يطلق مصطلح «الكتابة المسمارية» cuneiform writing على الكتابة الأولى التي اخترعت وطورت في بلاد الرافدين قبل نحو خمسة آلاف عام، واستمر استعمالها في المشرق العربي ومناطق الجوار (بلاد فارس والأناضول) طوال ثلاثة آلاف عام تقريباً. عرفت هذه الكتابة بالمسمارية؛ لأنها اعتمدت علامات تتألف من خطوط أفقية وعمودية ومائلة تنتهي برؤوس مثلثة تجعلها شبيهة بالمسامير. إن الافتراض العام المقبول حول نشوء الكتابة المسمارية، التي أنهت عصور ماقبل التاريخ في المنطقة، يذهب إلى أنها بدأت من الحاجة إلى توثيق ما يُعطى أو يُؤخذ من مواد وسلع مختلفة بدلاً من الاعتماد على الذاكرة، ذلك أن الذاكرة البشرية لم تعد كافية لاستيعاب حركة المواد في ظل نشوء المدن وتطور الأعمال، ولاسيما بعد ظهور المعابد وتطورها إلى مؤسسات تقوم بدور مركزي في الحياة اليومية للمجتمع القديم، وكذلك نشوء أنظمة الحكم الأولى.نقوش مسمارية على جدار قصر آشوري (متحف متروبرليتان للفنون، نيويورك)يميل معظم الباحثين إلى أن أولى الخطوات في اختراع الكتابة تعود إلى العصر الحجري الحديث، حينما انتشرت في مواقع عديدة من الشرق الأدنى القديم، قطع طينية صغيرة بحجوم وأشكال هندسية مختلفة، يطلق عليها حالياً «القطع الرمزية» tokens. وقد توصلت دراسات متعددة إلى أن هذه القطع الرمزية استعملت بمنزلة سجلات حفظ، وكانت توضع في صناديق أو سلال، إما متفرقة أو مشدودة بخيط واحد بعد ثقبها، ثم أخذت تحفظ لاحقاً داخل كرات طينية مجوفة، ولم يكن بالإمكان معرفة ما بداخل هذه الكرات إلا بكسرها، ولكنها أصبحت في فترات لاحقة تُختم بعلامات تشير إلى عدد القطع الرمزية الموجودة في داخلها. وبمرور الزمن أضيفت إلى الأعداد المرسومة على الكرات الطينية رسوم بسيطة، توضح ما كانت ترمز إليه تلك الأعداد. أي إن الكرات الطينية تحولت إلى شكل بدائي مبكر من الألواح الكتابية التي لم تظهر بأشكالها الاولى إلا في عصر أوروك Uruk (الوركاء) المتأخر (3300- 3000ق.م)، وهو العصر الذي تمثله الطبقة الرابعة - أ في موقع مدينة أوروك القديمة.لم تكن أشكال العلامات في الألواح الكتابية الأولى مسمارية، وإنما كانت صورية pictographic؛ ذلك أنها كانت مقتصرة على رسم صورة الشيء المراد تسجيله أو جزء منه، مثل رسم رأس الثور للتعبير عن الثور. وكانت تلك الرسوم تُشفع في الغالب بأرقام تُرسم بخطوط عمودية أو دوائر لتوثيق أعداد المواد المسجلة، ولم تكن تلك الطريقة الصورية في الكتابة تعبر عن لغة محددة، ولكن الكتبة القدماء أصبحوا تدريجياً أقل اهتماماً برسم تفاصيل الرسوم واستبدلوا بالخطوط المنحنية خطوطاً مستقيمة توخياً للسرعة في التدوين. وقد جعلهم هذا في غنى عن أقلام القصب المستدقة الطرف، فاستبدلوا بها أقلاماً ذات حافة عريضة. ولما كانت هذه الأقلام تمسك باتجاه مائل فإن أحد طرفي النهاية العريضة لها يغرز في لوح الطين أولاً, ثم ينزل الطرف الثاني للمساعدة على رفع الطرف الأول، وبهذا تأخذ غرزة الطرف الأول شكل مثلث والثاني شكل خط مستقيم قليل الغور، أي إن الضربة الكاملة لطرف القلم تأخذ شكل المسمار، وهكذا ظهر الشكل المسماري للعلامات الكتابية نتيجة لاستعمال الطين مادة للألواح الأولى والقصب للأقلام الأولى. لوح كتابة مسمارية من بلاد مابين النهرين (2400-1700ق.م)وعلى الرغم من أن لغة النصوص الأولى لم تكن معروفة، يمكن القول إن الألواح المبكرة كانت تحمل نصوصاً اقتصادية تشمل إيصالات تسلم أو إشعاراً بإرسال مواد أو قوائم جرد، ويؤيد ذلك كثرة الأرقام فيها وتكرارها. وقد ساعدت تلك النصوص على تكوين معرفتنا بأسس النظام في عصور الكتابة الأولى، ومن جهة أخرى مهدت للانتقال إلى المرحلة التالية في تطور الكتابة المسمارية، فقد اقترن شكل كل علامة مسمارية بقيمة صوتية تمثل اسم الشيء الذي كانت ترمز إليه. واتضح ذلك حين ثبت من النصوص اللاحقة أن اللغة الأولى التي أُبتكرت الكتابة المسمارية لتدوينها كانت السومرية. فعلى سبيل المثال إن كلمة بقرة في اللغة السومرية هي «أب» وبذلك أصبحت للعلامة المسمارية التي تطورت من رسم رأس البقرة القيمة الصوتية «أب». وهكذا وجد في العصور الأولى من تاريخ الكتابة المسمارية أكثر من ألف علامة تدل كل منها على شيء معين ولها القيمة الصوتية المطابقة لاسم ذلك الشيء، وهذه العلامات هي ما يطلق عليها اللغويون تسمية «لوغوغرام» logograms، أي العلامات التي ترمز إلى كلمات. وقد هيأت العلامات الرمزية الأساس للانتقال إلى المرحلة المقطعية في الكتابة المسمارية لتصبح وسيلة مناسبة لتدوين أي لغة، فقبل المقطعية لم يكن متاحاً سوى كتابة الأشياء المادية وأعدادها، ولم يكن ممكناً تدوين حالة تلك الأشياء أو عائديتها أو الغاية من تسجيلها. إن الكتابة المقطعية syllabic تعني اختيار مجموعة علامات مسمارية تشكل ألفاظها كلمة معينة من دون أن يكون لذلك صلة بالمعنى الذي تدل عليه كل واحدة منها. وبهذه الطريقة أمكن استعمال الخط المسماري في تدوين الأسماء والأفعال، بمختلف تصاريفها، والصفات والمعاني المجردة جميعها. وقد ساعدت هذه الطريقة على الاستغناء عن عدد كبير من العلامات الرمزية والاكتفاء بما مجموعه ستمئة علامة مسمارية تصلح لتدوين أي لغة محكية. والغالب في ألفاظ المقاطع أنها تتألف من حرفين صامت وصائت، مثل: با، دي، سو، أو بالعكس مثل: أب، إد، أر. وقد تكون تلك المقاطع ثلاثية الحروف، نحو: أدا وسود، أو رباعية نحو: أمار ومونو، وبدرجة أقل خماسية مثل: خامان وإلداك. ويعود تأريخ أول مجموعة من الألواح المدونة بالطريقة المقطعية إلى 2800ق.م تقريباً.استمرت الكتابة المسمارية تدون على ألواح الطين في جميع عصورها. وهذه الألواح إما أن تكون مربعة أو مستطيلة، وأحياناً تكون قرصية أو مخروطية الشكل. وقد دونت بعض النصوص الطويلة على أسطوانات أو مناشير طينية كبيرة. وكانت بعض الألواح تُشوى في أفران خاصة. ولم تقتصر مادة ألواح الكتابة على الطين، وإنما استعمل الحجر والمعدن والخشب للغرض نفسه وبدرجات مختلفة. أما الأقلام التي استعملت في الكتابة المسمارية فكانت تصنع من القصب، وفي حالات أقل شيوعاً من المعدن أو العظم، وكانت تلك الأقلام تستعمل أيضاً لرسم الخطوط الأفقية بين الأسطر والخطوط العمودية بين الأعمدة حين تقتضي الحاجة إلى ذلك. كان اتجاه الكتابة المسمارية من اليسار إلى اليمين في جميع العصور التي استعملت فيها, ولم تستعمل علامات بين كلمة وأخرى، ولما كان استعمال الكتابة المسمارية قد دام مدة تصل إلى ثلاثة آلاف عام، فقد كانت أشكال العلامات في تطور مستمر من عصر إلى آخر. وحتى في العصر الواحد كانت العلامة المسمارية تختلف في الشكل بحسب اختلاف موضوعات النصوص التي ترد فيها، وهذا يعني أن كل علامة مسمارية وصلت بأشكال مختلفة قد يصل عددها إلى أكثر من عشرين. كتابة مسمارية (1600-1300ق.م)دلت الطريقة المقطعية على أن الكتابة المسمارية ابتكرت أصلاً لتدوين اللغة السومرية، غير أن تكييف الخط المسماري لجعله مناسباً لتدوين اللغة لم يكن بالإجراء السهل؛ إذ كانت هناك مسائل عديدة تحتم على الكتبة الأوائل إيجاد الحلول لها، ومن تلك الحلول ما يُطلق عليه اليوم «تجانس الألفاظ» homophony، و«تعدد الألفاظ» polyphony، والأول يعني وجود عدة علامات مسمارية مختلفة الأشكال والدلالات ولكنها متطابقة الألفاظ، مثل العلامات التي تدل على الكلمات «أساس»، «تل» و«ملح»، وكانت لها أشكال مختلفة، ولكنها تشترك في اللفظ، وهو «دو»، أما تعدد الألفاظ فيُقصد به وجود عدة ألفاظ لعلامة مسمارية واحدة وكل لفظ يدل على معنى مختلف. فمثلاً العلامة التي تلفظ «دو» بمعنى «أساس»، يمكن أن تلفظ «غوب» بمعنى «وقف» و«مين» بمعنى «طبل» و«توم» بمعنى «حَمَلَ». وهذا ماجعل العلماء المحدثون يضعون أرقاماً متسلسلة للألفاظ والعلامات لتمييزها من بعضها. ومن المعالجات الأخرى التي نفذها الكتبة القدماء على نحو واسع استعمالهم علامة مسمارية واحدة للألفاظ المتقاربة، فمثلاً كانت العلامة المسمارية نفسها تقرأ: أك، أق، أغ، وعلامة أخرى تقرأ: إت، إد، إط. وهكذا قللوا كثيراً من عدد العلامات المسمارية التي يحتاجون إليها في كتابتهم.كانت اللغة الأولى التي استُعمل الخط المسماري لتدوينها، من بعد السومرية، اللغة الأكدية بلهجاتها المختلفة في بلاد الرافدين والشام، واقتبست الكتابة المسمارية لتدوين اللغة العيلامية في بلاد فارس، ودونت بها لغات الحثيين، النسيالية والبلائية واللوائية، في بلاد الأناضول. واستعملت الكتابة المسمارية أيضا لتدوين النصوص الحورية، باللغة الميتانية، في سورية وبلاد الأناضول. وآخر اللغات التي اقتبس الخط المسماري لتدوينها هي الفارسية القديمة (البهلوية) وكانت لغة الأخمينيين. وحين ابتكر الأغاريتيون أبجديتهم الأولى في الألف الثاني قبل الميلاد، وضعوا لها علامات مسمارية جديدة ودونوها من اليسار إلى اليمين.وقد اقترنت بتطور الكتابة المسمارية وانتشارها مواقع لمراكز حضارية مهمة على أرض بلاد الرافدين والشام وسائر أرجاء الشرق الأدنى القديم، ويمتد تأريخ هذه المواقع من أوائل الألف الثالث قبل الميلاد إلى القرن الأول الميلادي. وهذه المواقع هي: أوروك, جمدة نصر وتل براك (2900- 2600ق.م)، أور (2600 -2500ق.م)، كيش, فاره، أبوالصلابيخ, إيبلا، غرسو وأوروك (2600- 2300ق.م) أكد، لغش وسوسة (2300- 2150ق.م) أور، أوما، غرسو (2150 - 2000ق.م) بابل، لارسا، نفر، أشنونا، سيبار، تل الدير، أور,، كيش، أوروك، ماري وكانيش (2000 - 1600ق.م). بوغازكوي، نوزي، المملكة الميتانية، الآلاخ، العمارنة، أغاريت وعيلام (1600- 1000ق.م)، آشور، كلخ، نينوى وبلاد أورارطو (1000- 625ق.م)، بابل (625- 539ق.م)، برسيبوليس (539 - 331ق.م).وبعد أن مرت قرون عديدة على التوقف عن استعمال الكتابة المسمارية أُعيد اكتشافها عام 1611م حينما تم التوصل إلى أن علاماتها ليست نقوشاً زخرفية وإنما هي كتابة قديمة. ومع اكتشاف المزيد من النصوص المسمارية شرع الباحثون في أوربا في حل رموز هذه الكتابة الغامضة. وكان المفتاح في حل الرموز المسمارية النصوص الثلاثية اللغة المكتشفة في برسيبوليس، عاصمة الامبراطورية الأخمينية، وهذه النصوص كانت مدونة بالخط المسماري وباللغات الأكدية/البابلية، العيلامية، والفارسية القديمة. وفي منتصف القرن التاسع عشر الميلادي أصبح من الممكن القول إن رموز الكتابة المسمارية قد قرئت وبات متاحاً للعالم الحديث الاطّلاع على مضامين النصوص القديمة التي دونت بالكتابة المسمارية. وعلى هذا النحو بدأت عملية ترجمة النصوص المسمارية القديمة التي أثارت دهشة العالم الحديث بتنوع موضوعاتها، وبما تفصح عنه من تطور حضاري، فقد كانت من بين النصوص المسمارية المكتشفة مجموعات كبيرة من النصوص التي تتضمن الملاحم والأساطير والترانيم وأدب الحكمة والمناظرات وغيرها من أبواب الأدب. وكانت هناك أعداد كبيرة من النصوص التأريخية والقانونية والاقتصادية والإدارية والرسائل الرسمية والشخصية فضلاً عن النصوص التعليمية والرياضية والفلكية وغيرها. وقد اكتشفت في مواقع المدن القديمة مكتبات وأرشيفات كاملة، مثل مكتبة آشوربانيبال في نينوى (25000 لوح مسماري)، و أرشيف ماري (20 ألف لوح مسماري) وأرشيف إيبلا (20 ألف لوح مسماري) ويقدر عدد ما اكتشف من نصوص مسمارية، حتى الوقت الحاضر، بما يتجاوز 300 ألف نص.                                                                                     

المراجع

الموسوعة.العربية

التصانيف

العلوم الإنسانية   التاريخ   جغرافيا