التبريد المفرط، هو تبريد الأشياء إلى درجات حرارة منخفضة جداً قريبة من الصفر المطلق (صفر كلفن)، وطرائق الوصول لمثل هذه الدرجات، وخصائص المواد عندها. ونظراً لاتساع هذا الموضوع وتطبيقاته أصبح علماً قائماً بذاته سمي علم القرّ أو علم درجات الحرارة المنخفضة.

لقد تطور مدلول هذا العلم من حيث المقصود بمجال درجات الحرارة المنخفضة، فقد بدأ بمجال يقع تحت الدرجة 150 كلفن kelvin (مطلقةK) وقربها، ثم درجة حرارة الهواء السائل قرابة 80 كلفن، وبعدها درجة حرارة الهليوم السائل قرابة 4 كلفن، ليصل اليوم إلى درجات حرارة بجوار الصفر المطلق، ولا يبتعد عنه إلا بقرابة نانو درجة.

يرتبط مفهوم درجة الحرارة ومدلولها ارتباطاً وثيقاً بكمية الحرارة؛ وبالتالي بالطاقة التي يُخزِّنها جسم ما وتوزعها، وكذلك يرتبط بالمقصود العام للسخونة والبرودة. فعندما تسخّن كمية من الجليد؛ فإنها تعطى طاقة تتوزعها ذرات الماء وجزيئاته المرتبة ضمن شبيكة بلورية مرتبة منتظمة فيما بينها، فيزداد نشاطها مهتزة بسعات أكبر حول مواقع توازنها، ومع زيادة الطاقة المقدمة تفقد الجزيئات هذا الترتيب، فتصبح فجأة في فوضى متحركة ضمن حجم الماء كله، وعندما تأخذ الجزيئات كمية إضافية كافية من الطاقة، تبدأ بترك الماء متبخرة لتشغل أرجاء الوعاء كله.

كانت حالة الجليد وجزيئاته مرتبة قبيل انصهاره توصَف بدرجة حرارة صفر سلزيوس celsius (مئوية)، أي قرابة 273 كلفن، وحالة الماء عند تبخره بالدرجة مئة سلزيوس؛ قرابة 373 كلفن. ويمكن أن تقَارن حالات المواد الأخرى بحالة الماء وتغيراتها اعتماداً على سلم سلزيوس، أو سلم كلفن؛ بإعطاء درجات حرارة مقابلة مرتبطة بترتيب مكوناته.

وعليه إذا أريد تبريد مادة ما يجب إنقاص الطاقة الموجودة فيها، كأن تكون على تماس مع مادة أخرى درجة حرارتها أخفض من درجة حرارة هذه المادة. كما أن تغيير حالة المادة لا يقتصر على تبادل كمية حرارة فقط؛ وإنما يأخذ بالحسبان الطاقة الميكانيكية المتبادلة، مثل العمل المصروف لضغط غاز ما، أو ترك الغاز لينخفض ضغطه مُنجِزاً عملاً يأخذه الوسط المحيط.

ساير تطور هذا العلم إمكان تمييع الغازات المختلفة والحصول على كميات وافرة منها؛ وبالتالي فإنه -مع تطور التقنيات المستعملة للتمييع والحفاظ عليها سائلة من دون أن تتبخر- علمٌ وتقانة. كما تطور كثيراً مع توسع استعمالاته وتطبيقاته؛ فقد اكتشفت ظواهر فيزيائية كثيرة لبعض المواد مثل تغير السعة الحرارية مع انخفاض درجة الحرارة، والتمغنط، وقساوة المواد، والناقلية الكهربائية الفائقة، والسيولة الفائقة وغير ذلك.

أدّت هذه التطبيقات بدورها إلى الاستفادة من تغيرات خواص بعض المواد؛ لتستعمل مبرّدات cryogens أو refrigerants؛ مثل الخواص المغنطيسية، ومن ثم لم يعد يقتصر التبريد على تمييع الغازات، بل أصبح خطوة أولى. يضاف إلى ذلك تطور رافق الحاجة لاختبار النظريات الترموديناميكية وقوانينها؛ خصوصاً القانون الثالث المتعلق بإمكان الوصول للصفر المطلق.

إذ كان اختيار الماء وحالاته وسلم سلزيوس معياراً لمقارنة حالات المواد الأخرى من دون سند علمي، وقد أمكن - اعتماداً على قوانين الترموديناميك - التوصل إلى سلم كلفن الذي يبدأ من حالة مشتركة للمواد جميعها؛ تلك هي حالة الترتيب التام لكلّ منها، وذلك عند الصفر المطلق، فأصبحت درجة الحرارة تعبر عن مدى ابتعاد المادة عن هذا الترتيب التام لمكوناتها.

وبعد أن تبين أن كمية الحرارة ليست إلا طاقة (موزعة توزعاً عشوائياً بين مكونات المادة)، وأن لتبادلها شروطاً؛ انتقل الاهتمام إلى كيفية الاستفادة منها لإنتاج عمل في المحركات الحرارية والاستفادة منها فائدة قصوى. بدأ ذلك باكتشاف قوانين الغازات العامة مثل قانون بويل R. Boyle وماريوت E. Mariotte والتعمق في دراسة الحرارة المختزنة في المادة عند أخذ الطاقة الميكانيكية في الحسبان، فعرّفت الحرارة اللاطية latent heat وعلاقتها بالعمل. ثم عرّفت الإنتروبية entropy والأنطلبية enthalpy اللتان توضّح مدلولهما مع منتصف القرن التاسع عشر.

ولدى البحث عن مردود المحركات الحرارية باستعمال الدورات الترموديناميكية المغلقة لتمثيل العمليات الجارية في المحرك ظهرت دورة كارنو S. Carnot عام 1824 المثالية العكوسة التي تعطي أفضل مردود (الشكل 1)، فهي تتكون من أربعة تحولات اثنان متساويا الدرجة isothermal يتبعان قانون بويل وماريوت، فمثلاً: إذا كانت المادة العاملة غازاً: (الجزءان AB وCD)؛ تتبادل المادة العاملة كميات الحرارة، وتحولان آخران كظومان adiabatic لا يتم فيهما أي تبادل حراري مع المحيط هما BCوDA

. فإذا اتبعت الدورة وفق الاتجاهات المرسومة مثّلت عمل محرك يحول جزءاً من الحرارة إلى عمل، أمّا إذا اتبعت عكس الاتجاه المرسوم؛ تكون قد مثّلت عمل مبرد ينقل كمية من الحرارة من المنبع البارد إلى المنبع الساخن نتيجة صرف عمل؛ عند زيادة الضغط مثلاً، بيد أن تحقيق هذه الدورة عملياً صعب جداً.

وقد برهن كارنو -اعتماداً على هذه الدورة- على إمكان كتابة نسبة كميتي الحرارة المتبادلتين مساوية نسبة درجتي حرارة المنبعين، ثم عرّف كلاوزيوس R. J. E. Clausius -في عام 1854- الأنتروبية على أنها حاصل قسمة كمية الحرارة على درجة الحرارة. تبع ذلك ربط هذه الأنتروبية بالحالات المجهرية microscopic states المختلفة المقابلة لحالة جهرية macroscopic state على يد بولتزمان L. E. Boltzmann؛ وبالتالي بحالة الترتيب لمكونات المادة.

التطبيقات:

استعمِلت المبرّدات في علوم شتى، وأصبح لعلم القرّ تطبيقات وفروع في كل مجال بدءاً من الفيزياء مروراً بالكيمياء حتى علوم الحياة، فوجد علم القرّ الحيوي cryobiology الذي يتناول دراسة آثار تخفيض درجة الحرارة على الأعضاء والجسم وسلوكها بغية حفظها cryopreservation؛ وكذلك استعمالها في الجراحة cryosurgery وفي استئصال السرطان خاصة.نشأ في علوم الإلكترونيات فرع جديد، هو علم القرّ الإلكتروني cryoelectronics يهتم بدراسة تطبيقات الناقلية الفائقة خاصة.

كما استعمل لتحسين اللواقط والهوائيات والكواشف بأنواعها المختلفة: الراديوية والمكروية والنووية وغيرها، إذ يعدّ الضجيج الحراري من الأسباب الرئيسية لعدم التمكن من التقاط الإشارات الضعيفة جداً؛ إذ تعطى الطاقة الحرارية الوسطية التي يملكها جسيم مثل الإلكترون بحاصل الضرب kT حيث k ثابتة بولتزمان و T درجة حرارة الجسم على سلم كلفن؛ وبالتالي ينخفض تأثير الضجيج الحراري مع انخفاض درجة الحرارة بما يقارب أربع مرات عند وضع الكاشف في الآزوت السائل؛ وبعشر مرات عند وضعه في الهليوم السائل.

كذلك استعمل التبريد لدراسة التفاعلات الكيميائية، فمن المعروف في الكثير من التفاعلات الكيميائية سرعتها العالية، وأن هذه السرعة يمكن أن تنخفض مع انخفاض درجة الحرارة؛ وبالتالي يمكن ملاحقة هذه التفاعلات على مستوى الإيونات والمؤكسدات، فوجد فرع كيمياء درجات الحرارة المنخفضة، وكان جزء منه بهدف الاستحصال التجاري لبعضها

. كما استعمل التبريد أيضاً وسيلة انتقائية لبعض التفاعلات.وفي الفضاء استعمل الوقود من الأكسجين والهدروجين في محركات الصواريخ والمركبات الفضائية فهو يتمتع بأكبر مردود طاقة منتجة للزخم والدسر.

إن تغير الخواص الميكانيكية للمواد، وعلى الخصوص مرونتها وقساوتها مع انخفاض درجة الحرارة من الأمور المهمّة في تصنيع التجهيزات أو الإفادة من ذلك في تحسين عمليات التصنيع باستعمال درجات حرارة منخفضة cryoprocessing؛ مثل الخراطة cryomilling.

وتستعمل موائع التبريد اليوم في التصوير الطبي باستعمال التجاوب المغنطيسي النووي nuclear Magnetic Resonance (NMR) spectroscopy عن طريق استعمال الحقول المغنطيسية العالية الناتجة من مغانط فائقة الناقلية التي ساهمت في تصغير أجهزة التصوير هذه.

كما أن هذا التجاوب والحقول المغنطيسية العالية تُستعمل كثيراً اليوم في الفيزياء والكيمياء وعلوم الحياة لإنجاز تحاليل عالية الدقة، وكذلك استعملت المغانط فائقة الناقلية في المسرعات

.يجب الانتباه عند استعمال موائع التبريد، سواء عند ملامستها أم ملامسة أجسام في درجة حرارتها؛ لأنها تسبب حروقاً تشبه الحروق بالنار، أو عند استنشاق غازاتها؛ إذ يمكن أن يسبب بعضها اختناقات؛ وبعضها الآخر تسممات.


المراجع

arab-ency.com.sy

التصانيف

العلوم التطبيقية  تقنية  تكنولوجيا