كارل غوستاف إميل منرهايم Carl Gustaf Emil Mannerheim رجل دولة ومارشال، بطل تحرير فنلندا، وإليه يرجع الفضل الأول في استقلال فنلندا وشغلها مكانتها المرموقة بين الدول الأوربية في العصر الحديث.ولد غوستاف منرهايم في بلدة لوهيساري مانور من إقليم أسكانين Louhisaari Manor¨ Askainen في فنلندا. وهو الولد الثالث للـكونت كارل روبرت منرهايم Count Carl Robert Mannerheim من زوجته هيلينا فون يولين Helena von Julin. أُرسل إلى المدرسة الإعدادية العسكرية في هامينا في سن الرابعة عشرة، غير انه طرد منها لعدم انضباطه. وبعد سنوات نجح في امتحان القبول في الثانوية وأتم دراسته في جامعة هلسنكي في عام 1887، واختار الجندية مهنة له، فالتحق بمدرسة نيكولايفسكي للخيالة في سان بطرسبورغ في روسيا. وكانت فنلندا في ذلك الحين تتمتع باستقلال ذاتي وتخضع لروسيا سياسياً، ويُلزم مواطنوها بالخدمة في القوات المسلحة الروسية. خدم منرهايم بعد تخرجه في كوكبة تابعة لفوج ألكسندر للخيالة العامل في بولندا، و تزوج في عام 1892 أناستازيا أربوفا ابنة الجنرال نيكولاس أربَوف Nikolas Arapov. وبعد عدة سنوات من الخدمة في بولندا نقل منرهايم إلى روسيا وعين ضابطاً في الحرس الخاص للامبراطورة في سان بطرسبورغ. وشارك برتبة نقيب في الحرب الروسية - اليابانية 1904- 1905 ضابط أركان فوج ورقي إلى رتبة مقدم. وبعد سنوات اختارته الأركان العامة الروسية للمشاركة في سباق التحمل على الخيل من تركستان الروسية إلى بكين (بيجينغ) في الصين يجتاز فيه الفارس مسافة 14000كم، واستغرقت الرحلة سنتين كاملتين نال بعدها رتبة عقيد.وفي عام 1911 رقي منرهايم إلى رتبة عميد major general وأنيطت به قيادة الحرس الملكي في وارسو، حيث لقي ترحيباً من الأوساط الأرستقراطية البولندية، وحصل في هذه الفترة من جامعة وارسو على شهادة عليا في البحث الاجتماعي والإحصائي، وكانت حول المجتمع الزراعي الفنلندي، ولمصلحة المتحف الوطني الفنلندي.وفي بداية الحرب العالمية الأولى شارك منرهايم في العمليات الحربية ضد الامبراطورية النمساوية برتبة جنرال روسي، فقاد لواء خيالة، ثم عين قائداً لفرقة الخيالة الثانية عشرة، ومنح في عام 1914 وسام صليب سان جورج الأكبر، وهو أعلى وسام لدى القيصرية الروسية، ورقي إلى رتبة لواء lieutenant general وأنهى الحرب قائداً لفيلق الخيالة السادس في الجبهة الجنوبية الغربية.بعد نشوب الثورة البلشفية في روسيا سنة 1917 رفض منرهايم الانضمام إليها، وانسحب من الخدمة في روسيا، وعاد إلى وطنه الأم فنلندا. وفي الوقت نفسه كان يوجد في جنوبي فنلندا وشماليها 40000 جندي منقسمين إلى فئتين، فئة من الجنود الفنلنديين الذين انضموا إلى منرهايم في الشمال وعرفت باسم الجيش الأبيض، وفئة أخرى في الجنوب ضمت بقايا الحرس الأحمر البلشفي من الروس والفنلنديين الشيوعيين. وقد تمكن منرهايم من إلحاق الهزيمة بالحرس الأحمر عام 1918.وفي عام 1919 أعلنت الجمهورية في فنلندا، وأسند المجلس النيابي إلى منرهايم مهمة الوصاية على الجمهورية وتشكيل جيش وطني وفرض النظام والأمن. و كان عليه أن يخوض حرباً أهلية مريرة لتطهير البلاد من بقايا الحرس الأحمر، وأيده الشعب الفنلندي ورفده بالمتطوعة، واستمرت الملاحقة ثلاثة أشهر تُوجت بالنصر وباستقلال فنلندا الناجز، وأعلنت فلول الشيوعيين الفنلنديين الذين اتخذوا قواعدهم داخل الأراضي الروسية قرب حدود فنلندا تشكيل حكومة منفى بزعامة الفنلندي كوسينين، وعقدت روسيا البلشفية معه معاهدة صداقة، وأمدته بالسلاح والرجال للعمل ضد منرهايم. غير أن هذا الأخير تمكن من القضاء على كل محاولات حكومة المنفى لقلب نظام الحكم في فنلندا.مع تسلم منرهايم سدة الدفاع عن الوطن الفنلندي بتأييد شعبي مطلق دب الخلاف بينه وبين المجلس النيابي لتمسك المجلس بعلاقات وثيقة مع ألمانيا، في حين كان منرهايم يعتقد أن وضع فنلندا يستدعي التزام الحياد والانفتاح على جميع الدول، وخاصة إنكلترا وفرنسا وألمانيا وروسيا، تجنباً لحرب جديدة وتحاشياً للدخول في حلبة الصراع الدولي، وللحصول على المساعدات لإعادة بناء فنلندا المثقلة بالجراح.نهج منرهايم في الأعوام 1920-1931 سياسة عدم معاداة روسيا مع عدم الإقرار بأي امتيازات لها. وصب اهتمامه على مجالات أخرى كانت في منتهى الأهمية في نظره، وهي تربية الشبيبة على حب الوطن والجندية والتطوع في الطلائع والكشافة، والاستعداد للتضحية من أجل البلاد، واهتم كذلك بتحسين شروط عمل الصليب الأحمر والإسعاف الاجتماعي وتقوية اللحمة بين المجتمع. ولم يغب عن ذهنه قضايا الدفاع عن الوطن فوضع الخطط لتحصينه بإقامة خط تحصينات دفاعية بين بحيرة لادوغا وفيبورغ Ladoga-Viborg لصد أي محاولة من الاتحاد السوڤييتي لغزو فنلندا، وقد عرفت هذه التحصينات باسم «خط منرهايم». وفي عام 1933 قررت الحكومة الفنلندية منح منرهايم رتبة فيلد مارشال (شير) Field Marshal لجهوده في حماية الجمهورية.فوجئ العالم في أواخر الثلاثينات بمعاهدة بين هتلر وستالين لاقتسام بولندا، و في أيلول/سبتمبر عام 1939 احتلت ألمانيا حصتها من بولندا حتى نهر الأودر. وزحفت القوات السوڤييتية بعدها لاحتلال حصتها الشرقية من الكعكة البولندية حتى نهر الأودر، وتابعت فرض هيمنتها على دول البلطيق الثلاث إستونيا وليتوانيا ولاتفيا، في حين رفضت فنلندا الخضوع للبلاشفة. فعمد الاتحاد السوڤييتي في تشرين الثاني/نوفمبر 1939 إلى مهاجمة فنلندا مستغلاً معاهدة الصداقة مع ألمانيا. ولم يكن لدى فنلندا سوى جيش مكون من ثلاث فرق قوامها 33.000رجل، وينقصها السلاح والعتاد.بدأ هجوم القوات السوڤييتية على اتجاه هلسنكي المباشر، إلا أن المقاومة الفنلندية دمرت موجة الغزو الأولى أمام خط منرهايم. وقامت التعبئة الشعبية في فنلندا على قدم وساق، وتمكن منرهايم من تعبئة 300.000 مقاتل، والتحقت به بعض أرتال المتطوعة من السويد والنروج والمجر. كما وصلت من دول أوربا الغربية مساعدات من الأسلحة القديمة والمستهلكة. ومع ذلك فقد استطاعت قوات المقاومة الشعبية الفنلندية الصمود في وجه الغزو لمعرفتها بطبيعة الأرض وتنكرها باللباس الأبيض المطابق للون الثلج الذي كان يغطي الأرض، واستخدامها الزلاجات للسير على الجليد، وكان غذاؤها الوحيد الحليب والمنتجات المحلية، فاستغنت عن المؤخرات، وأصبحت قوة متحركة تتمتع بمعنويات قوية. زج السوڤييت ثلاثة جيوش هي: الجيش الثامن والتاسع والرابع عشر، بقيادة الجنرال تيموشنكو، في هجوم عام بالاتجاه الغربي ملتفةً على خط منرهايم المحصن، وأمامه الجيش السابع السوڤييتي. وامتدت جبهة الهجوم نحو 1600 كم بين بحيرة لادوغا Ladoga والمحيط المتجمد الشمالي، في منطقة تكسوها غابات كثيفة، وتفتقر إلى الطرق الجيدة، وتعترضها حواجز وعوائق كثيرة. وينشط فيها مقاتلون من طراز خاص.حققت القوات السوڤييتية في 17 كانون الأول/ديسمبر 1939 نجاحاً مبدئياً، ومع أنها تمكنت من احتلال خط منرهايم وتدمير تحصيناته فقد تباطأ هجومها وتوقف بعد أن غطى الثلج الأرض بكثافة، واستفادت المقاومة الفنلندية ـ التي لجأت إلى حرب الغوار ـ من هذه الشروط لإرهاق القوات المهاجمة. واستطاعت تدمير فرقة مشاة سوڤييتية بالكامل. وزج السوڤييت فرقة أخرى لنجدتها فلاقت المصير نفسه. كما تمكنت المقاومة من فصل قطعات الجيش الثامن السوڤييتي عن مؤخراته وتدميرها الواحدة تلو الأخرى. وهكذا توقف الهجوم السوڤييتي في مواقع غير ملائمة، وقضى قسم كبير من الجنود جوعاً وبرداً. واستسلم من بقي منهم على قيد الحياة.برز اسم فنلندا بصمودها بطلة من أبطال الحرية، ونال شعبها الإعجاب والتشجيع العالمي، وذاع صيت منرهايم زعيماً شعبياً وبطلاً قومياً وقائداً عسكرياً من النخبة. وعرض الاتحاد السوڤييتي عام 1944عقد صلح قبلت به فنلندا على الرغم من خسارتها لبعض أراضيها، إلا أنها حافظت على استقلالها وحيادها.بعد انتهاء الحرب نهض منرهايم ـ الذي انتخب رئيساً للجمهورية الفنلندية (1944-1946) ـ بمهمة تخليص فنلندا من الدمار الذي لحق بها وإعادة البناء، وتطوير البلاد بالاعتماد على الحياد، واستعادة الأراضي التي فقدتها في تلك الحرب عن طريق المفاوضات. غير أنه اضطر إلى الاستقالة والتخلي عن العمل السياسي عام 1946 تحت ضغط قوى المعارضة. واعتلت صحته في عام 1951 فأرسل إلى سويسرا للعلاج، ولم يلبث أن وافته المنية في مدينة لوزان، عن عمر ناهز 83 عاماً، وأعيد جثمانه إلى وطنه حيث دفن في هلسنكي باحتفال رسمي.
المراجع
الموسوعة.العربية
التصانيف
العلوم التطبيقية الصناعة