إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا وسيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له. وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبدالله ورسوله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن سار على دربهم بإحسان إلى يوم الدين.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلاَ تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَأَنتُم مُّسْلِمُونَ) {آل عمران:102}.
(يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَن يُطِعْ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزاً عَظِيماً) {الأحزاب:70-71}.
ثم أما بعد، عباد الله:
عن أبي ذر رضي الله عنه قال: (يا رسول الله ! أيّ مسجد وضع في الأرض أوّل ؟ قال: المسجد الحرام. قال: ثمّ أيّ ؟ قال: المسجد الأقصى. قال: كم بينهما ؟ قال: أربعون سنة) { متفق عليه }. إن أوّل مسجد وضع على وجه هذه الأرض هو الكعبة المشرفة (إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبَارَكاً وَهُدًى لِّلْعَالَمِينَ) {آل عمران:96}. وثاني المساجد هو المسجد الأقصى، الأقصى معناه البعيد، وسُمي أقصى لأنه بعيد عن مكة، بينه وبين مكة مسافة بعيدة، أو لأنه أبعد المساجد في ذلك الوقت، أو لأنه بعيد عن الأقذار والنجاسات فهو مسجد مقدّس مطهّر، لذلك سُمي المسجد الأقصى.
هو ثاني المساجد التي وضعت على وجه هذه الأرض، وذلك أن آدم عليه السلام كان أول من بنى الكعبة المشرفة، ثم بعد بنائها بأربعين سنة بنى المسجد الأقصى. وقيل إن أحد أبنائه هو الذي بناه. أما بناء إبراهيم عليه السلام للكعبة فهو تجديد لبنائها ورفع لأركانها من جديد، وأما بناء سليمان عليه السلام للمسجد الأقصى فهو أيضاً تجديد لبناء المسجد الأقصى، فالمسجد الأقصى هو ثاني المساجد التي وضعت على وجه هذه الأرض.
والمسجد الأقصى هو مسرى رسول الله صلى الله عليه وسلم ومعراجه إلى السموات العلا، فقد أسري بالنبي صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام في مكة إلى المسجد الأقصى بفلسطين ثم عُرج به من المسجد الأقصى إلى السموات العلا فرأى من آيات ربه الكبرى، ثم عاد من السموات إلى المسجد الأقصى، ثم رجع إلى المسجد الحرام: (سُبْحَانَ الَّذِي أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِّنَ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الأَقْصَى الَّذِي بَارَكْنَا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آيَاتِنَا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ) {الإسراء:1}.
المسجد الأقصى هو قبلة الأنبياء عليهم السلام، وهو قبلة المسلمين الأولى، فقد كان المسلمون مع رسول الله صلى الله عليه وسلم يتجهون في قبلتهم إلى المسجد الأقصى ، واستمر ذلك الأمر ستة عشر أو سبعة عشر شهراً، ثم أُمر النبي صلى الله عليه وسلم بالتحوّل إلى الكعبة المشرفة واستقبالها في كل صلاة من الصلوات.
المسجد الأقصى هو أحد المساجد الثلاثة التي لا تُشدّ الرحال إلا إليها، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تُشَدّ الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا) { رواه البخاري } أي مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في المدينة.
وفضائل ومكانة المسجد الأقصى كثيرة لا تُحصى في هذه العجالة، ولكن تاريخ المسجد الأقصى وما تعرض له وما يتعرض له المسجد الأقصى هو ما ينبغي أن نتذكره وأن نقف عنده، وأن نتعلم الأحداث والتاريخ، لأن جيل المسلمين الصاعد من شبابنا وأبنائنا قلّ منهم من يعرف الكثير عن المسجد الأقصى، تاريخ المسجد الأقصى وما مرّ به من الأحداث، وما أصابه من الأمور ينبغي علينا أن نستذكرها وأن نتعلمها لنعرف كيف كانت الأمور، وكيف تجري الأمور في أيامنا هذه.
كان أول دخول للمسلمين إلى المسجد الأقصى في عهد عمر رضي الله عنه حين بدأت الفتوحات الإسلامية، وكان فتح الشام، فكان فتح القدس ودخول المسجد الأقصى في زمن عمر الفاروق الخليفة الراشد رضي الله عنه وأرضاه في السنة الخامسة عشرة للهجرة حيث تسلّم مفاتيح بيت المقدس، ونَعِم المسجد الأقصى بالأمن والأمان في ظل دولة الإسلام لمئات السنين، إلى أن بدأت الحروب الصليبية.
جاءت الحملات الصليبية من أوروبا تريد استعادة مجد النصارى في القدس، ومن أجل ذلك وجهوا عدداً من الحملات الصليبية، إلى أن تمكّن الصليبيون من احتلال المسجد الأقصى، ودخلوا ساحات المسجد الأقصى وارتكبوا فيه أبشع المجازر حين قتلوا سبعين ألفاً في ساحات المسجد الأقصى، واستمر احتلال المسجد الأقصى لاثنتين وتسعين سنة، إلى أن يسّر الله لهذه الأمة مَن جمعها وحرّر المسجد الأقصى، فكان الناصر صلاح الدين رحمه الله الذي عمل على جمع ما تفرّق من بلاد العرب وجمعهم وحرر المسجد الأقصى وأعاده إلى بلاد الإسلام، وعاش في كنف الإسلام قروناً ينعم بالأمن والأمان إلى أن عادت الحملات الصليبية مع بداية القرن العشرين.
فبعد اتفاقية سايكس بيكو عام 1916 - التي تقاسم فيها الغرب بلاد الامبراطورية العثمانية التي كانت تمثل دولة الخلافة الإسلامية – بدأت الحروب الصليبية اليهودية من جديد، فقد تظافرت جهود الصليبيين مع جهود اليهود من أجل استعادة أرض القدس، وإقامة وطن لليهود على أرض فلسطين.
وكانت بداية ذلك مع ما عرف بوعد بلفور عام 1917، حيث أعطى وزير خارجية بريطانيا وعداً لليهود بإقامة وطن قومي لهم على أرض فلسطين، ومع ذلك الوعد بدأ العمل والتنفيذ وتحقيق ذلك الوعد حين وقعت أرض فلسطين تحت الاحتلال البريطاني في عام 1917، حين دخل الجنرال اللنبي أرض بيت المقدس، ودخل أرض القدس وأعلن تلك المقولة: (اليوم انتهت الحروب الصليبية)، يوم جاء إلى قبر صلاح الدين في دمشق وركله بقدمه وأشار بسيفه وقال له: (قم يا صلاح الدين، ها قد عدنا).
وابتدأت الحرب الصليبية اليهودية، وبدأ ما سُمي بالانتداب البريطاني على أرض فلسطين الذي سهّل لليهود وأعطاهم كل الحقوق والامتيازات، فسمح لهم بالهجرة إلى أرض فلسطين، وسمح لهم بشراء الأراضي وإقامة المستعمرات، وجهزهم بالسلاح، وأمدهم بالمال والرجال، ودبّر وخطّط إلى أن جاءت نكبة أيار عام ثمانية وأربعين حين أعلن عن قيام كيان إسرائيل، وكانت نكبة المسلمين في فلسطين.
واستمرت الأحداث وصولاً إلى حزيران عام سبعة وستين حيث أكمل اليهود احتلالهم لما بقي من أرض فلسطين وما جاورها من الجولان وسيناء، وكان في مقدمة ما استولى عليه اليهود القدس كاملة بما فيها المسجد الأقصى المبارك، وهكذا خضع المسجد الأقصى لاحتلال اليهود. وتتوالى الأحداث في ساحات المسجد الأقصى حيث قام اليهود في آب عام تسعة وستين بإحراق المسجد الأقصى في محاولة لإزالته ولهدمه من أجل إقامة ما يسمى الهيكل، ذلك الهيكل المزعوم، هيكل سليمان، وسليمان منه براء.
واستمرت التحديات، وتوالت الأحداث، محاولات اقتحام المسجد الأقصى التي تتعدد وتتوالى، إقامة الحفريات تحته، حفر الأنفاق في محاولة من أجل تصديع بنيانه وأساسه، حتى إذا ما انهار كان الأمر قضاء وقدراً، هكذا يدبرون ويخططون، إضافة إلى إراقة الدماء وقتل الناس في ساحات المسجد الأقصى، وهذا أمر لا يخفى على أحد.
إذاً، اليهود خططوا ودبروا ونفذوا، حققوا غاياتهم، فماذا فعل المسلمون ؟ إنهم يتباكون على الأطلال، ويتغنون بالأمجاد والأسلاف والبطولات، في حين أن المسجد الأقصى مهدد بالزوال، لذلك السؤال الذي يطرح: هل يمكن أن يُهدم المسجد الأقصى؟
للجواب عن ذلك نقول: ايهما أفضل: مكة أم الأقصى ؟ لا شك بأن مكة هي أفضل من المسجد الأقصى، ولقد تعرضت الكعبة المشرفة على مرّ الدهور للهدم عدة مرات، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (استمتعوا من هذا البيت فإنه قد هدم مرتين و يرفع في الثالثة) { رواه الحاكم والطبراني }. أفضل البقاع على وجه الأرض تعرضت للهدم عدّة مرات، وكان من ذلك حين هاجم القرامطة أرض مكة وأخذوا الحجر الأسود، ومنعوا الناس من الحج، واستمر الأمر على ذلك لاثنين وعشرين عاماً، من سنة 317هـ إلى سنة 339هـ، أخذوا الحجر الأسود، ومنعوا الناس من أداء فريضة الحج، ثم فرّج عن المسلمين وأعاد الحجر إلى مكانه، وعاد حج بيت الله الحرام. وقد أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم أن الكعبة مع مكانتها ستهدم في يوم من الأيام، وهذا علامة من علامات يوم القيامة، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (يخرب الكعبة ذو السويقتين من الحبشة) { رواه البخاري ومسلم }. وهذا أمر لم يحدث إلى الآن، وسيحدث في وقت يعلمه الله تبارك وتعالى.
إذا كان هذا ما يتعلّق بالكعبة المشرفة، فكيف يكون الحال بالنسبة للمسجد الأقصى ؟ هل يمكن أن يهدم المسجد الأقصى ؟ إذا كان المسجد الأقصى لما دخله الصليبيون قد عطلت الصلاة فيه لاثنتين وتسعين سنة، كان اسطبلاً للخيل، ومستودعاً للغلال والحبوب، استمر ذلك طوال هذه الفترة..
فهل يمكن أن يهدم ؟ نقول: ما المانع أن يهدم المسجد الأقصى ؟ لا يوجد مانع من هدم المسجد الأقصى، خصوصاً في ظل واقع المسلمين الذي نعيشة اليوم، في ظل تقاعس المسلمين، في ظل تخلي المسلمين عن المسجد الأقصى، لذلك ضاع المسجد الأقصى وأخذه الصليبيون حين تخلى المسلمون عنه، حين تفرّقوا وتمزّقوا وتحاربوا فيما بينهم، التاريخ يعيد نفسه، دول العروبة قد زادت عن عشرين دولة، وكل يوم ننتظر دولة جديدة في ظل ما ينتظرنا من تقسيم المقسّم من دولنا العربية، بدل أن تجتمع هذه الدول، وتتوحد هذه الجهود إذا بنا نرى التقسيم الذي ينتظرنا من جديد، تقسيماً لما قد قسّم من قبل، ففي ظل هذا الواقع ماذا يمكن أن يحدث للمسجد الأقصى ؟ من يتذكر المسجد الأقصى ؟ زعماء العرب باعوه بثمن بخس دراهم معدودة منذ عقود، ماذا نقدّم للمسجد الأقصى ؟ لذلك ما الذي يمنع اليهود من هدمه ؟
حينما يحاولون دخول المسجد الأقصى ما هي ردّات فعل الناس ؟ إن كان من شيء فهي مظاهرة أو شجب أو تنديد أو استنكار، هذا سلاحنا، في الوقت الذي يخطط اليهود وينفذون ويعملون لذلك.
ما دام هذا حال المسلمين فلا شيء يمنع اليهود من هدم هذا المسجد، ولا شيء يردعهم، لأن هذا المسجد ما زال يصرخ ويستغيث ولكن ما من مجيب.
أنا الأقصى دمي يجري أنا الأقصى لما هجري
لما هجـري بلا ذنـب لما ضيعتـمُ ذكـري
من يُجيب نداء المسجد الأقصى؟ لذلك إذا بقينا على هذا الحال فسنرى آثار وبقايا وحجارة المسجد الأقصى وهي تتطاير أمام أعيننا، أما إذا عملنا على تحقيق وعد الله فإننا يمكن لنا أن نستعيد المسجد الأقصى، وأن نحميه وأن نرده إلى بلاد المسلمين بإذن الله تبارك وتعالى.
إن وعد الله قائم بعودة المسجد الأقصى ودخول المسلمين إليه، فقد قال سبحانه: (فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيراً) {الإسراء:7}. وبشارة النبي صلى الله عليه وسلم قائمة: (لا تقوم الساعة حتى يقاتل المسلمون اليهود فيقتلهم المسلمون، حتى يختبئ اليهودي من وراء الحجر والشجر، فيقول الحجر أو الشجر: يا مسلم ! يا عبد الله ! هذا يهودي خلفي فتعال فاقتله، إلا الغرقد فإنه من شجر اليهود) { رواه مسلم }.
فهل نكون بحق من عباد الله، هل نكون بحق من المسلمين كما أمر الله حتى ينطق الحجر والشجر وينادي علينا: يا مسلم، يا عبدالله.
إن المسجد الأقصى لن يعود ولن يحرر إلا براية الإسلام، إلا برجال مخلصين، إلا بعباد الله الصادقين، أسأل الله أن يجعلنا وإياكم منهم، وأن يردنا إلى دينه رداّ جميلاً، أسأل الله أن يرد إلينا مسجدنا الأقصى، وأن يردنا إليه سالمين غانمين مأجورين بإذن الله، جعلني الله وإياكم ممن يستمعون القول فيتبعون أحسنه، أقول قولي هذا واستغفر الله لي ولكم فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

المراجع

عودة و دعوة دوت كوم

التصانيف

مجتمع