نموذج من النثر في العصر الأمويّ
قدِم زيادٌ البَصرة واليًا لمعاوية بن أبي
سفيان، وضمَّ إليه خراسان وسجستان، والفسقُ بالبصرة كثير، فاشٍ ظاهر.
قيل: فخطب خطبة بتراءَ، لم
يَحمَد اللَّه فيها، ولم يصلّ على النبيّ، وقال غيرهم: بل قال: الحمد للَّه على
إفضاله وإحسانه، ونسأله المزيدَ من نِعَمه وإكرامه، اللهُمّ كما زدتنا نِعَمًا
فألِهمْنا شُكْرًا، أما بعد؛ فإنّ الجهالَة الجَهلاء، والضّلالة العمياء، والغَيَّ
الموفى بأهله على النار، ما فيه سفهاؤكم ويشتمل عليه حلماؤكم، من الأمور العظام
ينْبُتُ فيها الصغير، ولا ينْحاشُ عنها الكبير، كأنّكم لم تقرؤوا كتابَ اللَّه،
ولم تسمعوا ما أعَدّ اللَّه مِن الثَّواب الكريم لأهل طاعته، والعذابِ الأليم لأهل
معصيته، في الزمن السَّرمَدِ الذي لا يزول.
أتكونون كمن طرفت عينَه الدُّنيا،
وسَدَّت مسامعَه الشهواتُ، واختار الفانيةَ على الباقية، ولا تذكرون أنّكم أحدثتم في
الإسلام الحَدَثَ الذي لم تُسبَقوا إليه: مِن تَركِكم الضعيفَ يُقهر ويؤخذُ
مالُه، وهذه المواخير المنصوبة، والضعيفةَ المسلوبةَ في النَّهار المُبْصِر، والعددُ
غير قليل، ألم تكن منكُم نُهاةٌ تَمنع الغُواةَ عن دَلَج الليل وغارة النهار؟
قرّبتُم القَرابة، وباعدتم الدِّين، تعتذرون بغير العُذر، وتُغْضُون على المختلس،
أليْسَ كلُّ امرئٍ منكم يذُبُّ عن سفِيهه، صُنْعَ مَن لا يخافُ عاقبةً ولا يرجو
مَعادًا.
ما أنتم بالحلماء، ولقد اتبعتم السُّفهاء، فلم يَزَلْ بكم ما ترون مَن
قيامكم دُونَهم حتّى انتهكوا حُرَم الإسلام، ثم أطرقوا وراءكم كُنُوسًا في
مَكَانِس الرِّيَب، حَرامٌ عليَّ الطّعامُ والشرابُ حتى أسوّيَها بالأرض، هَدْمًا
وإحراقًا.
إنِّي رأيتُ آخِرَ هذا الأمر لا يصلحُ إلاّ بما صَلُح به أوَّلهُ: لينٌ
في غير ضَعف، وشدةٌ في غير عُنف، وإنّي أُقسم باللَّه، لآخُذَنَّ الوليَّ
بالوليّ، والمقيم بالظَّاعن، والمقبلَ بالمدْبر، والمطيع بالعاصي، والصَّحيحَ منكم في نفسه
بالسقيم، حتَّى يَلقَى الرَّجُل منكم أخاه فيقول: انْجُ سعدُ فقد هلك سُعَيْدٌ. أو
تستقيمَ لي قناتُكم.
إنَّ كِذْبَةَ المِنبر بلقاءُ مَشْهُورةٌ، فإذا تعلَّقتم
عليَّ بكِذبةٍ فقد حلّت لكم معصيتي، وإذا سمعتموها مِنّي فاغتمزُوها فيَّ واعلموا أنَّ
عندي أمثالَها، من نُقِبَ منكم عَلَيْه فأنا ضامنٌ لما ذهبَ منه، فإيايَ
ودَلَجَ اللّيل؛ فإنِّي لا أُوتَى بمُدلج إلا سفكتُ دمَه، وقد أجَّلْتُكم في ذلك
بمقدار ما يأتي الخبرُ الكُوفَة ويرجعُ إليكم. وإيايَ ودعْوةَ الجاهليّة؛ فإني لا آخُذ
داعيًا بها إلا قطعتُ لسانه.
وقد أحدْثتم أحداثًا لم تكُن، وقد أحدثْنا لكلِّ ذنبٍ
عقوبة: فمَنْ غرَّق قومًا غرَّقناه، ومَن أحرق قومًا أحرقناه، ومن نقبَ بيتًا نقبنا
عن قلبه، ومَن نبش قبرًا دفنَّاه فيه حَيًّا، فكُفُّوا عَنِّي أيديَكم
وألسنَتكم، أكفُفْ عنكم يدي ولساني. ولا تَظْهَرُ على أحدٍ منكم ريبةٌ بخلاف ما
عليه عامتكُم إلاّ ضربتُ عنقه، وقد كانت بيني وبين أقوامٍ إحَنٌ فجعَلتُ ذلك دبْرَ
أُذْني وتحتَ قَدَمِي، فمَن كان منكم محسنًا فليزدد إحسانًا، ومن كان منكم مُسيئًا
فلينْزِع عن إساءته.
إنِّي واللَّه لو علمتُ أنّ أحدكم قد قتله السُّلُّ مِن بُغضي لم
أكشِف له قناعًا، ولم أهْتِكْ له سِترًا، حتى يُبدِيَ له صفحتَه، فإذا فَعَلَ ذلك
لم أناظِرْه، فاستأنِفُوا أموركم، وأرْعُوا على أنفسكم، فَربَّ مَسُوء
بقدومنا سنسرُّه، ومسرورٍ بقدومنا سنسوؤه.
أيها الناس، إنّا أصبحنا لكم سادة، وعنكم
ذَادةً؛ نَسُوسُكم بسلطان اللَّه الذي أعطانا، ونذودُ عنكم بفَيء اللَّه الذي
خَوَّلَنا، فلنا عليكم السَّمعُ والطاعة فيما أحبَبْنا، ولكم علينا العدل والإنصاف
فيما وُلّينا، فاستوجِبُوا عَدْلنا وفَيئَنا بمناصَحتكم لنا، واعلموا أنِّي
مهما قصَّرتُ عنه، فلن أقصِّر عن ثلاثٍ: لستُ محتجبًا عن طالبِ حاجةٍ منكم، ولو أتاني
طارقًا بلَيل، ولا حابسًا عطاءً ولا رزقًا عن إبّانه، ولا مجمِّرًا لكم بَعثًا،
فادعُوا اللَّه بالصَّلاح لأئمتكم؛ فإنهم ساستكم المؤدِّبون، وكهفُكم الذي إليه
تأوُون، ومتى يصلُحوا تَصلُحوا، ولا تُشْرِبوا قلوبَكم بُغْضَهم فيشتدَّ لذلك
غيظكم، ويطولَ له حُزنكم، ولا تُدْركوا بهِ حاجتكم، مع أنّه لو استُجيب لكم فيهم لكان
شرًّا لكم، أسأل اللَّه أن يُعينَ كُلا على كلٍّ.
وإذا رأيتُموني أُنْفِذ فيكم
الأمرَ فأَنْفذوه على أذلاله. وأيمُ اللَّه إنَّ لي فيكم لَصَرعَى كثيرةً،
فليحذر كلُّ امرئٍ منكم أن يكون من صَرْعاي.
قال: فقام إليه عبداللَّه بن الأهتم فقال:
أشهدُ أيّها الأمير، لقد أُوتِيتَ الحكمةَ وفَصلَ الخطاب، فقال له: كذبتَ، ذلك
نبيُّ اللَّه داود صلى الله عليه وسلم.
فقام الأحنفُ بن قيس، فقال: أيُّها
الأمير، إنما المرءُ بجَدِّه، والجودُ بشَدّه، وقد بلَّغَك جَدُّك أيُّها الأميرُ ما
تَرى، وإنما الثناءُ بعد البلاءِ، والحمد بعد العَطاء، وإنا لن نُثنِيَ حتى نَبتلي،
فقال زياد: صدقت[1].
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[1] - أحمد شوقي، نصوص مختارة
من شعر صدر الإسلام والدولة الأموية،
ص171-174.
المراجع
موسوعة الأدب العربي بقلم الدكتور عماد الخطيب
الموسوعة الالكترونية العربية
التصانيف
تاجيبيديا في الأدب العربي العصر الأموي الأدب في العصر الأموي الآداب شعراء العصر الأموي