قد يسافر المرء حول العالم، فيرى من جمال الخضرة، و ترقرق الماء و مباهج الحياة ما يسعد العقل و القلب، و لكن المرء لا يبلغ السعادة الحقيقية إلاّ برحلة يغذي فيها الروح و الجسد، يكاد فيها لفرط شوقه يسبق الطائرات و المركبات، و كأنه ترك روحه في ذلك المكان و هو عائد للاجتماع بها، ينسى المسافر في رحلة العمرة و الحج كل متاعب السفر و مشقة الرحلة و مقارعة البشر؛ فهو ذاهب للتطهير من كل أدران الحياة، ينتظر تلك اللحظة التي تكتحل فيها عيناه بالبيت الحرام و روضة المصطفى صلى الله عليه و سلم، فيبلغ قدر التشريف و المهابة و الجلال الذي يدعو به كل من يزور المسجد الحرام "اللهم زدْ هذا البيت تشريفاً وتعظيماً وتكريماً ومهابة وأمناً، وزدْ من شرفه وكرمه ممن حجه أو اعتمره تشريفاً وتكريماً وتعظيماً وبِراً".

هي رحلة يقطع لها البعض أكباد الإبل محبة و طوعاً و كرامة؛ فالمسافة لا تشكل عائقاً في قاموس المرتحل، و في سالف الزمان كان الحاج يُوَدّع كأنه لن يرجع بسبب مخاطر الطريق و طول مدة السفر، و لم يكن ذلك يثني الراغبين و المقبلين.

و نحن النساء لنا وضع خاص؛ فالمشاعر عندنا فياضة، و بمجرد نية العمرة أو الزيارة تجد القلوب قد حنت و العيون قد ذرفت، و الأرواح و الأبدان قد استعدت، و لكننا للأسف إذا وصلنا الحرمين وجدنا من التضييق ما يجعلنا نحس أننا أقل بشرية و إيماناً و عملاً و أجراً

نقطع المسافات لتقرّ عيوننا برؤية الكعبة المشرفة، فنمنع من الصلاة أمامها، و نوضع في شبه قفص بعيداً عنها و عن صحن الكعبة الكعبة التي يجب ألاّ تفارق ناظرينا حتى نستحق فضل الرحمات و الأجور التي خصصها الله للناظرين لا نكاد نراها إلاّ إذا أردنا الطواف و الحجة درء المفاسد و ستر النساء عن أعين الرّجال و السؤال: أليس هذا موطن الستر؟ و إذا لم يكن الستر في بيت الله الحرام فأين نجده؟ هل يعقل أن تحس النساء في بيت الله الحرام أنهن لسن أكثر من عورة يجب سترها حيث الستر الحقيقي هو أكثر من حجاب خارجي و حجز و سجن في مواضع معينة، بل لباس تقوى، و باطن إنابة و إخبات، و ترّفع عن محارم الله هي جميعها أساس المفاضلة بين عباد الله رجالا و نساء؟ هل يُعقل أن تحس المرأة أنها أمام الله أقل درجة من الرجال في التكليف و الأجر بسبب جنسها الذي لم تملك الخيار فيه

عندما أمرنا رسول الله -صلى الله عليه و سلم- ألاّ نمنع إماء الله مساجد الله هل قُيّد الأمر بشروط غير الأمان و لزوم المرأة لحجابها؟ ألا تسقط بعض اعتبارات منع الاختلاط و مفاسده في هذا المكان فيطوف الرجال بجانب النساء دون التفات إلى شهوات الجسد؟ فالمقام مقام تقوى لا مقام دنيا، و الكل متوجه الى الله بكليته ينادي: نفسي نفسي طلباً للهداية و الرحمة و المغفرة.

قد يكون في المكان بعض ضعاف النفوس، و لكن هل يُعطى ضعاف النفوس المجال للتأثير على القوانين و التشريعات، فيُؤخذ البار بذنب الفاجر، و يُؤخذ بسوء الظن لا حسنه في أطهر بقاع الأرض؟

إن السوءة و العورة الوحيدة التي يجب أن يلتفت إليها من يحجرون على النساء في الحرمين هي سوءة الذنوب و التي هي أصل الفواحش؛ فقد نزع الله عن آدم و حواء الستر لما عصيا الله، و سُترا بعد الاستغفار عن الذنب و التوبة.

إن كل من يفد على الله في بيته الحرام رجالاً و نساء يأتي و قد كشفته الذنوب، و فضحته فيما بينه و بين الله، يأتي ليطلب الستر، لذا كان من مأثور الدعاء "اللهم استرنا فوق الأرض، و تحت الأرض، و يوم العرض عليك" و الرجال و النساء في ذلك سواسية.

إن الحجاب الذي تلبسه الكثير من المسلمات عن قناعة و ليس فقط زياً خارجياً تتنوع أشكاله بشرط ألاّ تختلف صفاته من ألاّ يصف و لا يشف، و لا يكون لباس شهرة. إنه مع هذه كلها حجاب عن الخضوع بالقول، حجاب عن الاختلاط في غير داع، حجاب يحفظ الحرمات و العورات و الأسرار التي سترها الله؛ فقد مدح الله المؤمنات بقوله: (فَالصَّالِحَاتُ قَانِتَاتٌ حَافِظَاتٌ لِّلْغَيْبِ بِمَا حَفِظَ اللّهُ).

إن الحجاب ما لم يكن لباس تقوى في القلب، و لباس ستر للجسد، و لباس قناعة في العقل لن يستر امرأة لا تريد الستر، و ستبقى عورة ظاهرة و لو لبست من الثياب أذرعاً و حُبست وراء الجدران.

و الأمر ليس أحسن حالاً في روضة المصطفى؛ فبينما هي مفتوحة للرجال على مصراعيها في معظم الأوقات، تُفتح في أوقات قليلة و مساحات محددة للنساء، و يحتاج الوصول إليها الفوز بسباق ماراثوني و دفس و رفس كل من يعترض طريقنا، و هذا يتنافى مع أخلاق الرحمة و خلق عباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هوناً، و قد كان الصحابة -رضوان الله عليهم- لا يرفعون صوتاً في حضرة الرسول، و نحن نصيح و نتسابق حتى ندرك موضع قدم لنصلي في الروضة.

هذه الروضة التي هي من رياض الجنة ندخلها و قد قُطعت أنفاسنا من كثرة الركض، و نصلي فيها و نحن نُدفع يمنة و يسرة، و قد تُداس رؤوسنا بالأقدام بسبب الاكتظاظ و الدفع، كان من النساء الكثيرات من كبيرات السن اللواتي لا يستطعن المشي إلاّ قليلاً، و كان الوصول شبه مستحيل عليهن، فجلسن في زاوية يذرفن الدموع على العجز و الكبر، إيمان العجائز الذي دعا الصالحون بمثله قعد بهن في عصرنا الذي يُضيق فيه على المرأة، و تُحرم من بلوغ روضة الحبيب، و أيضاً في هذه الحالة من ضيق المكان و الوقت ما يُحمّل كل النساء وزر بعض المخطئات و متبعات البدع.

إن سياسة التعامل و قوانين الحرمين لا يجب أن تخضع لآراء حركة دينية واحدة مهما كان فضلها الإصلاحي على الإسلام، بل عليها أن تتبع سيرة محمد -صلى الله عليه و سلم- الذي لم يؤخّر النساء لا في حل أو ترحال، أو حرب أو سلم، بل كانت صفوف النساء في المسجد تلي صفوف الرجال، و كانت النساء يخرجن للمسجد و الصلوات، و ما مُنعن من ذلك لأنهن إناث أو عورة يجب إخفاؤها.

قد نلتمس العذر نحن المسلمات أباً عن جد، و قد نفهم الحال و المقاصد العليا، و لكن ماذا عن الأجنبيات اللواتي أسلمن حديثاً و المسلمات اللواتي التزمن حديثاً بالدين القادمات من مجتمعات المرأة فيها في الصفوف الأولى و مراكز القيادة؟ هل نقول لهن الاسلام يؤخركن حتى بين يدي الله، و في بيته الحرام، و مسجد نبيه؟

معاذ الله أن نخرج على الشرع كما فعلت بعض النساء بالمطالبة بمنازعة الرجال الإمامة، و لكننا نعلم أن الله أمرنا بالحجاب، و ليس بالاحتجاب، و الفارق بينهما كبير؛ فالحجاب حفظ و كرامة و تشريف، و الاحتجاب حجر و انتقاص و عزل.

النساء لسن عورة، و لسن أقل درجة أو استحقاقاً أمام الله، و صدق سبحانه: (مَنْ عَمِلَ صَالِحاً مِّن ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُم بِأَحْسَنِ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ).


المراجع

موسوعة نسيج

التصانيف

اسلام   الدّيانات   العلوم الاجتماعية