شارل دوغول Charles De Gaulles زعيم ورجل دولة كبير وأحد رؤساء الجمهورية الفرنسية. ولد في 22/11 بمدينة ليل lille شمالي فرنسا، صمم منذ طفولته على «أداء فريضة الواجب الوطني» كما يقول في مذكراته، فالتحق بكلية «سان سير» Saint Cyr العسكرية، ولما تخرج منها سنة 1912، خدم تحت قيادة العقيد فيليب بيتان[ر] Philippe Pétain، واشترك في الحرب العالمية الأولى ووقع أسيراً لدى الألمان عام 1916، وبعد الحرب عمل مدرساً للتاريخ العسكري في كلية سان سير نفسها ومرافقاً للماريشال بيتان، حتى سنة 1927، كما شغل مركز مساعد رئيس الأركان العامة في كل من سورية ولبنان ثم بلاد الراين، ثم استدعي للعمل سكرتيراً عاماً لهيئة الدفاع الوطني، وكان صريحاً في آرائه مع رؤسائه، ألف كتابين هما «الخلافات بين الأعداء» و«شريط السيف» وفيهما تعرض للخطر الألماني خصوصاً بعد أن تسلم أدولف هتلر[ر] Adolf Hitler السلطة في ألمانيا، إضافة إلى مقالاته في الصحف والمجلات، ثم أصدر كتابه «جيش المستقبل» الذي بين فيه أهمية تجهيز الجيش بالآليات والمدرعات والمفاهيم الحديثة للجيوش، وقد اقتبس منه الجنرال هاينتس غودريان Heinz Guderian قائد المدرعات الألمانية في الحرب العالمية الثانية. وبعد أن أنهى دورة الدراسات العسكرية العليا، عيّن العقيد شارل دوغول قائداً لسلاح المدرعات في منطقة متز Metz، ثم اندلعت الحرب العالمية الثانية واستولى الألمان على بولندا والدنمارك وهولندا والنروج، وفي أوائل 1940 انطلقوا غرباً فاخترقوا «خط ماجينو» Maginot وهددوا بالتطويق أكثر من 800 ألف جندي فرنسي وبريطاني، وكان دوغول قد عين منذ 1940 قائداً للفرقة الرابعة المدرعة وفرقة مدفعية وفرقة فرسان، فهاجم الألمان بعنف محاولاً عرقلة زحفهم وتطويق مؤخراتهم، ولكن قوة المدفعية والطيران الألماني أفشلت الهجوم، مما جعل الجنرال ويغان Weygand القائد العام للجيوش الفرنسية، يفكر في طلب الهدنة، وكان الماريشال بيتان وزير الدفاع وكبار الضباط يؤيدونه في ذلك على الرغم من معارضة دوغول، الذي غادر فرنسا في 17/6/1940بالطائرة إلى لندن، وأعلن من هناك متابعة «فرنسا الحرة» للحرب ضد الألمان من خارج الأراضي الفرنسية التي استسلمت لألمانيا، وقد أُلفت في فرنسا هيئة عسكرية حكمت على دوغول بالإعدام، ولكنه لم يعبأ بذلك بل شرع في تشكيل جيش فرنسي، وقد أمدته بريطانيا بكل مساعدة ممكنة وعدّت الجنرال دوغول القائد العام لقوات فرنسا الحرة.وجه دوغول أول اهتماماته إلى المستعمرات الفرنسية في إفريقيا، وفي 26/8/1940 انضمت تشاد Tchad إلى فرنسا الحرة، ثم الكاميرون، وتبعتها برازافيل Brazzaville، وبعد انضمام الغابون Gabon فتحت أمام دوغول مجالات إفريقيا الواسعة، على الرغم من إخفاقه في ضم داكار Dakar على الأطلسي غربي إفريقيا، ثم عاد إلى لندن حيث سعى لإنشاء منظمة في قلب فرنسا لمقاومة الألمان، وتأسيس وكالة أنباء فرنسية وإصدار مجلة باسم فرنسا الحرة وجريدة سميت «فرنسا».ومد دوغول بصره إلى سورية ولبنان، وكانت السلطات الفرنسية فيهما تدين بالولاء لحكومة فيشي Vichy (مقر الحكومة الفرنسية بعد استسلام فرنسا)، وكان يقدر أن المحور إذا ربح الحرب فسيستولي على هذين البلدين، وإذا خسر فسيقعان تحت السيطرة البريطانية، فكتب إلى حكومة فيشي طالباً ضم القوات الفرنسية فيهما إلى فرنسا الحرة، فرفض الجنرال ويغان الطلب، ونادى بتنفيذ حكم الإعدام بدوغول. ونجم عن المباحثات الفرنسية الألمانية السماح للطائرات الألمانية باستعمال القاعدتين الجويتين في دمشق وحلب، بعد قيام ثورة رشيد عالي الكيلاني بالعراق، واتخذت ترتيبات دعمها بالمعدات والآليات عبر الحدود السورية. فاتفقت إرادة دوغول وبريطانيا على اجتياح سورية ولبنان، وفي 8/6/1941 اجتازت قوات بريطانيا وفرنسا الحرة الحدود السورية واللبنانية، تحت قيادة بريطانية، وتراجعت أمامها قوات حكومة فيشي بسبب استحالة نجدتها من فرنسا، وفي 21/6/1941 دخلت قوات الحلفاء دمشق، وبعد مفاوضات مضنية تم الاتفاق بين بريطانيا وحكومة فيشي على إيقاف إطلاق النار، والسماح لمن شاء من الفرنسيين بالإبحار إلى حيث يريد.أما في الشرق الأقصى فقد اصطدم دوغول بالتصرفات الأمريكية، وقال في مذكراته أن الرئيس فرانكلين روزفلت[ر] يريد «أن تكون كلمته قانوناً على العالم»؛ ومع أن الرئيس الأمريكي أعلن في 11/11/1944 قبول فرنسا الحرة في قائمة الدول المشمولة بقانون الإعارة والتأجير، فقد استولت القوات الأمريكية على جميع بواخر فرنسا الحرة الموجودة في الموانئ الأمريكية، ومع ذلك وافق دوغول على وضع المستعمرات الفرنسية في جنوبي شرقي آسيا تحت تصرف الحلفاء «شريطة أن يحترموا السيادة الفرنسية عليها».وفي ربيع عام 1942 استبدل اسم «فرنسا الحرة» بتعبير «فرنسا المحاربة، أو المقاتلة» France Combattante.تفرغ دوغول بعد ذلك إلى تشجيع المقاومة داخل فرنسا ومدها بالسلاح وإعداد الجيوش الفرنسية لتشترك في الإنزال الذي كان يحضر له في فرنسا وإنكلترا، وقد بدأت المقاومة تضرب تجمعات القوات الألمانية المحتلة، ووجه دوغول رسالة إذاعية جاء فيها «أن من حق الفرنسيين الطبيعي قتل الألمان»، وأنشئ مجلس في فرنسا ضم جميع زعماء المقاومة في جنوبي فرنسا، الذين أكدوا انضواءهم تحت لواء دوغول، وكانوا يمدون الحلفاء بمعلومات دقيقة عن المنشآت العسكرية الألمانية على شواطئ الأطلسي وقواعد الغواصات، وقد تضخمت قوات المقاومة بتشجيع دوغول واشتركت في القتال إلى جانب الحلفاء الذين نزلوا في فرنسا في6/6/1944، كما خاضت المقاومة ضد الألمان معركة مريرة في باريس بتاريخ 19/8/1944، فسارعت الفرقة المدرعة الفرنسية الثانية بقيادة الجنرال لوكلير (التي كانت تحت إمرة دوغول) إلى مساعدتها. وفي 25/8/1944 تحررت باريس، وفي اليوم التالي وصل دوغول إلى باريس حيث استقبل كالفاتحين، وأعلن منها الحكومة الفرنسية المؤقتة برئاسته، وهكذا تعاونت الجيوش الفرنسية التي نزلت بقيادة دوغول مع الحلفاء، وساعدتها قوات المقاومة، مما أربك الألمان وجعل التحرير أسرع، بل وشاركت هذه الجيوش فيما بعد في التوغل داخل الأراضي الألمانية حتى استسلام الألمان نهائياً.هذه المشاركة في القتال دعت الجنرال دوغول إلى المطالبة في 10/9/1945 بفصل الضفة اليسرى لنهر الراين (رينانيا) عن ألمانيا، ووضعها تحت إشراف فرنسا وبريطانيا وبلجيكا وهولندا من الناحيتين الاستراتيجية والسياسية، وفصل منطقة الرور Ruhr عن ألمانيا لتصبح منطقة دولية، وكان همه اجتناب خطر ألمانيا في المستقبل، ولذلك عقد حلفاً مع الاتحاد السوڤييتي.وفي أثناء رئاسة دوغول للحكومة المؤقتة، جرت أحداث خطيرة في سورية ولبنان، وكان الجنرال كاترو Catrux قد أعلن في 27/9/1941 استقلال سورية بالاتفاق مع دوغول وتأييد إنكلترا وضمانتها، وفي 21/11/1941 أعلن استقلال لبنان، وكان دوغول يريد الوصول بهما إلى الاستقلال، ولكن شرط أن يحصل على ضمانات تحفظ مصالح فرنسا الاقتصادية والثقافية والاستراتيجية، وتحفظت الدولتان بشأنها خشية إعادة توطيد السيادة الفرنسية عليهما، ويبدو أن دوغول، بعد تحرر فرنسا من الاحتلال الألماني، أراد العودة إلى السياسة الاستعمارية، فأرسل تعزيزات عسكرية إلى سورية ولبنان في 20/5/1945، مما تسبب في قطع الدولتين مفاوضاتهما مع فرنسا، وكان مندوبها الجنرال بينه Beynet قد تقدم بطلبات دوغول إلى سورية، أبرزها احتفاظ فرنسا في سورية بقواعد بحرية وجوية وامتيازات اقتصادية وسياسية، فرفضها السوريون، وعاد ممثل فرنسا إلى دوغول الذي أعطاه التعليمات اللازمة، وبدأت الأسر الفرنسية تغادر سورية إلى لبنان، وكثرت الاشتباكات بين السوريين والقوات الفرنسية حتى كان يوم 29/5/1945، حين هاجم الفرنسيون المجلس النيابي السوري، وقصفوا دمشق بالمدفعية والطيران، وانتشرت الثورة في جميع أنحاء سورية وعم الغضب البلاد العربية، وتحدثت بعض الأنباء عن حشد قوات عراقية على الحدود السورية، وهنا تدخلت بريطانيا، ووجه رئيس وزرائها إنذاراً إلى دوغول يعلن فيه أنه أمر القائد العام بالشرق الأوسط بالتدخل لوقف سفك الدماء، وطلب منه أن يأمر حالاً القوات الفرنسية بوقف إطلاق النار والانسحاب إلى ثكناتها لئلا تصطدم بالقوات البريطانية، ولما وردت مذكرة احتجاج سوفييتية وأخرى أمريكية بسبب أحداث سورية اضطر دوغول إلى إصدار الأوامر للقوات الفرنسية بالانسحاب، وانتهى الأمر باتفاق فرنسي ـ إنكليزي على جلاء الطرفين عن سورية ولبنان.وكان دوغول يزاول الحكم في الحكومة المؤقتة بعقلية رئاسية، فلما بدأ التذمر في صفوف الشعب الفرنسي، أجرى دوغول استفتاء عاماً أسفر عن إيثار الشعب لحكم نيابي، فاستقال من منصبه سنة 1946 واعتزل السياسة.وعندما نشبت الثورة الجزائرية، وأصبحت تكلف الميزانية الفرنسية 770 مليار فرنك فرنسي سنوياً، وأجبرت فرنسا على الاحتفاظ بـ 700 ألف جندي فرنسي في الجزائر لمجابهة تلك الثورة العظمى التي بدأت تؤثر في الحكومة الفرنسية في باريس نفسها، مالت هذه الحكومة إلى إعادة النظر بسياستها العسكرية، مما أثار نقمة المستوطنين المتطرفين في الجزائر، وفي 13/5/1958 قامت فرقة المظلات بالجزائر بانقلاب أدى إلى عودة دوغول إلى الحكم، وأعطاه الانقلابيون سلطات واسعة واستثنائية.لم يتسرع دوغول في جمع السلطات بين يديه كي لا يكون أداة طيعة للانقلابيين، بل مال إلى الحصول على موافقة الجمعية الوطنية الفرنسية على ذلك، وتقدم بمشروع دستور (للجمهورية الخامسة) يعطي أقاليم الاتحاد الفرنسي في إفريقيا حق تقرير المصير.عمدت العناصر اليمينية المتطرفة مرة أخرى إلى التمرد الذي قاده ضباط كبار، وهنا اتجه دوغول إلى الرأي العام الفرنسي، واتخذ التدابير اللازمة لقمع حركة المتمردين الفرنسيين بالجزائر، مما اضطر قادة الانقلاب إلى الفرار. وانتهى الأمر باعتراف فرنسا باستقلال الجزائر سنة 1962، وانسحابها نهائياً من ذلك البلد العربي المكافح الذي قدم مليون شهيد.وكان دوغول قد تولى رئاسة الجمهورية في 8/1/1959 بعد انتخـابات عـامة، وفي 19/12/1965 أعيد انتخابه، وهكذا حكم فرنسا لفترتين رئاسيتين متواليتين، كانت سياسته خلالهما تتلخص في المطالبة بالعودة إلى اعتماد الذهب كقاعدة في المعاملات الدولية، ونقل مقر قيادة حلف الأطلسي من باريس، ثم قام بالانسحاب من الالتزامات العسكرية الأطلسية 1966-1967 واعتمد سياسة التقارب مع ألمانيا، ومع الاتحاد السوفييتي، فزار موسكو بتاريخ 13/6/1966، وطالب بعقد مؤتمر دولي لإعادة التوازن في منظمة الأمم المتحدة، كما طالب بحل مشكلة فييتنام سلمياً متهماً الولايات المتحدة بالتدخل غير المشروع بالشرق الأقصى، وفي تموز 1966 زار إثيوبيا وكمبوديا، وعمل على استبعاد بريطانيا من السوق الأوربية المشتركة (لأنها رأس جسر أمريكي في أوربا)، واعترف بالصين الشعبية، وأقام علاقات جيدة مع بعض دول العالم الثالث، واستنكر العدوان الصهيوني على البلاد العربية سنة 1967، وبعد هجوم صهيوني على مطار بيروت أصدر قراراً بمنع إمداد إسرائيل بالأسلحة الفرنسية، كما شجع إقامة قوة نووية فرنسية ضاربة رفعت فرنسا إلى مصاف الدول النووية العظمى، واتجهت فرنسا في عهده إلى الازدهار الاقتصادي، وعلى الرغم من كل ذلك أدت سياسة دوغول الداخلية إلى تذمر في صفوف الطلاب ثم العمال، وبعد اضطرابات أيار 1968، أجرى استفتاء على سياسته الشخصية فكانت نتيجته غير مؤيدة له، فاستقال في 28/4/1969. وفي 9/11/1970 توفي شارل دوغول في «كولومبي» Colombey عن عمر ناهز الثمانين عاماً.كان شارل دوغول طويل القامة، قوي الشكيمة، يؤمن بعظمة فرنسا، وقد سعى طيلة توليه الحكم بين 1958-1969 لتوطيد مركزها دولة عظمى، كان في شبابه يؤمن بالقوة كحل لكل شيء، وكان الرئيس روزفلت يتحاشى الاعتماد عليه «بسبب طباعه الاستبدادية». تدرب في مطلع حياته العسكرية على نهج المارشال بيتان الذي «علمه فنون القيادة وجبروتها» كما يقول في مذكراته، فلما استلم دفة الحكم حاول إقامة حكم رئاسي، ولكن الاستفتاء الشعبي خذله، ويظهر أنه أصبح مع الزمان وحكمة تجاربه يؤمن بالمفاوضات والحلول السلمية، ويرضى بحق الشعوب في تقرير مصيرها.كل هذا وغيره، وخاصة خلال رئاسته للجمهورية بين 1959 و1969، جعل لدوغول مكانة تاريخية مرموقة، أدت إلى تأليف حزب فرنسي يستند إلى أفكار دوغول ومبادئه، حمل أخيراً اسم «التجمع من أجل الجمهورية»، لأن دوغول لم يكن يوافق على استخدام اسمه لأي تنظيم سياسي، وقد حاول شيراك، الذي أصبح رئيساً للوزارة الفرنسية في عهد الرئيس فاليري جسكار ديستان، والرئيس فرانسوا ميتران، ثم أصبح رئيساً للجمهورية الفرنسية في آخر القرن العشرين ومطلع القرن الواحد والعشرين، حاول إحياء مبادئ دوغول والسير على نهجه، خصوصاً في توطيد مكانة فرنسا في أوربا والعالم والتقارب مع ألمانيا وروسيا واحترام حرية الشعوب وغيرها من المبادئ الدوغولية المعروفة.
المراجع
الموسوعة.العربية
التصانيف
العلوم الإنسانية التاريخ جغرافيا