ولد جان بياجيه Jean Piaget في نوشانل بسويسرة لأب درَّس التاريخ في جامعة المدينة، وأكسب ولده الدقة والمنهجية في العمل، ولأم متدينة رغبت في تربية ابنها تربيةً دينيةً جعلته يبحث عن التوافق بين العقيدة والعلم.اهتم بياجيه منذ صغره بالعلوم الطبيعية، ونال درجة الدكتوراه في أحد موضوعاتها، وهو لا يزال في الثانية والعشرين من عمره؛ كما اهتم بالفلسفة، وشغل منها بنظرية المعرفة التي نقلها من مجال الفلسفة إلى ميدان علم النفس، فدرسها بطريقة تجريبية متأثراً بعلم النفس الذي درسه في جامعة زوريخ، إضافة إلى دراسته المنطق والرياضيات وعلوم أخرى مختلفة.زار بياجه أقطاراً كثيرة لشرح أفكاره، ولحضور المؤتمرات، وإلقاء المحاضرات. وظل يتنقل بين فرنسة وسويسرة لشغل مناصب متعددة: فقد عمل منذ عام 1920 في مخبر بينه ـ سيمون Simon-Pinet في باريس، حيث كلف تقنين اختبارات الاستدلال والبرهنة؛ ورجع إلى سويسرة، بطلب من كلاباريد Claparede ليعمل في معهد جان جاك روسو في دراسةٍ لبنية الذكاء؛ ثم ليحتل كرسي الفلسفة في جامعة نوشانل، وليدرس تاريخ الفكر العلمي، وعلم النفس التجريبي في جنيف، ثم ليصبح مديراً لمعهد روسو، فمديراً لمخبر علم النفس، في جامعة لوزان، ومديراً لمجلة علم النفس السويسرية، فمديراً للمكتب العالمي للتربية في جنيف. وفي عام 1952 قسَّم وقته بين كلية العلوم في جنيف وجامعة السوربون في باريس، حيث احتل كرسي علم نفس الطفل مكان ميرلو بونتي. وبعدها ترأس الاتحاد العالمي لعلم النفس، وصار مديراً لمركز علم تكوين المعرفة، ثم أسس المركز العالمي للإبيستيمولوجية التكوينية. وقد ترك التعليم الجامعي عام 1973، إلا أنه ظل يتابع التأليف حتى وفاته.اشتهر بياجيه بنظريته في تكون المعرفة (الإبستيمولوجية) Epistémologie Génétique وتطورها، وقد رفض فيها كلاً من النظريتين الاختبارية والمثالية، وأحل مكانهما نظرية تقوم على فكرة الذات النشطة التي تنظم الصور الآتية من الوسط الخارجي في نسقٍ تخطيطي يساعد على تمثل الواقع وتكوين بنى عقلية تتطور بصورة مستمرة، بفعل العمليات التي يجريها العقل في تعامله مع البيئة.أعطى بياجيه أهمية للأمور البيولوجية إذ رأى أن الدماغ ينمو بحسب برنامج مسبق، ولذا ينبغي عدم دفع الطفل نحو تطور مستعجل. غير أنه لم يغمط التدريب والتفاعل الاجتماعي حقهما في التأثير في تطور الطفل. وعُرف بتفسيره الذكاء[ر] الذي عدَّه شكلاً من أشكال التكيف المتقدم الذي يتطور بوساطة عمليتي الاستيعاب والتلاؤم اللتين يتم تجاوزهما باستمرار لتحقيق توازن آني لا يلبث أن يختل، فتعاود العمليتان دورهما وهكذا.ساعد بياجيه الباحثين على فهم طبيعة الطفولة التي تختلف، نوعياً، عن طبيعة الراشد، وكشف عن نسق النمو العقلي عند الطفل، وقد رأى أن هذا النمو يمر بمراحل أربع، لكلٍ منها مبادئ تحكمها، وخصائص تميزها، وهي تخضع لعوامل النضج والتدريب والتفاعل الاجتماعي والتوازن.واهتم بياجيه بالمنطق[ر] فدرَّس الآليات النفسية لعملياته، والبنى المتعددة فيه، كما درَّس تكون مفاهيم كثيرة عند الطفل، مثل العدد والفراغ والزمن والاحتفاظ والرمز وغيرها، وكل من هذه المفاهيم كان عنواناً لواحد من الكتب التي ألفها، إضافة إلى كتب عديدة من أهمها:«دراسات في الإبستيمولوجية» (3 أجزاء)، و«سيكولوجية الذكاء»، و«حكمة وأوهام الفلسفة»، و«السيكولوجية والتربية»، ثم «اللغة والتفكير»، و«تمثل العالم»، و«ولادة الذكاء»، و«بناء الواقع».اتبع بياجيه في دراساته الطريقة العيادية Méthode Clinique التي تعتمد على مقابلة الأطفال والحوار معهم، وعلى ملاحظتهم بصورة طبيعية مباشرة، بعيداً عن طريقة الروائز المقننة التي تخضع الأطفال لشروط دقيقة مصطنعة تحول دون عفويتهم.ترك بياجيه أثراً كبيراً في علم النفس[ر] عامة، وكلاً من علم النفس المعرفي Psyshologie Génétique وعلم نفس الطفل على وجه الخصوص. وتعدّ أعماله مصدراً غنياً للتربية، فقد انتقد طرائق التلقين السلبي في التعليم، والطرائق الحدسية، وشدد في طريقة التعليم الفعالة أو النشطة التي قال بها على ضرورة الفعل الذي يمارسه الفرد في الأشياء ليكتشف خصائصها، وعلى العمليات العقلية Opérations Intellectuelles التي يضفي الفرد فيها خصائص على الأشياء، لا تمتلكها الأشياء في ذاتها.كما أنه بحث العمل الجماعي في المدرسة، ودفع إلى تطبيق الرياضيات الحديثة، وألحّ على تأهيل المعلمين ليكونوا باحثين، وعلى اختيار مضمون المناهج وكيفية تنظيمها لتلائم المرحلة النضجية للمتعلمين.أثارت كتاباته ضجةً على النطاق العالمي، سواء للاتفاق معها، أو لنقضها والرد عليها، وأعيدت التجارب التي قام بها على الأطفال حول اكتسابهم مفاهيم متعددة، وعلاقة ذلك الاكتساب بالتدريب والمرحلة العمرية التي يمرون بها، وذلك في مناطق عديدة من العالم، بغية التأكد من نتائجها.أنكر بياجيه أن يكون عالم نفس طفولة، كما يُعرَّف غالباً، وفضَّل أن يقدِّم نفسه بوصفه عالم نفس تكويني، لأنه وقف حياته العلمية، بطولها، للبحث عن كيفية تكوُّن المعرفة وتطورها. 

المراجع

الموسوعة.العربية

التصانيف

التربية والفنون   تربية وعلم نفس