كان هرقل Heraclius من أعظم أباطرة الروم وأكثرهم شهرة في المصادر العربية؛ لأن اسمه اقترن بالفتوحات الإسلامية وتحرير بلاد الشام ومصر من الحكم الروماني. تسلم عرش الامبراطورية في مرحلة حاسمة في تاريخها، إذ كانت تمزقها الانقسامات والصراعات الداخلية ويهدد وجودَها الأعداءُ الذين هاجموها من جميع الجهات. وقد نجح في درء الأخطار المحدقة بها - ولكن إلى حين - بفضل الإصلاحات العسكرية والإدارية الواسعة وحروبه المظفرة التي أعادت لها الحياة والقوة. أسس أسرة حاكمة حملت اسمه (Heraclides آل هرقل) حكمت القسطنطينية ما يزيد على قرن من الزمن (610-717م).ولد هرقل في كبادوكية من أعمال آسيا الصغرى. كان والده يشغل منصباً عسكرياً رفيعاً في عهد الامبراطور موريكيوس Mauricius ت(582-602م) ثم صار حاكم (أرخون) إفريقيا وعاصمتها قرطاجة. وعندما ثار قائد جيش الدانوب المدعو فوكاس Phocas، واغتصب العرش وبدأ حكمه الدموي بقتل الامبراطور وأبنائه وارتكاب أفظع الجرائم استغاث أشراف العاصمة بهرقل الأب ودعوه لإنقاذ الامبراطورية فأرسل ابنه على رأس أسطول كبير إلى القسطنطينية تمكن من القضاء على فوكاس ونودي به امبراطوراً (610م).كان هرقل خليقاً باسمه البطولي فقد شرع على الفور في إعادة تنظيم الحكومة والدولة بعزيمة قوية، وأمضى السنوات العشر الأولى من حكمه يعمل لرفع معنويات شعبه المنهارة وتقوية الجيش وتنظيم موارد الخزينة.وفي تلك الأثناء كان الفرس بقيادة ملكهم كسرى الثاني برويز Khosrow II ت(591-628م) قد اجتاحوا الأقاليم الشرقية واحتلوا كبرى مدنها مثل أنطاكية ودمشق واستولوا على بيت المقدس (614م) وارتكبوا فيه المذابح وأعمال السلب والنهب، التي طالت الصليب المقدس وتدمير كنيسة القيامة، وامتدت غاراتهم إلى آسيا الصغرى حتى وصلت إلى شواطئ البوسفور (615م)، كما شرعوا في غزو مصر ودخلوا الإسكندرية عام 619، ونجم عن ذلك انقطاع واردات القمح عن العاصمة البيزنطية، فازدادت الأحوال سوءاً فيها حتى إن هرقل فكر في نقل مقر قيادته إلى قرطاجة، ولكن بطريرك القسطنطينية وأهلها شدوا من أزره ووعدوه في السير خلفه لمحاربة الأعداء.وبينما كانت هذه الأخطار تحيق بالامبراطورية انصرف هرقل إلى القيام بإصلاحات بالغة الأهمية منحت الدولة قوة جديدة، فقد أعاد تنظيمها وفق نظام الأجناد أو الثغور، الذي قسمت الامبراطورية بموجبه إلى أقاليم عسكرية كبيرة (دعيت ثيماتا Themes) يتولى كلاً منها قائدٌ عسكري (ستراتيوس Strategos) بدلاً من الأرخون في النظام الإداري السابق، وهو القائد في الإقليم، الذي صار يضم عدداً من الولايات السابقة. وجوهر هذا النظام يتمثل في استقرار الجند بأقاليم آسيا الصغرى، التي قسمت إلى أربعة ثغور، ومنحهم قطعة أرض يستثمرونها ويتوارثونها مقابل التزامهم بتلبية داعي القتال. وهكذا صار نظام الإقطاع الحربي الأساس الذي قام عليه جيش وطني قوي من الفلاحين وهو الذي حرر الامبراطورية من تبعيتها للجند الأجانب المأجورين، الذين كانوا يكلفون الدولة أموالاً طائلة، وبذلك غلبت الصفة العسكرية على إدارة الامبراطورية.أعطت هذه الإصلاحات ثمارها في الانتصارات الباهرة التي حققها هرقل، وأسهمت فيها أيضاً الكنيسة البيزنطية بما بثته من حماس ديني بين الناس وبوضعها ثرواتها تحت تصرف الحكومة التي خوت خزائنها من المال.بعد أن أكمل هرقل استعداداته العسكرية بدأ حملاته الحربية عام 624م ضد الفرس على أرض أرمينيا. وبينما كان يخوض المعارك في شرقي الأناضول تعرضت القسطنطينية عام 626م لهجوم مزدوج شنَّه عليها الفرس والآفار، الذين نقض خاقانهم الاتفاق المعقود بينه وبين هرقل وتحالف مع الفرس الذين زحفوا على رأس جيش ضخم بقيادة شهرباراز Shahrbaraz وعسكروا على شواطئ البوسفور، وحوصرت القسطنطينية براً وبحراً ولكنها صمدت وتمكنت حامية المدينة وسكانها من رد الأعداء على أعقابهم وتكبيدهم خسائر فادحة، وكان هذا الانتصار من أهم العوامل التي أضعفت مملكة الآفار، كما أنه مكّن هرقل من القيام بهجومه المضاد على الساسانيين بعد تحالفه مع الخزر.وهكذا زحف بقواته في خريف سنة 627م إلى قلب بلاد عدوه، وعند نينوى في شمالي العراق نشبت المعركة الحاسمة التي قررت مصير الحرب بين الفرس والروم وحلت بالجيش الفارسي هزيمة ساحقة. دق هرقل أبواب العاصمة طيسفون وسقط كسرى الثاني في ربيع 628 وقتل، وتولى الحكم من بعده ابنه قبادشيرويه، الذي لم يلبث أن عقد صلحاً مع الامبراطور البيزنطي نزل فيه الفرس عن كل ما غنموه واسترد الروم سائر ممتلكاتهم.عاد هرقل إلى عاصمته واستقبل استقبال الأبطال. وفي سنة 630 توجه برفقة زوجته مارتينا إلى بيت المقدس حيث أعاد الصليب المقدس وكل الأشياء التي سلبها الفرس من الكنائس والأديرة.يرى بعض المؤرخين أن هذه الحرب كانت أول حرب مقدسة قام بها العالم المسيحي ضد الشرق الزردشتي. قد أشار القرآن الكريم إلى هذه الأحداث في سورة الروم: )غُلِبَتِ الرُّومُ، في أَدْنَى اْلأَرْضِ وَهُم من بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ( (الروم 2-3).وتجدر الإشارة هنا إلى الرسالة التي بعث بها النبيr في السنة السادسة للهجرة - كما يذكر ابن خلدون في تاريخه - إلى هرقل عظيم الروم يدعوه فيها إلى الإسلام «أسلم تسلم».عدت الحرب الفارسية حدثاً بالغ الأهمية في التاريخ البيزنطي؛ إذ حطمت معركة نينوى قوة الفرس، كما أن انتصار القسطنطينية كسر شوكة الآفار. وبلغت القسطنطينية بهذه الانتصارات ذروة القوة والمجد، فأرسل ملوك الهند والفرنجة يهنئون هرقل بالنصر، على أنه لم تمض إلا سنوات قليلة حتى اجتاح العرب المسلمون المشرق العربي وهزموا الروم في سلسلة من المعارك، ثم أنزلوا بهم هزيمة ساحقة في معركة اليرموك في عام 15هـ/636م التي ترتب عليها تحرير بلاد الشام. وتقول الروايات العربية أن هرقل كان يتابع سير تلك المعارك وعندما بلغه خبر وقعة اليرموك فر من أنطاكية متوجهاً إلى القسطنطينية وهو يودع سورية قائلاً: «عليك يا سورية السلام ونعم البلد هذا». أما بيت المقدس فاستسلمت بعد حصار استمر سنتين للخليفة عمر بن الخطابt وتم تحرير مصر من السيطرة البيزنطية وهرقل على فراش الموت. وهكذا ذهبت انتصارات هرقل السابقة أدراج الرياح ولم يبق من أعماله سوى تنظيماته الإدارية والحربية، التي ارتكزت عليها قوة بيزنطة في القرون التالية.أما بخصوص سياسته الدينية فقد جرت في عهده محاولة التوفيق بين المذهب الخلقيدوني والمونوفيزيقية التي تولاها بطريرك القسطنطينية سرجيوس Sergios السوري الأصل والمتمثلة بعقيدة الإرادة الواحدة في السيد المسيحu أو المونوثلستية Monotheletism. وصدر مرسوم امبراطوري سنة 638 Ecthesis يقرر هذه العقيدة، وكان ذلك بهدف كسب أصحاب الطبيعة الواحدة في سورية ومصر عشية الفتوحات العربية، ولكن هذا المشروع لقي معارضة كبيرة من الأرثوذكس وأصحاب الطبيعة الواحدة على حد سواء وأخفق في نهاية المطاف. تزوج الامبراطور هرقل مرتين أنجبت له الأولى ابنة وولداً ولكنها ماتت في أثناء وضع ابنها قسطنطين، فتزوج هرقل ابنة أخته مارتينا Martina وأثار هذا الزواج حنق الكنيسة والشعب لأنه يخالف القانون الكنسي والأعراف السائدة. وقد مات أربعة من الأطفال التسعة الذين أنجبتهم في أثناء الولادة وعاش اثنان يحملان عاهات جسمية، وازدادت كراهية الناس لمارتينا حين حاولت جعل وراثة الحكم في نسلها فقط.مات هرقل بعد أن حكم اثنتين وثلاثين سنة حافلة بالأحداث المصيرية، وقد أوصى بوراثة العرش لابنيه قسطنطين Konstantinos III وهرقليوناس Herakleonas. كان عهده نقطة تحول في تاريخ الامبراطورية الرومانية الشرقية من الناحيتين السياسية والحضارية، إذ انتهت المرحلة الرومانية وبدأ التاريخ البيزنطي فعلياً، الذي اتخذ روما مثالاً له في الحكم والإدارة واعتمد اللغة والثقافة الإغريقية والمسيحية الأرثوذكسية ديناً ومذهباً.فرض هرقل اللغة الإغريقية بصورة رسمية بدلاً من اللغة اللاتينية في البلاط والإدارة والجيش، كما تخلى عن الألقاب الرومانية المعروفة (الامبراطور القيصر أغسطس)، واتخذ لنفسه اللقب الإغريقي القديم باسيليوس Basileus، أي الملك الذي صار اللقب الرسمي لقياصرة الروم البيزنطيين، وهكذا ترك هرقل بصماته الواضحة على مسار التاريخ البيزنطي.
المراجع
الموسوعة.العربية
التصانيف
العلوم الإنسانية التاريخ جغرافيا