاء القادحين في الأخبار والسنن: "يجوز أن يكون رواة هذه الأخبار كاذبين أو غالطين" بمنزلة قول أعدائه: "يجوز أن يكون الذي جاء به شيطاناً كاذباً"... فإن أنكروا حصوله لأنفسهم لم يقدح ذلك في حصوله لغيرهم، وإن أنكروا حصوله لأهل الحديث، كانوا مكابرين لهم... والمناظرة إذا انتهت إلى هذا الحد لم يبق، فيها فائدة وينبغي العدول إلى ما أمر الله به ورسوله -صلى الله عليه وسلم- من المباهلة، قال الله تعالى: فَمَنْ حَآجَّكَ فِيهِ مِن بَعْدِ مَا جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعَالَوْاْ نَدْعُ أَبْنَاءنَا وَأَبْنَاءكُمْ وَنِسَاءنَا وَنِسَاءكُمْ وَأَنفُسَنَا وأَنفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَل لَّعْنَةُ اللّهِ عَلَى الْكَاذِبِينَ {آل عمران:61} .

قلت: رحم الله ابن القيم الإمام وشيخ الإسلام ورفعهما مكانا عليّا؛ فقد عرفا حقيقة هؤلاء المتكلمين من المعتزلة، والماتريدية والأشعرية أفراخ الجهمية المعطلة.

الوجه الرابع:

أن نقول: لو سلمنا أن أحاديث الصفات أخبار آحادٍ، لكن لا نسلم أنها أخبارُ أحادْ مجردةٌ ظنيةٌ، بل هي قطعيةٌ، لأنها موافقة لكتاب الله تعالى، والعقل الصريح والفطرة السليمة، وإجماع السلف في الدلالة على صفات الله تعالى، كعلو الله تعالى على خلقه، واستوائه، على عرشه، ووجهه الكريم، ويديه، ورضاه، وغضبه، ومحبته وكراهيته، وغيرها من صفات الله تعالى، التي تنفى حقائقها الماتريدية ويحرفون نصوصها؛ فقد جاءت بها نصوص كتاب الله كما جاءت سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم- فحينئذ لا يصح زعمهم: "أن تلك الأحاديث أخبارُ آحادٍ وهي ظنية، لا تثبت بها العقيدة" لأن أحاديث الصفات ليست مجردة عن موافقتها العقل الصريح والفطرة السليمة، وإجماع السلف ومطابقتها لكتاب الله؛ ولأن تلك الصفات ثابتة بنصوص كتاب الله تعالى الصريحة مع موافقتها للعقل الصريح والفطرة السليمة، وإجماع السلف، فيكون مجييء الأحاديث بتلك الصفات من قبيل توافر الأدلة، وتواردها على مدلول واحد، وفيما يلي نبذة من كلام أئمة السنة:

1- قال الإمام ابن القيم رحمه الله:

"هذه الأخبار الصحيحة في هذا الباب يوافقها القرآن ويدل على مثل ما دلت عليه، فهي مع القرآن بمنزلة الآية مع الآية والحديث مع الحديث، المتفقين وهما كما قال النجاشي في القرآن: "إن هذا والذي جاء به موسى من مشكاةٍ واحدة"؛

ومعلوم أن مطابقة هذه الأخبار للقرآن وموافقتها له أعظم من مطابقة التوراة للقرآن.

فلما كانت الشهادة بأن هذه الأخبار والقرآن يخرجان من مشكاة واحدة فنحن نشهد لله على ذلك شهادةً على القطع والبت إذا شهد خصومنا شهادة الزور أنها تخالف العقل.

وما يضرها أن تخالف العقول المنكوسة إذا وافقت الكتاب وفطرة الله التي فطر عباده عليها والعقول المؤيدة بنور الوحي.

وكذلك شهادة ورقة بن نوفل بموافقة القرآن لما جاء به موسى... كان قوله: المبطل: "هذه الأحاديث لا تفيد العلم" - بمنزلة قول من قال في قصص القرآن "إنها لا تفيد العلم".

وهكذا قال المبطلون سواء وإن اختلفت جهة إبطال العلم، عندهم من نصوص الوحي فنصوص القرآن لا تفيد علماً من جهة الدلالة، وهذه لا تفيد علماً من هذه الجهة ومن جهة السند، وهذا إبطال لدين الإسلام رأساً.

بل ذكر هذه الأحاديث بمنزلة ذكر أخبار المعاد، والجنة، والنار التي شهدت بما شهد به القرآن...، وهل يخفى على ذي العقل السليم أن تفسير القرآن بهذه الطرق خير مما هو مأخوذ عن أئمة الضلال، وشيوخ التجهم، والاعتزال... وأضرابهم من أهل التفرق، والاختلاف الذين أحدثوا في الإسلام ضلالاتٍ وبدعاً؛ وفرقوا دينهم وكانوا شيعاً..؛ فإذا لم يجز تفسير القرآن وإثبات ما دل عليه وحصول العلم اليقين بسنن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- الصحيحة الثابتة وكلام الصحابة وتابعيهم - أفيجوز أن يرجع في معاني القرآن إلى تحريفات جهم وشيعته؟.. من كل أعمى أعجمي القلب واللسان بعيد عن السنة والقرآن مغمور عند أهل العلم والإيمان"؟ .

2-5- وقال الحافظ ابن حجر:

(تنبيهان):

أحدهما: الذي يظهر من تصرف البخاري في كتاب (التوحيد)، أنه يسوق الأحاديث التي وردت في الصفات المقدسة فيدخل كل حديث منها في باب يؤيده بآية من القرآن بلا إشارة إلى خروجها من أخبار الآحاد، على طريق التنزل في ترك الاحتجاج بها في الاعتقادات، وأن من أنكرها خالف الكتاب والسنة جميعاً.

وقد أخرج ابن أبي حاتم في كتاب (الرد على الجهمية)، بسند صحيح عن سلام بن أبي مطيع وهو شيخ شيوخ البخاري أنه ذكر المبتدعة فقال: "ويلهم ماذا ينكرون من هذه الأحاديث والله ما في الحديث شيء إلا وفي القرآن مثله؛ يقول الله تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ {الحج:75} لاَّ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاء مِن دُوْنِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللّهِ فِي شَيْءٍ إِلاَّ أَن تَتَّقُواْ مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللّهِ الْمَصِيرُ {عمران:28}.

وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّماوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ {الزمر:67} تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ {ص:75} الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى {طه:5} ونحو ذلك فلم يزل - أي سلام بن أبي مطيع- يذكر الآيات من العصر إلى غروب الشمس" .

6- وللخطيب البغدادي كلام في مثل هذه المعنى يأتي نص كلامه قريباً إن شاء الله.

7-8 ومثله كلام للإمام أبي محمد أحمد بن عبدالله المفضلي المزني (356هـ). رواه عنه البيهقي بإسناده إليه، وأقره .

9- ولإمام الأئمة ابن خزيمة (311 هـ) كلام مهم أيضاً .

10- وقال ابن القيم: ولهذا كان أئمة السلف يذكرون الآيات ثم الأحاديث كما فعل البخاري ومن قبله ومن بعده، فإن الإمام أحمد وابن راهويه وغيرهما يحتجون على صحة ما تدل عليه أحاديث النزول والإتيان ونحوها بالقرآن .

الحاصل: أن أخبار الصفات الصحيحة يؤيدها كتاب الله، فهي تفيد العلم اليقيني ويثبت بها الاعتقاد.

الوجه الخامس:

أن نقول: إن أحاديث الصفات لو سلم أنها أخبارُ آحادٍ؛ لكن لا نسلم أنها ظنيةٌ لا تفيد اليقين ولا تثبت بها العقيدة.

لأنها ليست أخبار آحادٍ فقط مجردةً من قرائن الصحة، بل هي محتفة بالقرائن؛ ومن المعروف المقرر المعترف به، أن أخبار الآحاد المحتفة بقرائن الصحة مفيدة للعلم اليقيني النظري.

وقد صرح بهذا كبار أئمة الأمة، بما فيهم كثيرٌ من أساطين الماتريدية وعلى آخرهم الكوثري، وكثير من أئمة الأشعرية، بل بعض كبار المعتزلة؛ فنصوص هؤلاء حجة عليهم في باب الصفات.

وفيما يلي نماذج ممن صرح بكون الخبر المحتف بالقرآئن مفيداً للعلم اليقيني لتكون شاهدة لما قلنا وتقطع أعذار الماتريدية وتتم عليهم الحجة:

1- أبو إسحاق إبراهيم بن سيار النظام رأي المعتزلة (231هـ) .

2- الإمام الحافظ الخطيب البغدادي (463هـ) .

3- إمام الحرمين أبو المعالي عبدالملك الجويني (478هـ) .

4- الغزالي (505هـ) الذي يلقبونه بـ "حجة الإسلام وكلاهما من كبار أئمة الأشعرية" .

5- وفخر الدين الرازي فيلسوف الأشعرية (606هـ) .

6- سيف الدين الآمدي (631هـ) وهو من كبار أئمة الأشعرية .

7- الإمام جمال الدين أبي عمرو وعثمان بن عمرو المعروف بابن الحاجب (646) .

8- عضد الدين عبدالرحمن بن أحمد الإيجي من أئمة الأشعرية صاحب (الموقف) (756هـ) .

9- سعد الدين التفتازاني فيلسوف الماتريدية (792هـ) .

10- الحافظ ابن حجر العسقلاني (852هـ) ومفاد كلامه: أنه لا خلاف في هذه المسألة؛ لأن الخلاف فيها لفظي؛ لأن من قال: يفيد العلم، أراد العلم النظري، ومن أبى - خص بالمتواتر ولم ينف أن المحتف بالقرائن أرجح .

11- كمال الدين بن الهمام (861هـ) وهو من أكابر الحنفية والماتريدية .

12- وتلميذه ابن أمير الحاج الحنفي (879هـ) .

13- شمس الدين محمد بن عبدالرحمن السخاوي (902هـ) .

14- جلال الدين عبدالرحمن السيوطي (911هـ) .

15- محمد أمين المعروف "بأمير بادشاه" الحنفي (987هـ) .

16- العلامة أنور شاه الكشميري الحنفي الديوبندي (1352هـ) .

17- الكوثري مجدد الماتريدية (1371هـ).

وغيرهم ممن لا يحصون.

أنواع الأخبار المحتفة بالقرائن:

ذكر الحافظ ابن حجر أربعة أنواع للخبر المحتف بقرائن الصحة:

الأول: ما أخرجه الشيخان في (صحيحهما)، مما لم يبلغ حد الواتر ولم ينقده أحد من الحافظ ولم يقع التجاذب بين مدلوليه.

الثاني: المشهور إذا كانت له طرق متباينة سالمة من ضعف الرواة.

الثالث: المسلسل بالأئمة الحفاظ المتقنين حيث لا يكون غريباً، كالحديث الذي يرويه الإمام أحمد مثلاً، ويشاركه فيه غيره من الشافعي، ويشاركه فيه غيره عن مالك، فإنه يفيد العلم عند سماعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته.

الرابع: المتلقى بالقبول:

قال: "وهذا التلقي وحده أقوى من إفادته العمل من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر" .

قلت:

أما النوع الأول:

وهو الحديث المتفق عليه فقد صرح أهل هذا الشأن بأنه أعلى أقسام الصحيح؛ فيذكرون للحديث مراتب سبعاً:

الأولى: ما أخرجه الشيخان في (صحيحيهما).

الثانية: ما انفرد به البخاري.

الثالثة: ما انفرد به مسلم.

الرابعة: ما كان صحيحاً على شرطهما جميعاً.

الخامسة: ما كان على شرط البخاري.

السادسة: ما كان على شرط مسلم.

السابعة: ما كان صحيحاً، ولم يكن على شرط واحد منهما .

فهذا النوع من الأحاديث قد صرح جمع غفير من الجهابذة النحارير من المحدثين، ومن كبار أساطين المتكلمين من الماتريدية والأشعرية بأنها تفيد العلم اليقيني النظري.

فكيف يصح زعم الماتريدية: أن أحاديث الصفات أخبار آحاد ظنية؟

وفيما يلي نماذج من هؤلاء الأعلام:

1- أبو إسحاق إسماعيل بن محمد الأسفراييني الملقب بركن الدين (418هـ) فقد نقل على ذلك إجماع أهل الحديث فقال: "أهل الصنعة مجموعة على أن الأخبار التي اشتمل عليها "الصحيحان مقطوع بها عن صاحب الشرع" .

2- الإمام أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بشمس الأئمة السرخسي (483هـ) إمام الحنفية في وقته .

3- أبو عبدالله محمد بن أبي نصر الحميدي - صاحب (الجمع بين الصحيحين) (488هـ) .

4- الإمام أبو حامد الغزالي (505هـ) أحد كبار أئمة الأشعرية، ذكره الكوثري فيمن يقولون بإفادة أحاديث (الصحيحين) القطع.

5- الإمام أبو الفضل محمد بن طاهر المقدسي (507هـ) .

6- أبو نصر بن يوسف (هو عبدالرحمن بن عبدالخالق اليوسفي) (574هـ) .

7- الإمام الحافظ صدر الدين أبي طاهر أحمد بن محمد الأصفهاني السلفي (576هـ) .

8- الإمام أبو عمرو بن الصلاح (643هـ).

ونص كلامه: "وهذا القسم جميعه مقطوع بصحته والعلم اليقيني النظري واقع به...، لأن ظن من هو معصوم من الخطأ لا يخطئ والأمة في إجماعها معصومة من الخطأ، ولهذا كان الإجماع المبني على الاجتهاد حجة مقطوعاً بها، وأكثر إجماعات العلماء كذلك، وهذه نكتة نفيسة نافعة..." .

9- شيخ الإسلام (728هـ) وسيأتي نصه قريباً إن شاء الله تعالى.

10- الإمام ابن القيم (751هـ) .

11- الحافظ ابن كثير (774هـ).

ومن كلامه: "وأنا مع ابن الصلاح فيما عول عليه، وأرشد إليه" .

12- والإمام عمر بن رسلان البلقيني (805هـ) .

13- وأبو الفيض محمد بن محمد بن علي الفارسي المعروف بفصيح الهروي الحنفي (837هـ) .

ومن قوله: "ما روياه، أو واحد مقطوع بصحته، أي يفيد العلم القطعي نظراً لا ضرورةً..." .

14- الحافظ ابن حجر (852هـ).

قال: ".. منها ما أخرجه الشيخان في (صحيحهما) مما لم يبلغ حد المتواتر، فإنه احتفت به قرائن، منها: جلالتهما في هذا الشأن، وتقدمهما في تميز الصحيح على غيرهما، وتلقي العلماء لكتابيهما بالقبول، وهذا التلقي وحده أقوى في إفادة العلم من مجرد كثرة الطرق القاصرة عن التواتر، إلا أن هذا يختص بما لم ينقده أحد من الحفاظ مما في الكتابين، وبما لم يقع التجاذب بين مدلوليه مما وقع في الكتابين" .

15- والسخاوي (902هـ) .

16- والسيوطي (911هـ).

وقال: "وهو الذي اختاره، ولا أعتقد سواه" .

17- والعلامة محمد معين السندي الحنفي (1161هـ) فله بحث قيم في إفادة أحاديث (الصحيحين) القطع ودراسته تقمع الحنفية.

18- الإمام الشاة ولي الله الدهلوي إمام الحنفية في وقته (1176هـ).

فقد قال: "أما (الصحيحان) فقد اتفق المحدثون على أن جميع ما فيهما من المتصل المرفوع صحيح بالقطع، وأنهما متواتران إلى مصنفيهما، وأنه كل من يهون أمرهما فهو مبتدع متبع غير سبيل المؤمنين وإن شئت الحق الصراح فقسهما بكتاب ابن أبي شيبة وكتاب (الطحاوي) و(مسند الخوارزمي)، وغيرهما تجد بينها، وبينهما بعد المشرقين" .

وقال في الثناء على صحيح البخاري:

"ولعمري إنه نال من الشهرة، والقبول درجة لا يرام فوقها" وكم لهذا الإمام من نصوص تقطع دابر أصول الحنفية.

19- والأمير اليماني الصنعاني (1182هـ) .

20- والإمام الشوكاني (1250هـ) .

21- والحافظ المحدث أبي العلي محمد عبدالرحمن المباركفوري (1253هـ) .

22- ومحدث الشام العلامة جمال الدين القاسمي (1332هـ) .

23- والشيخ طاهر بن صالح الجزائري (1378هـ) .

24- العلامة محمد أنور شاه الكشميري الديوبندي الملقب بإمام العصر (1352هـ) الذي يعظمه الديوبندية والكوثرية غاية التعظيم، ونحن نسوق نصه بطوله لأهميته، ولمكانته عندهم إتماما للحجة وإيضاحا للمحجة.

قال رحمه الله: "القول الفصل في أن خبر (الصحيحين) يفيد القطع اختلفوا في أن أحاديث الصحيحين هل تفيد القطع أم لا؟

فالجمهور إلى أنها لا تفيد القطع، وذهب الحافظ رضي الله عنه إلى أنها تفيد القطع، وإليه جنح شمس الأئمة السرخسي رضي الله عنه من الحنفية، والحافظ ابن تيمية من الحنابلة، والشيخ أبو عمرو بن الصلاح رضي الله عنه، وهؤلاء وإن كانوا أقل عدداً إلا أن رأيهم هو الرأي.

وقد سبق في المثل السائر:
تعرينا أنا قليل عديدنا
فقلت لها: إن الكرام قليل

...فإن قيل: إن فيهما أخباراً آحاداً، وقد تقرر في الأصول أنها لا تفيد غير الظن.

قلت: لا ضير؛ فإن هذا باعتبار الأصل، وذاك بعد احتفاف القرائن، واعتضاد الطرق فلا يحصل القطع إلا لأصحاب الفن الذي يسر لهم الله سبحانه التمييز بين الفضة، والقضة ورزقهم علماً من أحوال الرواة، والجرح والتعديل، فإنهم إذا مروا على حديث وتتبعوا طرقه، وفتشوا رجاله، وعلموا حال إسناده - يحصل لهم القطع، وإن لم يحصل لمن لم يكن له بصر ولا بصيرة..؛

ألا ترى أن الواحد جليل القدر إذا أخبرك بأمر، فنظرت إلى حاله وثقته، وعلمه ودينه - أيقنت بخبره كفلق الصبح، ولا يبقى في نفسك قلق، واضطراب، وكفاك جماعة؛ فإن واحداً قد يزن جماعة بل يرجحهم، والآخر كريشة طائر لا يوازي جناح بعوضة، وإن إبراهيم كان أمة قانتاً، ومن أمته من يجيء يوم القيامة أمة وحده.

ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العالم في واحد
...، ولما كان هذا أمراً لا يسع إنكاره لأحد - جعل الحافظ هذا النزاع راجعاً إلى النزاع اللفظي، فلم يبق في نفس إفادة القطع خلاف، ولا شقاق، وإنما هو في أن تلك الإفادة بديهية، أو نظرية فمن ذهب إلى أنها تفيد القطع أراد به النظري، ومن أنكرها أراد به الضروري.

وهذا، فإنه تحقيق حقق بالقبول، ومن حاد عنه فقد عدل عن المسلك القويم" .

قلت: نص العلامة الكشميري هذا يستأصل مزاعم الماتريدية ولا سيما الكوثرية والديوبندية منهم.

25- والكوثري مجدد الماتريدية وإمامهم في وقته (1371هـ)، فقد اعترف في صدد إثبات نزول عيسى عليه السلام بأن أحاديث (الصحيحين) تفيد القطع. وهذا حجة عليه، وعلى الماتريدية في باب الصفات.

26- ومحدث مصر، العلامة أبو الأشبال أحمد بن محمد شاكر (1377هـ) .

27- والعلامة محمد إسماعيل السلفي (1387هـ) فله خدمة مشكور عليها في هذا الباب .

28- والدكتور خليل ملا خاطر "من المعاصرين" له عمل عظيم في الذب عن مكانة (الصحيحين)، وله بحث قيم في إفادة أحاديث (الصحيحين) القطع وهذا الكتاب عديم النظير لقلع نسج متعصبة الحنفية.

قلت: الحاصل أن أحاديث (الصحيحين) تفيد العلم القطعي بشهادة من ذكرنا وفيهم كبار أعيان الحنفية الماتريدية الديوبندية منهم، والكوثرية، وغيرهم.

بل ثبت بلسان الحافظ ابن حجر، والعلامة الكشميري الديوبندي أن هذه المسألة لا خلاف فيها: فمن أثبت العلم القطعي - أراد النظري، ومن نفى ذلك أراد البديهي ولم ينف النظري.

تنبيه مهم:

لقد تبين مما سبق من علو مكانة (الصحيحين) وأن أحاديثهما تفيد القطع، وأنها أصح الصحاح.

إذا تقرر هذا علم أن أحاديث (الصحيحين) مقدمة على غيرها عند التعارض ولا أعلم في هذا خلافاً لأحد إلا لمتأخري الحنفية، فقد قالوا عدم ترجيح أحاديث (الصحيحين) عند التعارض على غيرها، وذلك لأنهم يعلمون جيداً أن مذهبهم مخالف لكثير من أحاديث (الصحيحين)، فوضعوا هذا الأصل ليخرجوا بهذا عن هذا المضيق؛ فقالوا: لا ترجيح لأحاديث (الصحيحين) عند التعارض بل - يجوز أن يقدم حديث آخر على حديث (الصحيحين).

وأول من وضع هذا الأصل - فيما أعلم- من الحنفية هو الإمام ابن الهمام (861هـ) ثم تابعه الحنفية، ولا سيما الديوبندية منهم، والكوثرية .

قلت: وهذا الأصل الفاسد مبني على أصلهم الآخر أفسد منه، وهو: أن للحنفية أصولاً وقواعد في تصحيح الحديث وتضعيفه، كما أن للمحدثين قواعد، فرب حديث ضعيف عند المحدثين صحيح عند الحنفية، وبالعكس فلا لوم على الحنفية إذا خالفوا بعض الأحاديث .

قلت: هذا الذي عرضناه من مكانة أحاديث (الصحيحين)، وأنها مما احتف بالقرائن، وأنها تلقتها الأمة بالقبول، وأنها تفيد العلم القطعي اليقيني - على لسان كبار أئمة الحنفية، وغيرهم - يقطع دابر هذا الأصل الفاسد، ولقد تصدى للرد على هذا الأصل المحدث المباركفوري (1253هـ) .

قلت: ويكفي لرد مزاعمهم في تقديم حديث خارج (الصحيحين) على أحاديثهما ورد أحاديث (الصحيحين) بذلك دفاعاً عن مذهبهم - ما قاله الأستاذ أبو إسحاق الأسفراييني الملقب بركن الدين (418):

"أهل الصنعة مجمعون على أن الأخبار التي اشتمل عليها (الصحيحان) مقطوع بصحة أصولها، ومتونها ولا يحصل الخلاف فيها بحال، وإن حصل فذاك اختلاف في طرقها، ورواتها".

قال: "فمن خالف حكمه خبراً منها، وليس له تأويل سائغ للخبر نقضنا حكمه، لأن هذه الأخبار تلقتها الأمة بالقبول" .

قلت: لكثير من متعصبة الحنفية موقف مذموم من (الصحيحين) وفي قلوبهم حزازة منهما يبدو أثرها بين حين وآخر، وما تخفي صدورهم أكبر؛ ولكن كتابي (الدراسات) و (المكانة) قضاء عليهم .

وللحنفية عدة أصول باطلة فاسدة حماية للمذهب يحتاج إبطالها إلى كتاب مستقل ولي في ذلك كتاب ،، علًة يفتح لإخراجه باب ،،

وأما النوع الثاني:

من المحتف بالقرائن - وهو المسلسل بالأئمة - فقد حكى السهيلي إفادته العلم اليقيني عن بعض الشافعية .

وحكاه الشيخ أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي (476هـ) عن بعض المحدثين .

قلت: وجزم به الحافظ ابن حجر حيث قال: "فإنه يفيد العلم عند سامعه بالاستدلال من جهة جلالة رواته، وأن فيهم من الصفات اللائقة الموجبة للقبول ما يقوم مقام العدد الكثير من غيرهم..." .

قلت: وإلى هذا يشير كلام العلامة الكشميري الديوبندي حيث يقول: "فإن واحداً قد يزن جماعة بل يرجحهم...؛
ليس على الله بمستنكر
أن يجمع العلام في واحد
وأما النوع الرابع:

من المحتف بالقرائن - وهو المتلقى بالقبول - فهذا النوع بمدلوله أعم من الأنواع الثلاثة الأولى فهو يشملها جميعاً سواء كان في (الصحيحين) أو كان مشهوراً، أو كان مسلسلاً بالأئمة، فهو يفيد العلم اليقيني القطعي النظري، وهو مذهب كثير من أهل الكلام من المعتزلة، والماتريدية والأشعرية ومذهب أهل الحديث قاطبة والسلف عامة، وهو مذهب عامة المحققين من كبار أئمة الحنفية، والمالكية والشافعية، والحنابلة، ولم يخالف في ذلك إلا شرذمة قليلة من المتأخرين تبعاً لبعض المتكلمين، فلا عبرة بهم، كما صرح به شيخ الإسلام وغيره .

ولا شك أن أحاديث الصفات لا تخلو من هذا النوع فهي مفيدة للعلم القطعي اليقيني فكيف يصح دعوى الماتريدية وغيرهم من المتكلمين: أنها أخبار آحاد، لا تفيد إلا الظن؟.

وفيما يلي عرض بعض نصوص العلماء إتماماً للحجة وإيضاحاً للمحجة وقطعا لأعذار الماتريدية وإلقامهم الأحجار.

1- الإمام عيسى بن أبان (221هـ) وهو من كبار أئمة الحنفية الأوائل فقد حكي عنه أنه قال:

"خبر الواحد إذا عمل عليه أكثر الصحابة وعابوا من لم يعمل به يقطع به" .

2- أبو هاشم عبدالسلام بن محمد الجبائي الحنفي، إمام الهاشمية من المعتزلة (321هـ) .

3- أبو الحسن عبيد الله بن الحسن الكرخي أحد كبار أئمة الحنفية (340هـ) .

4- وقال الإمام أبو بكر بن علي الجصاص إمام الحنفية في وقته (370هـ) .

عند الكلام حول حديثين في طلاق الأمة، وعدتها:

"وقد استعملت الأمة هذين الحديثين في نقصان العدة - وإن كان وروده من طريق الآحاد - فصار في حيز التواتر، لأن ما تلقاه الناس بالقبول من أخبار الآحاد فهو عندنا في معنى المتواتر لما بيناه في مواضع" .

5- الإمام أبو بكر بن فورك (406هـ) من كبار أئمة الأشعرية - فقد حكى عنه إمام الحرمين أنه قال:

"الخبر الذي تلقته الأئمة بالقبول محكوم بصحته... وإن تلقوه بالقبول قولاً وقطعاً حكم بصدقه" .

6- أبو إسحاق إبراهيم بن محمد الأسفراييني الملقب بركن الدين (418هـ) فقد حكى عنه إمام الحرمين:

"أن ما اتفق عليه أئمة الحديث مستفيض وهو قسم آخر بين المتواتر وبين خبر الواحد، وأنه يقيني العلم نظراً" .

7- وقال أبو الحسين محمد بن علي بن الطيب البصري الحنفي المعتزلي (436هـ):

"فأما خبر الواحد إذا أجمعت الأمة على مقتضاه، وحكمت بصحته، فإنه يقطع على صحته، لأنها لا تجمع على خطأ" .

8- وقال الخطيب البغدادي (463هـ): ".. وقد يستدل على صحته بأن يكون خبراً عن أمر اقتضاه نص القرآن، أو السنة المتواترة، أو أجمعت الأمة على تصديقه، أو تلقته بالقبول وعملت بموجبه" .

9- أبو إسحاق إبراهيم بن علي الشيرازي أحد الأئمة الشافعية (476هـ)

قال: "... خبر الواحد الذي تلقته الأمة بالقبول، فيقطع بصدقه سواء عمل الكل به أو عمل البعض، وتأويله البعض، فهذه الأخبار توجب العمل، ويقع العلم بها استدلالاً" .

10- الإمام أبو بكر محمد بن أحمد المعروف بشمس الأئمة السرخسي (483هـ) أحد أكابر أئمة الحنفية.

11- وللإمام أبي المظفر منصور بن محمد السمعاني (489هـ) جد صاحب الأنساب: كلام في غاية الأهمية في قبول خبر الواحد في العقيدة، وأن الخبر إذا صح ورواه الثقات وتلقته الأئمة بالقبول فهو يوجب العلم اليقيني وهذا قول عامة أهل الحديث وخلاف ذلك قول أهل البدعة، وقد ذكرنا نص كلامه.

12- وقال الإمام محفوظ بن أحمد الكلوذاني من أئمة الحنابلة في وقته (510هـ):

"فأما خبر الواحد إذا أجمعت الأمة على حكمه وتلقته بالقبول..

فظاهر كلام أصحابنا: أنه يقع به العلم.." .

13-18 وقال شيخ الإسلام (728هـ):

"... فإن جمهور ما في البخاري ومسلم مما يقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: لأن غالبه من هذا النحو؛ ولأنه قد تلقاه أهل العلم بالقبول، والتصديق؛ والأمة لا تجتمع على خطأ؛ فلو كان الحديث كذباً في نفس الأمر - والأمة مصدقة له قابلة له - لكانوا قد أجمعوا على تصديق ما هو في نفس الأمر كذب؛ وهذا إجماع على خطأ، وذلك ممتنع".

وقال: "ولهذا كان جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً - إذا كان في الاعتقاد - أو عملاً - إذا كان في الأحكام - أنه يوجب العلم، وهذا هو الذي ذكره المصنفون في أصول الفقه من أصحاب أبي حنيفة، ومالك والشافعي وأحمد.

إلا فرقة قليلة من المتأخرين اتبعوا في ذلك طائفة من أهل الكلام أنكروا ذلك، ولكن كثيراً من أهل الكلام، أو أكثرهم يوافقون الفقهاء، وأهل الحديث والسلف على ذلك، وهو قول أكثر الأشعرية، كأبي إسحاق، وابن فورك.

وأما ابن الباقلاني: فهو الذي أنكر ذلك، وتبعه مثل أبي المعالي وأبي حامد وابن عقيل، وابن الجوزي، وابن الخطيب، والآمدي ونحو هؤلاء.

والأول هو الذي ذكره الشيخ أبو حامد، وأبو الطيب، وأبو إسحاق، وأمثاله من الشافعية، وهو الذي ذكره القاضي عبدالوهاب، وأمثاله من المالكية.

وهو الذي ذكره شمس الدين السرخسي، وأمثاله من الحنفية.

وهو الذي ذكره أبو يعلى وأبو الخطاب، وأبو الحسن بن الزاغروني، وأمثالهم من الحنبلية.

إذا كان الإجماع على تصديق الخبر موجباً للقطع فالاعتبار في ذلك بإجماع أهل العلم بالحديث كما أن الاعتبار في الإجماع على الأحكام بإجماع أهل العلم بالأمر والنهي والإباحة..." .

19-23- قلت: قد قتل كلام شيخ الإسلام هذا جماعة من العلماء وأقروه: كالإمام ابن القيم (751هـ) ، والحافظ ابن كثير (774هـ) ، والإمام عمر بن رسلان البلقيني (805هـ) .

والحافظ ابن حجر (852هـ) والسخاوي (902هـ) والسيوطي (911هـ) ، والعلامة محمد بن أحمد الفتوحي الحنبلي المعروف بابن النجار (972هـ) والأمير الصنعاني (1182هـ) ، وجمال الدين القاسمي (1332هـ) ، وطاهر بن صالح الجزائري (1338هـ) .

والكوثري مجدد الماتريدية وإمامهم في وقته (1371هـ) ذكر نص كلام شيخ الإسلام، ولكن لشدة عدائه إياه، لم ينسبه إليه، والعلامة محمد إسماعيل السلفي (1387هـ) ، والشيخ أحمد بن محمد شاكر (1377هـ) .

والدكتور خليل إبراهيم ملا خاطر (أشعري العقيدة)، فقد ألف كتابه العظيم (مكانة الصحيحين) أجاد فيه وأفاد، وذكر كلام شيخ الإسلام ثم قال: "وهذا الذي قاله كلام نفيس، ومهم يعبر عن نظرةٍ بعيدةٍ، وسير لأسانيد وروايات طرق الأحاديث" .

33- وللإمام ابن أبي العز الحنفي (792هـ) بحث قيم في الأخذ بأخبار الآحاد في العقيدة، وأن الخبر المتلقى بالقبول من قسم المتواتر، وأنه لا نزاع فيه عند السلف .

34- الشيخ أبو غدة الكوثري، فقد نقل عن الإمام الشافعي، والسخاوي: أن الحديث الضعيف إذا تلقته الأمة بالقبول ينزل منزلة المتواتر في أنه ينسخ به المقطوع .

قلت: إذا كان الحديث الضعيف يرتفع إلى منزلة المتواتر بمجرد التلقي فما ظنك بأحاديث الصفات المتواترة، والمشهورة والمتفق عليها، المتلقاة بالقبول، المحتفة بالقرائن؟ وفي هذا كله عبرة للماتريدية أيما عبرة.

خاتمة هذا الوجه:

35- لما كان الكوثري يعدّ إماماً للماتريدية؛ بل مجدداً لهم في وقته، ولاسيما للكوثرية منهم، والديوبندية أردت أن أختم هذا الوجه بنصوص الكوثري التي اعترف فيها بالحق لما رأى وسمع أن أعداء الإسلام احتجوا بقاعدة المتكلمين - من أن خبر الواحد ظني لا يثبت به العقيدة- على إنكار نزول عيسى عليه السلام .

فتصدى لهم الكوثري، وألف في الرد عليهم كتاباً بعنوان (نظرة عابرة) أجاد فيه وأفاد، ورد على تلك القاعدة الفاسدة للمتكلمين من أن أخبار الآحاد لا تفيد اليقين، ولا تثبت بها العقيدة - ولكن هذا الكتاب كله حجة عليه، وعلى الماتريدية في باب الصفات وهذا تناقض.

وهذه بعض نصوص الكوثري:

(من قال: "إن خبر الآحاد لا يفيد العلم" يريد خبر الآحاد من حيث هو بالنظر إلى رأي جماعة، وإلا فخبر الآحاد الذي تلقته الأمة بالقبول، يقطع بصدقه، كما نص على ذلك أبو المظفر السمعاني في (القواطع) ؛

وقد حكى السخاوي في (فتح المغيث) عن جماعة من المحققين إفادة خبر الآحاد العلم عند احتفافه بالقرآن، بل قال جماعة: إن ما اتفق عليه البخاري ومسلم يفيد - في غير مواضع النقد منه - العلم؛ لاحتفافه بالقرائن، ومنهم الغزالي).

وقال: "وأين اجتماع نصوص العلماء مع قول أمثال أبي حامد الأسفراييني، وأبي إسحاق الأسفراييني، والقاضي أبي الطيب، وابي إسحاق الشيرازي، وشمس الأئمة السرخسي، والقاضي عبدالوهاب، ورواية ابن خويز منداد عن مالك، وقول أبي يعلى وأبي الخطاب، وابن الزاغوني، وابن فورك، وغيرهم فيما اتفق عليه البخاري ومسلم، وفي الخبر المحتف بالقرائن" .

وقال: (بل جمهور أهل العلم من جميع الطوائف على أن خبر الواحد إذا تلقته الأمة بالقبول تصديقاً له، أو عملاً به أنه يوجب العلم كما تجد تفصيل ذلك في (توجيه النظر) في ص: 134" .

قلت: كلام الكوثري هذا حق لا ريب فيه غير أنه لم يقتصر على مسألة "نزول عيسى عليه السلام" فقط، بل هو شامل لجميع الأحاديث الواردة في جميع الأبواب، ومنها باب صفات الله تعالى، فكلام الكوثري هذا حجة عليه خاصة، وعلى الماتريدية عامة كما هو حجة على منكري نزول عيسى عليه السلام، وغيرهم من الملحدين في أسماء الله وصفاته.

وقال الكوثري: "ونحن نسمع من فلتات ألسنة دعاة هذه النعرة بين حين، وآخر تهوين أمر أخبار الآحاد الصحيحة من السنة..،..، فبتهوين أمر أخبار الآحاد يتخلصون من كتب السنة، من صحاح، وسنن وجوامع ومصنفات، ومسانيد، وتفاسير بالرواية، وغيرها...؛

فهل يسلك مثل هذه السبيل من سبل الشيطان غير صنائع أعداء الإسلام؟ على أن أخبار الآحاد الصحيحة قد يحصل بتعدد طرقها تواتر معنوي؛ بل قد يحصل العلم بخبر الآحاد عند احتفافه بالقرائن؛ بل يوجد بين أهل العلم من يرى أن أحاديث الصحيحين - غير المنتقدة - من تلك الأحاديث المحتفة بالقرائن" .

قلت: أول من استخف بالأحاديث النبوية واستهان بأمرها هم هؤلاء المتكلمون - أئمة الكوثري وهو منهم - في باب الصفات - فهم قدموا عليها عقولهم الفاسدة وردوها أو حرفوها وعلى كل حالٍ كلام الكوثري هذا حجة عليه وعلى الماتريدية في باب الصفات وهذا تناقض واضح فاضح.

الحاصل: أن أحاديث الصفات لو سلمنا أنها أخبار آحادٍ لكنها محتفة بالقرائن مفيدةٌ للعلم القطعي بشهادة أئمة الإسلام، وكبار المتكلمين من المعتزلة والماتريدية والأشعرية، أولهم النظام، وآخرهم الكوثري.
ولكن الكوثري مع تناقضه الفاضح
شهد على نفسه ببيانه الواضح
فكان كعنز السوء قامت لظلفها
إلى مدية تحت التراب تثيرها
الوجه السادس:

لو سلمنا أن أحاديث الصفات أخبار آحاد مجردة، وسلمنا أيضاً أنها غير محتفة بالقرائن، وسلمنا أيضاً أنها لا تفيد اليقين ولا تفيد إلا العمل فقط، لكن لا نسلم أن لفظ "العمل" مقصور بعمل الجوارح فقط. بل المراد من "العمل" أعم من "عمل الجوارح" فيشمل "عمل القلب"، فيصح الاحتجاج بخبر الواحد في باب الاعتقاد؛ لأنه من "عمل القلب"، وهذا كله بشهادة كبار الماتريدية واعترافهم بما فيهم الكوثري.

فكيف يصح إبعاد أخبار الآحاد عن حيز الاحتجاج بها في باب العقيدة؟.

وكيف يصح زعمهم أنها ظنية لا تثبت بها العقيدة؟.

هذا كله على فرض تسليم أنها ظنية كفرض المحال، مع أنها متواترة، ومشهورة، ومحتفة بالقرائن، ومتفق عليها، متلقاة بالقبول، مفيدة للعلم القطعي يصح الاحتجاج بها في الاعتقاد والأحكام جميعاً بإجماع السلف، ونصوص كبار المتكلمين من المعتزلة، والماتريدية والأشعرية كما سبق، فهي أحد مصدري تلقي العقيدة في دين الإسلام.

وإليك بعض نصوص الماتريدية في أن "العمل" أعم من "عمل الجوارح" فيشمل "عمل القلب" فيصح الاحتجاج بخبر الواحد في باب الاعتقاد؛ لأنه من عمل القلب؛ فأقول وبالله التوفيق:

لقد تصدى الكوثري للرد على مزاعم منكري نزول عيسى عليه السلام الذين تمسكوا بقاعدة فاسدة باطلة وضعها المتكلمون من أن أخبار الآحاد ظنية لا تثبت بها العقيدة؛ فقالوا: "إن أحاديث نزول عيسى عليه السلام أخبار آحاد ظنية لا تثبت بها العقيدة، ولا تصلح إلا للأحكام العملية". إلزاماً للمتكلمين واحتجاجاً عليهم.

فرد عليهم الكوثري ردوداً عدة:

منها أن المراد من العمل في كلام المتكلمين: "أن أخبار الآحاد لا تصلح إلا للعمل" أعم من "عمل الجوارح" فيشمل "عمل القلب" وهو الاعتقاد.

فيقول الكوثري: (قال علاء الدين عبدالعزيز بن أحمد البخاري في شرح أصول فخر الإسلام البزدوي: "اعتقاد القلب فضل على العلم، لأن العلم قد يكون بدون عقد القلب، كعلم أهل الكتاب بحقيقة النبي صلى الله عليه وسلم، مع عدم اعتقادهم حقيقة..، والعقد قد يكون بدون العلم أيضاً كاعتقاد المقلد، وإذا كان كذلك جاز أن يكون خبر الواحد موجباً للاعتقاد الذي هو عمل القلب، وإن لم يكن موجباً للعلم.

قال أبو اليسر: "الأخبار الواردة في أحكام الآخرة من باب العمل فإن العمل نوعان: عمل الجوارح، واعتقاد القلب، فالعمل بالجوارح إن تعذر لم يتعذر العمل بالقلب اعتقاداً".

وذلك عند شرحه لقول فخر الإسلام "وفيه ضرب من العمل أيضاً، وهو عقد القلب عليه، إذ العقد فضل عليه".

فظهر أن خبر الآحاد الصحيح قد يفيد اعتقاداً جازماً في أناس، ولا يفيد البرهان العلمي اعتقاداً في آخرين، فواحد يعتقد اعتقاداً جازماً بنزول عيسى عليه السلام بمجرد أن سمع حديثاً واحداً في ذلك من صحيح البخاري مثلاً، وآخر لا يعتقد ذلك ولو أسمعته سبعين حديثاً، وثلاثين أثراً من الصحاح والسنن والمسانيد والجوامع وسائر المدونات في الحديث مما يحصل التواتر بأقل منها بكثير، فالناجي هو ذاك الواحد دون الآخر) .

ويقول الكوثري أيضاً: (والواقع أن من قال: "إن خبر الواحد يفيد العمل فقط". يريد بالعمل ما يشمل عمل الجوارح، وعمل القلب - وهو الاعتقاد، كما نص على ذلك البزدوي نفسه حيث قال في آخر مبحث الآحاد: "فأما الآحاد في أحكام الآخرة فمن ذلك ما هو مشهور، ومن ذلك ما هو دون ذلك، لكنه يوجب ضرباً من العلم على ما قلنا، وفيه ضرب من العمل أيضاً، وهو عقد القلب...، فصح الابتلاء بالعقد كما صح الابتلاء بالعمل بالبدن".

وبذلك يعلم وجه تدوين أخبار الآحاد في كتب الحديث في المغيبات، وأمور الآخرة...؛

فالآن قد ظهر من يفهم معنى العقيدة، ومن لا يفهمه حقاً، ومن تزبب قبل أن يتحصرم يلقى ما يلقاه من تزعم قبل أن يتعلم..) .

وقال الكوثري أيضاً: (والاعتقاد عمل قلبي يؤخذ من خبر الآحاد، كما سبق من فخر الإسلام، فيكون إنكار أخذ الاعتقاد من خبر الآحاد إنكاراً للدليل العقلي المفيد للعلم الموجب للعمل بخبر الآحاد أعم من أن يكون عمل الجوارح، وعمل القلب - وهو الاعتقاد -.. ؛

فيعلم أن حفاظ الأمة ما كانوا عابثين في تدوينهم لأخبار الآخرة، والأمور الغيبية في كتبهم، ولا كان الأئمة لاعبين في تدوينهم السمعيات في كتب العقائد) .

قلت: نعمد إلى حجة الماتريدية والكوثري هذه - التي احتجوا بها على منكري نزول عيسى عليه السلام - فنقلبها حجة على الكوثري خاصة والماتريدية عامة، فنقول: لو سلمنا أن أحاديث الصفات أخبار آحاد مجردة، ظنية، لا تفيد إلا العمل، لكن نقول: إن العمل نوعان: عمل الأركان، وعمل الجنان؛ فهي تفيد عمل الجنان، وهو الاعتقاد، فصح أخذ العقيدة من أخبار الآحاد؛ وخبر الآحاد الصحيح قد يفيد اعتقاداً جازماً لأناس بقوا على فطرتهم السليمة؛ فإن أحدهم إذا سمع حديثاً واحداً من صحيح البخاري في صفات الله تعالى اعتقده اعتقاداً جازماً.

أما الذين زاغت قلوبهم، وفسدت فطرهم، وعقولهم بالفلسفة والكلام فإن أحدهم لو أسمعته سبعين حديثاً، وثلاثين أثراً من الصحاح، والسنن لا يحصل لهم شيء من العلم بل ربما يردها أو يحرفها.

فالآن قد ظهر من يفهم معنى العقيدة فهماً صحيحاً، ومن تزبب قبل أن يتحصرم يلقى ما يلقاه من تزعم قبل أن يتعلم كما تبين أن أئمة السنة وحافظ الأمة ما كانوا عابثين ولا لاعبين في تدوينهم لأحاديث الصفات وغيرها في كتب العقائد، ولله الحمد والمنة،، على أن هدانا إلى السنة،، وله الشكر على أن قتل الكوثري سلاح لسانه، وسيف بيانه وسكين بنانه،، ورده بغيظه برد كيده في نحره،، وهتك مكره وأمره بعجره وبجره،، فهو متناقص مفضوح صريح قتيل ذليل،، بقاله هذا وقيله الآتي عما قليل،،
أرادوا بنا كيداً فكيدوا بكيدهم
وزلوا فضلوا لم يجدوا مواليا

المراجع

[http://www.dorar.net/enc/firq/530 موسوعة الدرر السنية ]

التصانيف

تصنيف :عقيدة