طالما رسمت لنا الروايات المقروءة والأفلام السينمائية الشهيرة شخصية فرانكنشتاين بنظرته الباردة ووجهه الحاد، ليكبر معنا سؤال هل كان مسخاً أسطورياً صنعه خيال مؤلف؟ أم هو شخصية حضرت بالفعل ونقلت وقائع حقيقية وقعت في غابر الأزمان؟ في هذه المقالة يكشف رجب سعد السيد لنا أسراراً مثيرة عن واحدة من أشهر الشخصيات العالمية ويزيح الستار عن تفاصيل قد غابت عن الأذهان في رحلة لا ينقصها الغموض والتوغل في جنبات الفن الغرائبي الذي يميل لفك شفرته كثيرون.
إن كُنـتَ ممن لا يحفلون بالمبدأ النقدي القائل بــ (موت المؤلف)، وترى أن لحياة المبدع، بعامَّةٍ، تأثيراً فيما أبدعَ، فأنت من فريقٍ يعتقد في أن وقائعَ حياة الكاتبة الإنجليزية «ماري وولستُنكرافت شـيلي» – 1797/1851م – قد تدخلت في إنتاجها لروايتها المشهورة (فرانكنشتاين، أو بروميثيوس الحديث)، التي نُشِـرتْ لأول مرة في لندن عام 1818م. ولعل أول مظاهر هذا التدخل يتمثل في العنوان المُركّب، والواضحُ فيه تأثُّرُها بعنوان مسرحية (بروميثيوس طليقاً)، للشاعر الرومانسي الإنجليزي «بيرسي بيش شيلي»، الذي أعطاها اسمه بعد أن تزوجا؛ وكانا قد عاشا قصة حُب لم تجد ترحيباً من المجتمع الإنجليزي المحافظ، فقد كان شيلي متزوجاً؛ ففضلا الانتقال بقصة حبهما إلى فرنسا، وعادا إلى وطنهما ليتزوجا بعد أن انتحرت زوجة شيلي كمداً من علاقة زوجها بماري.
كما جاء تأثيرٌ آخر من الشاعر الإنجليزي «لورد بايرون»، صاحب القصيد الدرامي (مانفرِد)، وكان –مع شيلي- من المخلصين للرومانسية؛ فقد تصادف أن تعارفتْ عائلتا الشاعرين في رحلةٍ على ضفاف بحيرة (ليمان) السويسرية، عادت بعدها ماري لتبدأ في كتابة روايتها «فرانكنشتاين»، يدفعها ما لقيته من تشجيعٍ من بايرون وزوجها شيلي؛ وقد ظهرت في الرواية مسحة رومانسية، بالرغم من اندراجها تحت نوع رواية الغرائبيات. الجدير بالذكر أن لماري شيلي أعمالاً أدبية أخرى، غير «فرانكنشتاين»، ولا تقل عنها من حيث القيمة الأدبية، منها روايةٌ تاريخيةٌ عنوانُها «فالبِـرجا؛ أو حياة ومغامرات كاستروشيو أميرُ لوكا» – 1823م؛ و«آخر الرجال» – 1826م؛ وكتابُ «ملفُّ ستة أسابيع من التجوال»، وهو من أدب الرحلات، وصدر بالعام 1817م، وقد شاركها كتابته زوجُها، ففي الكتاب وصفٌ لمغامرة هروبِهما بقصة حبهما من إنجلترا، وتجوالهما في أوروبا، قبل أن يستقر بهما المقامُ في إيطاليا؛ وقد عادت لتضيف إلى ذلك الكتابِ كتابَ رحلاتٍ آخر هو «التسكع في ألمانيا وإيطاليا» – 1844م؛ كما أن لماري شيلي عديداً من الرسائل واليوميات المنشورة.
لكن الشهرة لم تُصِـبْ غير «فرانكنشتاين»، فحققت نجاحاً ضخماً، وعُولجت مسرحياً وسينمائياً في عشرات الأعمال، أبرزها شريط سينمائي جسد فيه شخصية المسخ الممثلُ «بوريس كارلوف». وقد شاعت تسمية «فرانكنشتاين» على أنها لشخصية ذلك الإنسان المسخ التي علقت بذاكرة القراء والمشاهدين أكثر من أي شيء آخر في الرواية، والحقيقة هي أنه اسم لشخصية العالِم السويسري «فيكتور فرانكنشتاين»، الذي كان قد توصل إلى قناعة بأن الكهرباء هي جوهر الحياة وأنها العاملُ الذي يشكِّل الفرق بين الجسد الحي والميت. ولكي يثبت وجهة نظره، كان يسرقُ الجثثَ وينتزعُ الأعضاء المتفوقة منها، ثم يعيد لحمتها لتركيب «الرجل الخارق». وحين احتاج إلى «دماغ» بشري قام بسرقته – مع مساعده فرتز – من إحدى كليات الطب، غير أنهما يسرقان بطريق الخطأ دماغ مجرم معتوه توفى للتو، فيأتي الرجل الخارق عملاقاً بشعاً ترتعد من رؤيته الفرائصُ، وإن كان يتمتع بكافة صفات البشر، بما فيها مشاعر الكراهية التي كان يضمرها للعالم «فرانكنشتاين» الذي قام بتجميعه – على النقيض من مُجريات أسطورة (بيجماليون)، التي يهيم فيها الفنان المبدع حباً بتمثال المرأة الذي قام بنحته – وقد تمكنت تلك المشاعر الغاضبة من المسخ، وتحولت إلى انتقام فظيع، أودى بحياة المسخ وصانعه.
ويحلو لبعض الدارسين أن يربط بين بؤس المسخ، بطل رواية فرانكنشتاين، وما لقيته المؤلفة نفسها في حياتها من مصاعب، بدأت بوفاة الأم إثر ولادتها، وما أعقب ذلك من زواج الأب، وهو الكاتب والفيلسوف الإنجليزي «وليم جودوين»، بأرملة لم تجد منها ماري غير العنت التقليدي لزوجة الأب. وحتى بعد أن اعتقدت ماري أن الحياة قد ابتسمت لها بالزواج من حبيبها، راح أطفالُها منه يموتون واحداً تلو الآخر، فلم يعش منهم سوى واحد؛ ثم حلَّت الطامةُ الكبرى بفقدانها الزوج غرقاً أثناء رحلة بالقوارب. وتكتمل حلقة المنغصات بعزوف المجتمع الإنجليزي عن كاتبة لها قيمتها كماري شيلي، فاستمرت أوساطه في نبذها، حتى بعد اكتساب علاقتها بشيلي الصفة الشرعية بالزواج؛ ومن جهة أخرى، فإنها لم تكن على درجة من الغنى تتيح لها التفاعل مع المجتمع، فانزوت وحيدة، تشغل وقتها في جمع وتحقيق قصائد زوجها الراحل، مكتفية بعلاقتها بابنها الوحيد، حتى وافتها المنية بالعام 1851م، عن ثلاثة وخمسين عاماً.
وثمة رواية أخرى تذهبُ إلى أن تأثير اللورد بايرون كان أبعد من مجرد تشجيع ماري على تأليف روايتها؛ فذات يوم من أيام رحلة بحيرة (ليمان) السويسرية، ساءت الأحوال الجوية فجأة، وكانت أسرة شيلي في ضيافة أسرة اللورد بقصرها على ضفاف البحيرة، فلزم أفراد الأسرتين القصر؛ ولتمضية الوقت وقتل الملل، جلسوا جميعاً قرب المدفأة، وراحوا يسلون أنفسهم بقراءة قصص الأشباح؛ وبوحي من تلك القصص، اقترح اللورد بايرون أن يؤلف كل منهم قصة رعب؛ فلم تجد ماري شيلي ما تحكيه. وزارها في نومها تلك الليلة كابوسٌ مرعبٌ، رأت فيه شاباً شاحب الوجه منكباً على طاولة ضخمة، يجمع شتات ما بدا كأنه مسخ بشري غاية في البشاعة، لاحظت ماري أن الحياة لم تلبث أن بدأت تدب فيه شيئاً فشيئاً، بعد تعرضه لمصدر طاقة خارقة؛ وكان ذلك المشهد المخيف هو ما أوحى لماري بفكرة روايتها المشهورة، وربما كان مختزناً في دهاليز اللاوعي من زيارة لقلعة ألمانية قديمة، كانت تمتلكها أسرة من مدينة (دارمشتاد) تحمل لقب فرانكنشتاين. ومن الروايات العجيبة التي يتناقلها سكان المنطقة المحيطة بالقلعة حكاية عالم غريب الأطوار، اسمه «يوهان كونراد ديبيل»، وُلِـدَ بقلعة أسرة فرانكنشتاين عام 1673م، ودرس الفلسفة والكيمياء وعلم اللاهوت، وكان مولعاً بالكيمياء، وتفرغ لأبحاثه فيها، وكان يُذيِّـلُ كتاباته بتوقيع (يوهان كونراد دي فرانكنشتاين)؛ كما ادعى النبوة، وكانت له سلوكيات مريبة، مثل التشبه بملك السويد. وقيل إنه قد تمكن من تخليق أكسير يجدد شباب الجسم البشري، من دماء الحيوانات وجيفها، مخلوطة بمواد كيميائية، ونجح في تسويقه
. ويُحكى عن فرانكنشتاين الحقيقي أيضاً محاولته نقل الروح من جثة لأخرى، وإعادة الحياة للموتى بتمرير تيار كهربائي في أجسادهم. ولم تكن الكهرباء شائعة في ذلك الوقت، فكان يتحصل عليها من خلال برج ضخم قام بتشييده ليقتنص شحنات الصواعق الجوية.
وقد عايشت ماري شيلي تلك الحكايات، وربما كانت منبهرة، كسائر الناس في ذلك الزمن، بما كان يروى عن الكهرباء، ذلك الاختراع (الحديث) الذي شاعت عنه خرافات كثيرة، منها قدرته على إحياء الموتى، وما صاحب ذلك من بعض التجارب العلمية، ومنها تجربة العالم الإيطالي ليوجي جالفاني، التي مرر فيها تياراً كهربياً عبر جسم ضفدعة ميتة، فلاحظ ارتجاف أطرافها؛ وتجربة أخرى قام بها إيطالي آخر، هو جيوفاني إلديني، عام 1791م في أحد ميادين لندن، فأتى بجثة مجرم تم إعدامه شنقاً قبل ساعات من التجربة، ومرر خلالها تيارا كهربياً شدته 120 فولتاً، فانقبضت ملامح الجثة، فلما رفع إلديني شدة التيار، أخذت الجثة ترتعش، فظن المشاهدون أنها ستعود للحياة.
وقد ظهرت مؤخراً دراسة تقول إن ماري شيلي لم تقتبس شخصية فرانكشتاين من كابوس قديم، أو من حكايات قلعة مدينة دارمشتاد، وإنما من شخصية حقيقية لطبيب اسكتلندي يدعى «جون ليند»، تولى علاج زوجها الشاعر بيرسي تشيلي من مرض ألمَّ به؛ وكان بيرسي معجباً به ويتحدث دائماً عن سعة علمه وتجاربه الغريبة. وذات يوم أفشى الدكتور ليند سراً خطيراً للشاعر بيرسي، فقد أخبره انه يسعى لإعادة الحياة للأطفال المتوفين بواسطة الكهرباء. وحين أبدى بيرسي تحفظه، أخبره عن تلك التجربة التي قام بها عالم التشريح الإيطالي جلفاني، كما أخبره عن قدرة «التيار الكهربائي» على إعادة خفقان القلب لمن دخلوا في طور الوفاة. وتفترض هذه الدراسة أن يكون الشاعر بيرسي قد أخبر زوجته بهذا السر فنسجت حوله شخصية الدكتور فرانكشتاين الخيالية.
وعلى أي حال، فقد كان الغرض من وراء تتبع المصدر الذي أخذت منه ماري شيلي شخصية بطل روايتها هو رسم صورة لنوع وحجم (العلم) الذي كان متاحاً في ذلك الوقت، والذي سمح لكاتبة لها موهبة ماري شيلي أن تضع هذه الرواية، وفيها ذلك النوع والحجم من (الخيال العلمي).
المراجع
qafilah.com
التصانيف
تصنيف :فنون أدب
|