الخمر والنساء.. والغزل والمغامرة.. والمعجزات والاسرار.. والضحكات الرهيبة.. والهتاف المجنون والشعر، والتأملات، والظلال، والدموع. كل هذا يعرفه الليل جيدا في باريس وبين هذا كله، تعرف الحسناوات والفقيرات دائما كيف يجدن لقمة العيش، والليل يستطيع دائما ان يشتري منهن كل شيء،
حتى الرعب والعربدة والدماء.. لقاء بضعة قروش تلقيها الذئاب الشرهة الى الافواه التي جففها الحزن والجوع والحرمان
. وعرفت الارملة الحسناء كيف تشق طريقها خلال ذلك الميدان العجيب الذي يختلط فيه القوت باللعنات والعذاب.. ولكنه اهون لديها من صرخات طفلها وهو ينتفض ويصيح.
(اواه.. البرد والجوع والظلام.. اني اهلك يااماه | )
لكم سمعت هذه الصرخة من فمه منذ ذهب ابوه، ولم يعد.. وكم حاولت الارملة الصغيرة ان تسكت ذلك النداء المجنون بما تبيعه من حليّها، واثاث بيتها. ولكن كل شيء ذهب كما يذهب كل شيء في هذه الدنيا وبقي عليها من بعد ان تتبع الطريق الملعون.. نفس الطريق الذي تتبعه دائما الارامل الحسناوات الفقيرات في مدينة النور.
وكان لابد لفرانسو الصغير ان يكبر ويدرك وكان لابد له ايضا ان يتعثر كل ليلة في مخدع امه بزائر جديد فيقفز كالملسوع ويرميه باول شيء تقع عليه يده الصغيرة ثم ينطلق الى الطريق لينزوي في ركن مظلم منه ويبكي.. وكان لابد له بعد ذلك ان يفكر.. ماالذي يجعل امه تصنع هذا؟ لماذا تستقبل كل يوم زائرا جديدا، يفعل نفس الشيء الذي يفعله الاخرون | .. ايكون كل هذا لكي تحصل على النقود؟ الا ما اتعسها الحياة.. وما ابعثها على ان تملأه حنقا وغيظا وحقدا.. على من علموه الالم والعار والجوع | .
ولم يكن فرانسوا قد تجاوز الثانية عشرة بعد.. الا انه في تلك السن وجد نفسه يدرك -بالرغم منه-الكثير من اسرار تلك الحياة الصاخبة المليئة بالخطايا والزراية واللعنات ويعرف من الوانها البغيضة ما لايعرفه اساتذته في المدرسة او زملاؤه الذين عاشوا في احضان امهات طاهرات لم يخجلهم شيء ولا خالط رؤوسهم ذلك العذاب الذي يحسه هو ويعانيه.
وكان لابد له ان يفعل شيئا في مدرسته ليبعد عنه نظرات الزراية وبسمات الاحتقار.. فهو بالرغم من ان امه قد تركته لاحد اقاربها هو القسيس (فيللون) ليتعهده ويتبناه ويبعده عن حياة البيت المدنس، الا ان وجوده في كنف ذلك الرجل الكريم الطاهر لم يبعد عنه الشياطين الصغيرة من زملائه الذين يروق لهم كثيرا ان يسخروا به وبامه وكان يدافع عن سمعة امه كثيرا ولايسمح لاحد ايا كان ان يعبث بذكرها امامه، فهو يصفع ويضرب ويلكم ويقضم ويجذب الشعر، ولا يعبأ بعقاب ابدا، حتى يعلم زملاؤه كيف يحترمون امه.. وما اكثر المرات التي نازل فيها الساخرين من زملائه ثم انطلق بعد ذلك الى صديقه الوحيد يبكي بين يديه ويقول من خلال الدموع:
- وما ذنبي انا؟ | .. يكون ذنبي ان ذهب ابي ولم يترك لدي مالا، او ارثا، واي شيء على الاطلاق.. فتضطر الى بيع نفسها للشيطان لتعيش؟ رباه.. لم خلقتني لأرى نظرات الجميع مصوبة نحوي في سخرية مرة وهم يتهامسون: هذا فرانسو ابن المرأة التي ترقد كل ليلة في احضان عشيق؟ ودخل الجامعة، وهناك عرف ان شيئا لن يستطيع ان يبعد عنه الخجل من نفسه سوى التفوق على اقرانه.. فراح يجاهد وحيدا ليكون الاول دائما.. ويتلمس العزاء عن وحدته النفسية المؤلمة في قراءة اشعار طريدي المقادير، واساطير القدماء المليئة باللعنات والمسوخ والشياطين | | ..
ولكن اللعنة المجنونة ظلت وراءه بالمرصاد.. فقد نال شهادته في التربية والادب و(اصبح شاعرا يطرب شعره الملايين.. ولكنه عندما يبحث عن عمل، تظل تطارده فيه سمعة امه الرهيبة، لتلقي به في كل مرة الى الطريق).. حتى صار الطريق وطنه الحبيب | ..
واذن.. فالى الحانات.. والنساء المشردات.. والصعاليك من ابناء الليل. فهنا.. وهنا فقط يستطيع فرانسو ان يضحك بملء فيه، ويعربد، ويغضب، وينتقم من المجتمع البغيض الذي جعل حياته مأساة من الالام والمرارة.. الزراية والعار والنقمة.. وكل ماهو سيء.. وكان لابد ان يصير فرانسو بشعره، وعذوبته، وسخريته، وانطلاقه، معبود الصعاليك، وكل من القى بهم المجتمع في احضان الحانات.. حانات القرن الخامس عشر التي كانت تعرف جيدا كل المشردين، والرعاع والدهماء، وطريدي المقادير، والعاطين والجائعين، ممن نبذهم المجتمع، فوقفوا جميعا صفا واحدا ليواجهوه.. بالسرقة، والفتك، والرعب، والصخب، والمتاجرة في الحياة والموت..
عرفت باريس كلها (فيللون) الشاعر الكبير، الفاجر، الصغير.
وفي الوقت الذي يكون فيه الباريسيون غرقى في الغناء بشعر (فيللون) واناشيده، يكون هو ومن حوله صحبة من الغجر.. ابناء الحانات.. في طريقهم الى غزوة ليلية، يسلبون، ويقتلون ويسطون على الكنائس والقصور ويملؤون ليل باريس صخبا ورعبا، ثم يعودون وهم ينشدون اشعار (فيللون) ويزدردون الخمر، ويحطمون الكؤوس، وهو من امامهم يعمل فوق كل ذراع فتاة، يقبل هذه، ويغمز لتلك، ويصفر ويترنح، ويهتف في اعماق نفسه:
- هاها.. لقد ملأت الرجال ذعرا وشغفت النساء حبا، وسرقت من كل رجل امرأته.. هؤلاء الرجال الفارغون تماما كالذين كانوا يسرقون مني احضان امي وقبلاتها | .. وباريس كلها، انها تتغنى بشعري.. الاشراف في النهار.. والصعاليك في الليل.. والكل يضحك ويهتز.. ويطرب في نشوة، ويرقص في جنون | ..
ومع هذا.. فقد كان الشاعر الفتي يعود في كل مرة الى البيت مع الفجر، فيجد القس الطيب ساهرا وفي عينيه دموع ويقابله الشيخ بعاصفة من التأنيب يحني الفتى لها رأسه، واعدا بالتوبة.. ليعود في التالي سيرته من جديد
غير ذات ليلة لم يستطع احتمال تعذيب الشيخ الذي احسن اليه اكثر من ذلك وكان الفتى قد فقد في احدى الغزوات الليلية صديقيه الحبيبين وغجرية كانت تصاحبهم في كل غزوة كما فقد ايضا دماً كثيرا راح ينزف من جرح اصيب به اثناء الصراع وليس هذا فحسب بل لقد عرفت الحكومة كيف تبسط سلطانها على باريس وتعدم كل من تقع يدها عليه من الصعاليك واللصوص والعاهرات من اصحاب (فيللون) وعصابته حتى لم تعد باريس قط مكانا يستطيع ان يتنفس فيه الشاعر المخامر ووقف الاب الصالح وفي عينيه الدموع يهتف بالفتى الخاطئ.
وماذا بعد يا بني انك لتسرق وتقتل والليل عندك امرأة وخمر ودم وحكم الاعدام ينتظرك فارفق بنفسك
وبي.
واحنى الفتى الطائش رأسه احناها هذه المرة وفي عزمه ان يصلح حقا من امر نفسه وليطمئن القسيس الشيخ الى انه سيتوب.
وباركه الاب الصالح وجرت على خديه دمعتان هما مزيج من الحزن والفرح فقد قرر ان يتوب اخر الامر والى الابدا.
واذن الى التوبة يا فيللون.
ولكن ايمكن لمن ملأ باريس صخب ان يتوب بغير ان يودع ملاذه ولومرة واحدة لقد قرر ان يتوب اخر الامر فليقصد الافاق المجهولة يرحل بعيداً ولكن من حقه قبل ان يفعل ذلك ان يغامر مغامرة اخيرة قبلة واحدة يختطفها من مرأة في الطريق وكأس واحد يشربه وليلة واحدة مجنونة مع غجرية غضة ومشاجرة واحدة يقتحمها بسيفه..
وخرج الشاعر التائب من منزله وهو يهجس بشعر مستغفر لم يقل مثله من قبل واستقبله امراء الليل في صخب وضجة ولكنهم وجدوه ساهما عصبياً فلما سألوه نهض ليقف فوق برميل نبيذ كبير وانسابت الابيات الهادئة من بين شفتيه:
(خرجت باريس كلها في اضواء لينة بيضاء.
تهزج نشيدها المقدس من ترانيم المعابد القديمة
ولاح لهم الله.. الله نفسه في كيانه الذهبي.
على عرش خاطف الشعاع كعين الشمس.
فركع الجميع حتى الاشجار ثم بكوا وبكى كل شيء.
واذا بالله نفسه يبكي لهم.
لقد ندموا ندم الكل وعفا الله فكل شي طاهر وجميل.
لاخطايا بعد ولا آثام).
ونزل الشاعر التائب عن البرميل وتلفت حوله فلم يجد من امراء الليل احدا كانت الحانة خالية من
الجميع كلهم ذهبوا للسطو والنهب والقتل نفس الشيء الذي كانوا يعملونه كل ليلة معه.
فتاة واحدة هي التي كانت لاتزال بالحانة غجرية ثملة انطلق بها الى الشارع ثم جلس على الرصيف وانهال عليها بالقبل والقت نفسها على ركبتيه وضغطت صدرها بصدره وتركت ثوبها يتهدل من اعلى فخذيها وفي هذه اللحظة بالذات مر قسيس ورأى المنظر المجنون صعق واقترب منهما وقد شعر وكأن مملكة السماء تهان في شخصه وانهال عليهما بعصاه الكهنونية..
ولم تطل المناقشة فقد استل الشاعر سيفه
وفي لحظة كان كل شيء قد انتهى والنشوة الاخيرة حياة القسيس والامل في العفو والغفران | وما اتعس هذا.. في نفس الليلة التي قرر فيللون ان يتوب فيها يعبد ويداه ملوثتان بدم قسيس؟
ولم يكن هناك مجال لشيء بعد فما يمكن ان يقبل الله توبته الان وعليه اولا ان يهرب من باريس المدينة التي كتب عليه ان يخترق اسوارها هاربا في غماد الليل الزاخر بالخطايا والاسرار المجهول وفي الصدر منه يضطرم ندم حاد وعيناه تودعان المدينة التي تختفي وراءه في الصقيع والظلام والاهوال وطلع الفجر على باريس لاول مرة وليس فيها من فيللون سوى اثار دم قسيس مغلول على قارعة الطريق انت يامسيو فيللون املنا جميعا فانك لتدللنا وترعاناً وتعطف علينا اكثر مما تفعل الامهات وانك لتغامر في سبيلنا بكل شيء فتفتحم وحدك القصور لتعود بما تشتهي وتوزع علينا كل شيء ولاتترك لنفسك شيئا على الاطلاق وانك مع هذا شاعر فرنسا العظيم الذي يتغنى بشعره الجميع الاشراف والامراء والعمال والفلاحون والغجر واللصوص وكلنا جميعا وانك لتستطيع ان تتركنا وتمضي الى الافق الادبي المجيد الذي يتطلع اليك ولكنك مع هذا تأبى الا ان تعيش معنا تحمينا وتغامر من اجلنا افبعد هذا ايها السيد يمكن ان نرفض الذهاب الى الجحيم لو انك امر تنا بهذا والحق لم يكن هذا مايقوله رؤساء العصابات وحدهم بل لقد صار الشاعر الافاق حلم العذارى الصغير ات تتغنى فرنسا كلها بأناشيده ويفخر به الفلاحون وليجده اللصوص والغجر فينصبونه رئيسا ويأتمرون بأمره ويحبونه ويتمنون لو يقيم بينهم الى اخر الزمان.
ومنذ هجر فيللون باريس وقطاع الطرق العصابات في الارياف يتنافسون على ضيافته ويتفاخرون بزعامته والفلاحون والفلاحات ممن لم يتعودوا المغامرة قط راحوا يحيطون به هم ايضا ويجلسون اليه بعد كل غزوة يقوم بها فيحدثهم في عذوبة ومرح عن اهل القصور التي سطا عليها وكيف يعيشون ويأكلون ويتحركون وكيف تعيش نساؤهم وماذا يلبسن ويأكلن وكيف يقبلن الرجال وكيف يقبلونهن.
ولكنه مع كل هذا لم تنس باريس فصور الحياة فيها تملأ رأسه واصدقاؤه الصعاليك بكل مافيهم من جرأة وضجيج ونساء الحانات بكل تجاربهن في الغزل والمتاع والمعارك الدامية على الابواب الخلفية للقصور وكؤوس الخمر المترعة باللذات ذات..
ومارغو الغجرية والعاشقة بقبلاتها واحضانها وتشبثها المجنون به..
هؤلاء جميعا ايستطيع ان ينساهم وهل يستطيع ان ينسى معهم الاب فيللون الشيخ الطيب الحزين | .
ومرت سنون، وطيف باريس المطرود منها يملأ منه كل شيء، وعاد يفكر.. ان الحياة قصيرة مفعمة بالالام وتختم دائما بالصمت العميق، وان ليلة سارة مع امرأة باريسية جميلة، لتغرق احزان عمر كامل | .. منها الذي جعله يغادر من قرية لقرية بلا امل بعيداً عن باريس.. لم لايعود ليعيش اعماراً اخرى كثيرة، يضحك ويضج، ويلهو، ويعبث، ويسرق ويعشق كل النساء؟..
اذن.. الى باريس، الى الحياة، مهما يكن من شيء | ..
ولكن اية باريس.. واي حياة؟ | لقد وجد باريس ليست بباريس.. ورجال الحكومة هم كل شيء، والاصدقاء تخطفهم السجن، والموت، والضياع.. والحانات ليس فيها احد يعرفه، رجل وامرأة.. كلهم ذهبوا، ولا احد هناك | ..
وانطلق فيللون في اروقة باريس وحده، بلا طعام، ولافراش، ولا امرأة | .. ثم كان مساء.. وجد رجالاً انيقين يدخلون بيتاً، فتسلل خلفهم، واختفى وراء ستار فاخر على حجرة تتراقص فيها الاضواء الحمراء.. ويعمرها شذى رائع عطر.. ينبعث من فتيات يانعات نابضات بالحياة، يجالسهن رجال يبحثون عن اللذات..
وادرك كل شيء.. انه في بيت من بيوت (المهنة) | ..
وفجأة فتح باب.. واقبلت على القاعة سيدة بدينة راسغة، يتهدل على صدرها قميص شفاف، يدعو الرجال، ويتفجر بالنداءات.. وراحت تحيي الجميع، واحداً واحداً..
وحدق فيللون من وراء الستار.. لقد عرفها انها مارغو عشيقته الحسناء، وزاح الستار.. وكان لقاء.. وفي تلك الليلة اعتذرت مارغو عن مقابلة زوارها جميعاً، وبقيت مع فرانسوا يتباكيان ويتشاكيان ويتعانقان | .
وعرف منها فرانسوا اشياء كثيرة. لقد ذهب الزمن القديم بلا امل ولا رجعة والاصدقاء ذهبوا جميعاً(فتيانا او فتيات) وبوليس باريس صار كل شيء في باريس، فلا امل في سرقة بعد، ولا امل في حياة جديدة لايموت فيها جوعاً الابشيء واحد، ان يقيم معها في ذلك البيت تديره.. وما عليه الا ان يستقبل الزوار من على الباب، وينظم زياراتهم.. وما بقي بعد ذلك فعليها هي | | .
لم يقل فرانسو لا، بل عاش معها.. واعطته بسخاء.. وراحا يجمعان المال معاً تحت العاصفة، وبين الثلوج، وفي جوف الاوحال. وهو القوت رجل لم يعد يستطيع ان يسرق بعد | .. ومضى ركب الحياة.. والشاعر في هذه الحياة يقول شعراً لم يقله شاعر من النبلاء الاشراف قبله.. شعراً ينبثق من اعمق اغوار النفس البشرية، من حيث تختلج الدموع بالذم والخطايا والعار..
ولكن الشاعر كان يثور في كثير من الاحيان، ويصرخ في اعماق نفسه صرخات السخط على كل شيء.. ثم يروح يشرب ويشرب، ويغرق كل مأساة حياته في الكأس الملعون..
وسكر مرة، وخرج الى الطريق يطوح بسيفه في الهواء، ويضحك ويغني اخر انشودة له، ويلعن فيها الاغنياء الذين ينعموا في كسلهم المترف تاركين عباقرة مثله للعار والشقاء | ..
وقبض عليه، وعرفه البوليس، وبعد ان كانت تهمته السكر والعربدة، وجدت له تهم قديمة كثيرة، جرائم وسرقات وقتل وخطف نساء وزراية بالحكومة، واشياء اخرى عديدة وجلس الشاعر في سجنه شارداً يبتسم ويفكر في انه بعد ايام سيعلق في حبل من رأسه، ثم يتأرجع كيانه لنصف ساعة، وبعدئذ يموت.
وكان فعلاً حكم الاعدام وحدد له فجر يوم في كانون الثاني 1463، ولكن الشاعر الافاق هرب منه وطلع عليه ذلك الفجر وهو يجري وسط الضباب بعيداً جداً عن سجن باريس وحتى هذه اللحظة لم يسمع به أحد بعد.
المراجع
موسوعة الصداقة الثقافية
التصانيف
تصنيف :فنون تصنيف :أدب تصنيف :أدب عربي
|