من الحقائق التي حملها التاريخ وسرت مسرى الأمثال قولهم (العرب أمة شاعرة) وكذلك قولهم (الشعر ديوان العرب).
ولا عجب في ذلك، فهم من أكثر الأمم شعراء، وشعراؤهم من أغزر الناس شعرًا.
وقد حفظ الشعر تاريخ العرب وأيامهم، وعاداتهم وتقاليدهم: في أفراحهم وأتراحهم، في منشطهم ومكرههم، في سرّائرهم وضرائهم، وكان الشعر بحق هو مثلهم الأعلى تصويرًا وتعبيرًا.
وفي دروب (ديوان العرب) نعيش مع ما جادت به قرائح الشعراء في (الشباب)...
**********
والشباب كما يقولون هو ربيع العمر؛ لأنه يمثل الفترة الزمنية الزاهية في حياة الإنسان؛ إنه مرحلة القوة والفتوة.
وهو مرحلة الحماسة والتوهج.
وهو مرحلة النشاط والتوقد.
وهو مرحلة التفتح والنباهة.
لذلك قال أحد بلغاء العرب القدامى:
"الشباب باكورة الحياة، وأطيب العيش أوائله، كما أن أطيبَ الثمار بواكيرها، وما بكت العربُ على شيء كما بكت على الشباب، وما بكى الشعراءُ من شيء كما بكوا من المشيب ".
إن أول من يطالعنا من الشعراء في ديوان العرب هو الشاعر الجاهلي طرفة بن العبد، الذي نسمعه معتزًا بشبابه، مفتخرًا بقوته وفتوته:
أنا الفتى الضرب الذي تعرفونه خشاش كرأس الحية المتوقد
ويقول الشاعر:
إذا قيل: من فتى؟ خلت أنني عنيت فلم أكسل ولم أتبلد
والإنسان ما تمنى أن يدوم شيء في حياته كتمنيه دوامَ الشباب، بما فيه من نضرة وحيوية، وقدرة على تذوق مباهج الحياة، فلا عجب أن يقول الشاعر اللبناني فؤاد عمون
سـلام عـليك زمان الشباب
لأنـتَ مـخـفـفَ أحزانِها
ولولا الشبابُ وذكرى الشباب
ربـيـع الـحـيـاة بآذارها
وأنـت مـسـوغ أكـدارها
لـعـاشَ الـفتى عمره كارهًا
وإذا كان الشباب كما يرى الشاعر فؤاد عمون هو ربيع الحياة، ومخفف أحزانها، ومانح القدرة على تحمل أكدارها ومتاعبها. فإن ابن الرومي يبرز فضيلة أخرى من فضائل الشباب، وحسنة من حسناته خلاصتها: أن الشباب بذكرياته الطيبة الممتعة يغرس في نفس الإنسان الولاء والحب لوطنه، والتعلق الدائم بداره، يقول ابن الرومي:
ولـى وطـن آلـيت لا أبيعه
عهدتُ به شرخ الشباب ونعمةً
وحبب أوطان الرجال إليهمو
إذا ذكـروا أوطانهم ذكرتهمو
وألا أرى غيري له الدهر مالكا
كنعمةِ قومٍ أصبحوا في ظلالكا
مـآرب قضاها الشباب هنالكا
عـهـود الـصبا فحنوا لذلكا
ويتركنا ابن الرومي لنلتقي في (ديوان العرب) بالشاعر الفارس الأسير أبي فراس الحمداني، في قصيدة يعاتب فيها ابن عمه سيف الدولة أمير حلب، لتأخره في افتدائه من الأسر، ويذكر ابن عمه بشبابه الذي قدمه وأضناه في مدافعة أعدائه ومواجهتهم:
وهـبت شبابي والشباب مضنة
أبـيـت معنى من مخافة عتبه
فـلما مضى عصر الشبيبة كله
تطلبت بين الهجرْ والعتبْ فرجة
لأبـلـج مـن أبناء عمي أروعا
وأصبح محزونًا، وأمسي مروعا
وفـارقـني شرخُ الشباب مودعا
فـحـاولـت أمرًا لا يُرام ممنعا
ويقرأ الشاعر أحمد شوقي قول من يقول إن الشيب رمز الحكمة، والرفعة، فيرفض هذه المقولة ويتصدى لها بقوله:
وما الشيب من خيل العلا فارْكب الصبا إلى المجد تركب متن أقدر جوال
يسن الشبابُ البأسَ والجود للفتى إذا الشيب سن البخل بالنفس والمال
لذلك عاش شوقي وفيًّا لشبابه، يسترجع ذكرياته، ويستدعي بروحه أحلامه، وحلاوته، بعد أن علاه الشيب، وزحف إليه خريف العمر:
خلق الشباب ولا أزال أصونه وأنا الوفي مودتي لا تخلق
صاحبته عشرين غير ذميمةٍ حالي بها حالٌ وعيشي مونق
ويلتفت بالحديث إلى قلبه قائلاً:
قـلـبـي ادركت اليومَ غير موفق
فـخـفقت من ذكري الشباب وعهده
كم ذبت من حرق الجوى، واليوم من
هـل دون أيـام الـشـبـيبة للف
أيـامَ أنـتَ مـع الـشـباب موفق
لـهـفـي عـليك. لكل ذكرى تخفق
أسـف عـلـيـه وحـسرة تتحرق
صـفـو يـحـيط به، وأنس يحدق؟
ولكن الشريف الرضي ينظرُ إلى الشباب من زاوية أخرى فيرى أن من مساوئ الشباب، وبتعبير أدق: من مساوئ الإنسان أنه في شبابه يغفل عنه، ويفرط فيه، ولا ينتفع بمحاسنه على الوجه الأكمل، ومن أسف أنه لا يتذكر جنايته هذه في حق شبابه إلا في مشيبه وشيخوخته، ولاتَ حين مندم:
لا تـلحُ من يبكي مشبيبته
عيب الشبيبة غول سكرتها
لـسـنا نراها حق رؤيتها
كالشمس لا تبدو فضيلتها
ولـرب شـيء لا يـبينه
إلا إذا لـم يـبـكـها بدم
مـقـدارَ ما فيها من النعم
إلا زمـانَ الـشيب والهرم
حتى تغشى الأرض بالظلم
وجـدانـه إلا مـع الـعدم
وبعد فوات الأوان لا يجدي الندم، كما يقول الحكيم العربي: (الندم بعد الفوت حسرة وألم).
وفي هذا المعنى يقول الشا عر العربي:
عريت من الشبابِ وكنت غصنا
ونحت على الشباب بدمع عيني
فـيـالـيت الشباب يعود يومًا
كـمـا يعرى من الورد القضيب
فـمـا نـفع البكاء ولا النحيب
فـأخـبـره بـما فعل المشيب
وفي هذا السياق أنبه إلي أن لكلمة الشباب استعمالين: فهي تستعملُ كما عرفنا بمعنى مرحلة القوة والفتوة، والنضارة في حياة الإنسان.
أما الاستعمال الثاني لكلمة الشباب فهو أنها جمع شابّ، وهو من يعيش مرحلة الشباب، ولا شك أن الشباب بالمفهوم الثاني هم ذخيرة الأمة، وعنوان قوتها، وبناة مستقبلها، فهم "رجال الغد" الذين يتهيئون لتحمل المهام الصعبة، والمسئوليات الجسام، وإلى الشباب: رجال الغد يوجه الشاعر حافظ إبراهيم هذه الرسالة:
رجـالَ الـغدِ المأمولِ إنّا بحاجةٍ
رجـال الـغد المأمول إنا بحاجة
رجـال الـغد المأمول إنا بحاجة
رجـال الـغد المأمول إنا بحاجة
رجـال الـغد المأمول إن بلادكم
قصارى منى أوطانكم أن ترى لكم
إلـى عـالـم يـدعو وداع يذكر
إلـى عـالـم يـدري وعلم يقرر
إلـى حـكـمة تملى وكف تحرر
إلـيكم فسدوا النقص فينا وشمروا
تـنـاشـدكـم بالله أن تـتذكروا
يـدا تـبـتـني مجدا ورأسا يفكر
وإلى اللقاء في الأسبوع القادم بمشيئة الله في حلقة جديدة من ديوان العرب.
المراجع
islamweb.net
التصانيف
شعر الآداب