المذهب الطبيعي Naturalism في الفلسفة العامة هو القول إن الطبيعة هي الوجود كله، وإنه لاوجود إلا للطبيعة، أي للحقيقة الواقعية المؤلفة من الظواهر المادية المرتبطة بعضها ببعض، على النحو الذي يشاهد في عالم الحس والتجرية. ومعنى ذلك أن المذهب الطبيعي يفسر جميع ظواهر الوجود بإرجاعها إلى الطبيعة، ويستبعد كل مؤثر يجاوز حدود الطبيعة ويفارقها: «فالطبيعة علة فاعلية لذاتها»، ويسمَّى أصحاب هذا المذهب بالطبيعيين Naturalists، وهم الدهريون الذين ينكرون وجود الصانع أو الخالق المدبر، ويزعمون أن العالم وجد بنفسه دون حاجة إلى علة خارجة عنه، أو إلى افتراض قوى فائقة للطبيعة، وهو بذلك مذهب يعارض مذهب ما بعد الطبيعة (الميتافيزيقا[ر]) Metaphysics.والمذهب الطبيعي في فلسفة الأخلاق [ر] هو القول: إن الحياة الأخلاقية امتداد للحياة البيولوجية، وإن المثل الأعلى للأخلاق تعبير عن الحاجات والغرائز التي تتميز بها إرادة الحياة.وهو في فلسفة الجمال [ر] القول إن قوام الفن محاكاة للطبيعة، أي إظهار الأشياء كما هي، وهذا المذهب الطبيعي في الفن مرادف للمذهب الواقعي [ر. الواقعية Realism]، وهو ضد المذهب المثالي [ر]Idealism.والمذهب الطبيعي في الدين [ر]، بخلاف الديانات السماوية، لايؤمن بالبعث والحساب، ولكنه لايجحد فكرة الألوهية تماماً، فهو يقوم على إحلال الإله الطبيعي محل الإله فوق الطبيعي.يعود نشوء المذهب الطبيعي، في أقدم الفلسفات، إلى الإغريق، منذ القرن السابع قبل الميلاد، حينما تساءل الأقدمون عن حقيقة الكون، والمبدأ الذي صدر عنه، والمصير الذي ينتهي إليه، وحصروا أجوبتهم بأسباب طبيعية، فكان الماء مبدأ للوجود عند «طاليس»[ر] والهواء عند «انكسيمندرس»[ر] وغيرهما من العناصر الأربعة الطبيعية عند الفلاسفة الأيونيين، الذين لم يقولوا بوجودٍ مستقل لعالم روحي منفصل عن العالم الطبيعي. إضافة إلى مذهب «لوسيب» و«ديموقريطس» و«أبيقور» في الجوهر الفرد، فالأشياء بنظر هؤلاء تتألف من عناصر مادية طبيعية تجمع بين البساطة والامتداد، ومبدؤها الحركة، ومن ائتلافها تنشأ الموجودات وتنحل بانفصام عناصر انفصاماً ميكانيكيّاً، والروح مركبة من ذرات متناهية في الدقة لاتختلف عن عناصر الأشياء الطبيعية إلا بالدرجة، كما أن الحياة بمقتضى الطبيعة عند الرواقيين[ر] هي الخير الأسمى والغاية العليا في الأخلاق، ولكن تصورهم جميعاً للأصل الطبيعي بقي محصوراً في إطار ما يسمى بـ: «النظرة الحيوية للطبيعة»، ومع التغير الثوري الذي لحق بالمواقف الفكرية في بداية عهد العلم الحديث ـ الذي لم يعد يهتم بالإرادة الإلهية التي نظمت الكون، بل أخذ يهتم بالكشف عن الطبيعة ونظامها، بدأت جميع الأحداث تُفهم، وكأنها صور تمثل قانوناً آلياً تحدث بفعل علل آلية، وحاول أنصار المذهب الطبيعي الحديث وصف الكون بألفاظ العلوم الطبيعية، قاصرين إمكان المعرفة على تلك العلوم واستخدام منهجٍ تجريبيٍّ للتفكير في العلوم الاجتماعية والإنسانية، مسايرٍ لمنهج العلوم الطبيعية، بمعاينة الظواهر ومحاولة فهمها، لتعيين الخصائص العامة لأنماط الأشياء وتمييز القوانين التي تجري عليها الظواهر. فتوماس هوبز Hobbes وجون لوك Locke، من فلاسفة التجربة في القرنين السابع عشر والثامن عشر، حاولا إقامة فيزياء اجتماعية هي صدى لفيزياء نيوتن الطبيعية، فكما أن الطبيعة تحكم عناصرها قوانين ثابتة تضمن حركتها وكميتها، كذلك تحكم علاقات الأفراد في المجتمع قوانين ميكانيكية ثابتة. وهولباخ Holbach، الفيلسوف الفرنسي، عدَّ الإنسان جزءاً من الطبيعة وخاضعاً لقوانينها، وما حوادث الشعور لديه سوى نتاج للحياة الدماغية. أما منشأ التفكير فيبرر بالبنية الدماغية الذهنية التي تجعل المرء مستعداً للتفكير كما لو كان مُسْلّماً ببعض المبادئ.أما بالنسبة لمفكري القرن التاسع عشر من أمثال هربرت سبنسر [ر]، فقد تجلى الموقف الطبيعي في آرائه الاجتماعية بما يعرف لديه «بالنظرية العضوية في المجتمع» حيث حلل الحياة الاجتماعية على أسس بيولوجية يحكمها مفهوم التطور الذاتي، ورأى وهكسلي Huxley أن الحياة والفكر يمكن تفسيرهما، من حيث المبدأ، على أنهما نشآ من المادة بطريق التطور. أما القوانين البيولوجية (كالاصطفاء الطبيعي والصراع من أجل البقاء) عند ممثلي «الداروينية الاجتماعية»، أواخر القرن التاسع عشر، فهي المحرك الأساسي لعملية التقدم الاجتماعي، كما أن الشرور الاجتماعية مردّها للتكاثر المتزايد للبشر، فتطور أنواع الكائنات يعلل بمبادئ طبيعية حتمية، وهذه المبادئ كافية لتفسير الأشكال السيكولوجية والاجتماعية، كما هي كافية في تفسير الأشكال البيولوجية.وعند الفلاسفة الألمان حاول كل من «بوخنر» Büchner (طبيب وفيلسوف ألماني، أواخر القرن التاسع عشر) و«هيغل» (من أنصار مذهب التطور) جمع أعم نتائج العلوم الطبيعية وأسسا عليها منظومة للأشياء تستمد من التجربة، وتزعم الاستلهام منها. فـ «هيغل» فسر نشوء الحياة من المادة غير العضوية، واقترح استبدال القوى الإلهية الطبيعية بالدين، أما «بوخنر» فيعد التفكير ضرباً من الحركة الطبيعية لمادة العناصر العصبية المركزية، والألفاظ من قبيل: عقل ونفس وفكر وحس وإرادة وحياة، ليست أشياء قائمة بذاتها بقدر ما هي صفات أو أعمال للمادة الحية. أما المذهب الطبيعي عند «فيورباخ» Feuerbach فقد تجلى في دراسته لجوهر الإنسان، حيث اعتبره النتاج الأعلى للطبيعة، فالإنسان فرد مجرد ككائن بيولوجي بحت، وما الدين سوى تحقق للسمات الإنسانية التي كانت تعزى إلى جوهر مفارق للطبيعة، ففسر التأملات اللاهوتية بعوامل طبيعية خالصة، وجعل سعي الإنسان الغريزي إلى السعادة أساساً للأخلاق الصحيحة. ومن الملاحظ عند الفلاسفة الطبيعيين، الألمان خاصة، وفلاسفة القرن التاسع عشر عامة، اقتران منازعهم «الطبيعية» بالمواقف المادية التي نضحت بها فلسفتهم، حيث لم يكن ثمة فرق واضح في تلك المرحلة بين اللفظتين «الطبيعية» و«المادية»، فالطبيعي أو الواقعي هو «مادي».وفي الأخلاق: المذهب الطبيعي هو الرأي القائل إن غاية الأفعال الخلقية أن يحيا الإنسان وفقاً للطبيعة، ومن ثم لايكبح شهواته وأهواءه، فالسلوك الإنساني عموماً مظهر من مظاهر البيئة، وأن مصدر المقاييس الأخلاقية إما سلطة المجتمع أو النظام والعرف الاجتماعي، لاسلطة شيء فوق الطبيعة أو مصادرها في الرغبات الإنسانية وحاجاته، ولاشيء مما نعتبره، مفاهيم أخلاقية بالذات، وعندها يصبح «الخير والشر» أو «الصح والخطأ» صفة طبيعية خالصة. وإذا كانت الروح لاتشكل، بحسب الطبيعيين، واقعاً مستقلاً يمكن أن يوجد دون تجسيد فلابد من أن ننبذ فكرة الخلود، ومن ثم فأي فلسفة أخلاقية ليست مستوحاة من وجود عالم آخر ما فوق طبيعي، وهذا ما ظنت به الرواقية حيث فهمت القانون الأخلاقي على أنه قانون الطبيعة، الذي يحقق الانسجام معها، وجعلت تصرفات الإنسان تجري وفقاً للعقل، شرط أن نعرف العقل بمقياس الطبيعة لا الطبيعة بمقياس العقل. أما التأويل الطبيعي للقيمة فوصفه، اسبينوزا، في العصر الحديث عندما وحّدّ بين ذاتية الله وذاتية الطبيعة، والله أو الطبيعة لايمكن أن يدعى صالحاً أو طالحاً، فهذه أوصاف نسبية للإنسان.ومذهب الطبيعيين في علم الجمال أنشأه «بلزاك» وبشرّ به زعيم المدرسة الطبيعية الفرنسي «اميل زولا» عام 1902، وأتباع هذا المذهب ينظرون إلى الطبيعة على أنها المجال الصحيح لدراسة الفن، وأنه على الفنان إغفال كل حقيقة باطنة أو قوى خفية، والابتعاد عن أية أحكام تقويمية على ما يجري في الطبيعة، على افتراض أنها ناقصة يعوزها جهد الفنان لإضفاء الكمال عليها، فرسالة الفن، بحسب زولا، ليست رسالة وعظ وإرشاد؛ بل رسالة حق وجمال،ومهمة الفنان لاتتجاوز شرح بيئته ووصف ما فيها، حتى الشر حق موجود في الحياة كالخير، وفي تصويره البارع جمال.ويتجلى المذهب الطبيعي في الدين في استبعاد القول بالمعجزات والخوارق، وإرجاع حقائق الدين إلى فعلٍ للعوامل الطبيعية وقوانينها (كما فعل فيورباخ) أو لتأثير الله موَحَّداً مع النظام الطبيعي (نظام اسبينوزا الفلسفي الذي يوحد بين جوهر الله وجوهر الطبيعة). وبعض الطبيعيين أقروا بالله وأنكروا الوحي والرسل والكتب المقدسة والعناية الإلهية، بحجة أن العقل وحده قادر على معرفة الله، ورفضوا التسليم بوجود جنة أو نار، وهؤلاء هم أصحاب المذهب الطبيعي الإلهي Deism الذين أتى على ذكرهم وفضح دعواهم الإمام الغزالي، وخاصة الأقدمين منهم في كتابه «المنقذ من الضلال».وأخيراً إذا كان الطبيعيون بمختلف آرائهم إزاء الدين والمجتمع والحياة، يجعلون التشبه بعلم الطبيعة ومناهجه في دراسة الظواهر مثلهم الأعلى، فإن فلسفتهم بمجملها كانت أقرب إلى الواقعية منها إلى المثالية، إذ من أولوياتها استبعاد كل ما هو مفارق للطبيعة وما يسمى بالعلل الأولى، واستبدال ما هو طبيعي، والعلل الآلية الفاعلة بها.
المراجع
الموسوعة.العربية
التصانيف
العلوم الإنسانية فلسفة