هل البيروقراطية حقاً شر لابد منه؟
أم هي شبكة عنكبوتية لحكم الموظفين المستبدين تعرقل نمو المجتمع وتطوره , وتكبده خسائر فادحة؟
متى نشأت؟
وما علاقتها بالسياسة وعلم الاجتماع؟ وكيف انعكست في الأدب؟ وهل من رابط يمكن أن يربطها بمفهوم الهوية؟
يرصد المؤرخون أول ملامح البيروقراطية البدائية في الحضارتين القديمتين الصينية والمصرية حيث كانت القبيلة والعائلة هي الحاكمة وليس لهما خبرة في إدارة شؤون الدولة المتشعبة الأطراف وتنظيم أمور الدولة , ولنتدكر تمثال الكاتب الفرعوني الشهير , وهو الموظف أيضاً.
استخدمت كلمة البيروقراطية (وتعني حكم أو سلطة المكاتب) منذ نهاية عصر النهضة في أوروبا وفي بدايات القرن الثامن عشر , وترسخت جذورها مع التحولات الكبرى في الفكر الليبرالي والثورة الصناعية في القرن التاسع عشر.
ودار حول البيروقراطية جدل كبير في علم الاجتماع السياسي , فانتقدها كارل ماركس باعتبارها تجسيداً للدولة البرجوازية , وأنها تمثل المصالح الشخصية للأفراد , وهي تمثل الدولة بأجهزتها البيرقراطية لا المجتمع.
فليس هناك تفرقة بين رجال الإدراة ورجال السياسة أي ليس هناك فصل بين الدولة والبيروقراطية.
أما لينين فرأى فيها مبدأً تنظيمياً ووسيلة ضبط مركزي لقيادة الحزب الثوري للمجتمع والدولة إلا أنه , تحت الانتقادات الشديدة , انتقل إلى محاربتها.
والملاحظ أن البيروقراطية كانت من بين المعاول التي دكَّت صرح الأنظمة الشيوعية إذ كانت أداة جمود رسمية قتلت روح الإبداع في تلك الأنظمة.
ورأى الفيلسوف البريطاني (جون ستيوارت مل) أن البيروقراطية ليست مجرد أجهزة إدارية للدولة كشكل من أشكال التنظيم والضبط والتسيير, بل صارت شكلاً من أشكال الحكم فكما هناك نظام ديمقراطي ونظام أرستقراطي كذلك هناك نظام بيروقراطي.
أما عالم الاجتماع السياسي (ماكس فيبر) فرأى فيها تعبيراً عن العقلانية في النظام الرأسمالي بل والخاصية الجوهرية لها والأداة الحيوية فيها.
ودفعت آراء ماكس فيبر الكثير من علماء الاجتماع والسياسة لبحث تأثيرات البيروقراطية في النظام الاجتماعي والسياسي في المجتمعات الحديثة.
وانبرى (ميشيل كروزيه) إلى دراستها من منظور إنساني
فربط بين تطورها وتضاؤل الحرية الفردية في ظل مجتمع تحكمه بل تتحكم فيه دوائر الدولة من خلال الموظفين المتسلسلين هرمياً والمعتمِدين على السلطة الحاكمة , وهكذا رثى لحال البروقراطية في أوروبا باعتبارها تنظيماً لا يستطيع تصحيح سلوكه عن طريق إدراك أخطائه السابقة , إذ أن القواعد التي تعتمد عليها البيروقراطية غالباً ما يستخدمها الأفراد لتحقيق أغراضهم الشخصية , وهي تتعارض أيضاً مع الابتكار الإداري.
وهكذا كان كروزيه عكسَ ماكس فيبر , الذي منحها صفات إيجابية في سياق الدفاع عن النظام الرأسمالي.
ومما يلفت النظر والتأمل مواقف المفكر المغربي عبد الله العروي في كتابه (مفهوم الدولة) تقديمه آراء مخالفة للمفهوم المنتقد للبيروقراطية ويقف مع ماكس فيبر في دفاعه عن البيروقراطية , ويستند إلى مفهوم العقلانية فيها أو العقلنة , ويرى أن السلوك البيروقرطي يتميز بالتفريد والتجريد والتعميم وهي بالذات مزايا العقل المجرد , وبما سماه (هيغل) الإعقال.
ويتساءل العروي: هل نحن العرب نعاني حقاً من البيروقراطية أم نعاني من غيابها؟
وهو يرى , مع فيبر , أن البيروقراطية هي الوسيلة الوحيدة لتحويل العمل الجماعي إلى عمل اجتماعي منظم... وهي تشجع الطريقة العقلانية في الحياة.
وينتقد العروي البيروقراطية في العالم العربي باعتبارها قائمة على العشائرية و التوازنات الطائفية (لبنان) والمحسوبيات والعلاقات الموروثة... وليس على أنها قائمة على العقلانية في ضبط الدولة الحديثة. لذلك يدعو إلى ضرورة إنشاء طبقة بيروقراطية بمفهوم عصري. / يُرجَع في كل ما سبق إلى " معن حمدان " " مفهوم
البيروقراطية "، مجلة النبأ، العدد 80، 1/ 12 / 2006، و " سميح الصفدي ": " مفاهيم مظلومة " في " الحوار المتمدن " العدد 118، 26/ 5 / 2005 وفيه رأي عبد الله العروي الذي نرفضه./
والغريب أن أحدث الدراسات والقرارات والإحصاءات الأوروبية اليوم ترفع الصوت محذرة من التكاليبف الباهظة والأعباء الثقيلة للبيروقراطية.فقد أصدر مؤخراً مجلس الوزراء الاتحادي الألماني قانوناً لتقليص البيروقراطية على المستوى القومي والتي تكلف الاقتصاد الألماني المليارات سنوياً.
تقول (هيلديجراد مولر) وزيرة الدولة في مكتب المستشارية , والتي تم تعيينها مؤخراً منسقةً لبرنامج تقليص البيروقراطية: " أسمع يومياً شكاوى المواطنين من البيروقراطية التي تكلف وقتاً كثيراً ومالاً كثيراً وأعصاباً , كما أنها تعرقل بقوة الابتكارات والنشاط الاقتصادي , نحن نريد تخفيف الأعباء البيروقراطية التي تحولت إلى شبكة عنكبوتية " / راجع نشرة وزارة الخارجية الألمانية المركز الألماني للإعلام: انترنت. موقع ألماني بالعربية عن تقليص البيروقراطية./
هذا أحدث رأي أوروبي في البيروقراطية , وفي ألمانيا , التي نعرف معنى النظام الصارم فيها , فما بالنا بالبيروقراطية العربية التي يدعو العروي إلى إنشاء نظام بيروقراطي " عقلاني وعصري " في مجتمعنا. وأين نحن من العصرية والعقلانية؟ اليس في ألمانيا عصرية وعقلانية؟ فما بال خبرائها الاقتصاديين وساستها يتهيؤون للفكاك من براثنها العنكبوتية؟
أما العلاقة بين البيروقراطية والأخلاق فحدّثْ ولا حرج، فالفساد الأخلاقي في عالم البيروقراطية يشمل الشرق والغرب.
فمن خلال الشبكة العنكبوتية وتحكم البيروقراطيين " العقلانيين " ! في مقادير الدولة ينتشر فساد تقشعر له الأبدان , وتفوح روائح فضائح تلوث سياسيين كباراً ورجال أعمال على مستوى باذخ من الثراء.
ولنتذكر فضائح شركة (لوكهيد) على المستوى العالمي , وفضائح شركة هاليبرتون في العراق بقيادة (ديك تشيني) نائب الرئيس بوش ! وما أشيع مؤخراً عن أسرار صفقة اليمامة العسكرية البريطانية - السعودية....
إن البيروقراطية من خلال معرفة دهاليز أسرار الدولة , والتحكم في تصريف شؤونها , تعرف كيف تنفذ إلى ملفاتها السرية , ولفلفة السرقات والاختلاسات وإبرام العقود الوهمية والمزيفة، وهي لا تبالي بالقيم الأخلاقية , وتعاليم الأديان , أو حتى الأحكام القضائية , فقد تلوي عنق القضاء والقضاة بتخريجات بيروقراطية , عن طريق الخبراء البيروقراطيين الذين يعرفون كيف يتحول النص القضائي من سالب إلى موجب وبالعكس , وكيف يصبح الحق باطلاً والباطل حقاً
ومن هنا نأتي إلى ارتباط البيروقراطية بمفهوم الهوية. فمن المعروف مثلاً أن الدين يرسخ قيماً أخلاقية كانت سائدة في مجتمعٍ ما , أو يؤسس قيماً جديدة لم يَألفها في علاقاتها الاجتماعية. ونحن كعرب ومسلمين خضعنا لهذا التبدُّل والتأسيس , فرسخ الإسلام قيماً إيجابية درج عليها العرب عبر تاريخهم , وأسس لقيم جديدة , ووضع لها التشريعات والضوابط والحدود... وكل ذلك أسس لبناء هوية جديدة , عُرفت بالهوية العربية الإسلامية.
إن البيروقراطية " تعقلن " الفساد وتُشَرْعِنُه , بل يصبح الفساد نوعاً من فن الإدارة العصرية بمعزل عن كل قيمة أخلاقية , لأن سلطة طبقة البيروقراطيين حلت محل سلطة المجتمع الذي أوكل لهذه الطبقة تسيير وتنظيم شؤون المجتمع بعقلانية وعصرية وفن إداري مسلسل هرمياً لإحقاق الحق والعدالة الاجتماعية.
لكن النتيجة وقوع المواطن , والمجتمع في حبائل تلك
الشبكة العنكبوتية , ومع مرور الزمن تؤسس البيروقراطية هوية جديدة , وكأنها دين جديد ! يؤسس قيماً فاسدة تبرر الخطيئة والرذيلة والنصب والاحتيال... فتضيع ملامح الهوية الأصيلة.
ألم ينهَ الإسلام مثلاً عن الرشوة في تسيير مصالح البلاد والعباد؟ ألا يؤسس هذا النهي لهوية إسلامية أخلاقية متميزة؟ فلمن ينتمي الراشي والمرتشي والرائش بينهما؟ إنهم بلا هوية. إنهم أصابع بلا بصمات
لذلك تصدى الأدباء , ضمير الأمة , لكشف أسرار البيروقراطية , وفضح دهاليزها وأساليبها الجهنمية من خلال ذلك البيروقراطي – المكتبي الذي حل محل الدولة والمجتمع والدين , وصار هو دولة بذاتها , ومجتمعًا بذاته , وديناً بذاته.
وقد استوقفني الدكتور حسن مؤنس في قصته " ديوان الزير " , وضحكت , وبكيت ! في معالجة هذا الداء الوبيل: البيروقراطية. وإليكم خلاصتها:
كان السلطان يتفقد شؤون رعيته مع مستشاره وبعض أفراد حاشيته. وقفوا تحت شجرة كبيرة قرب نهر المدينة. وراع السلطان ما شاهده من تدفق الرعية بغزارة على النهر لقضاء أمور السقاية. أمر السلطان مستشاره , متبرعاً من ماله الخاص بعشرة دنانير , أن يشتريَ زيراً كبيراً من الفخّار وأن يملأَه ماء ليوضع تحت فيْء الشجرة ليقصده المارة وعابرو السبيل تخفيفاً عن كاهل الرعية.
ويجد المستشار في مأمورية الزير فرصته السانحة
لإشباع نهمه وجشعه وإرضاء نزعته البيروقراطية , فيجمع بوساطة الشرطة جميع عمال الفخار والحدادين والنجارين والبنّائين في المدينة لأعمال التسخير في بناء " ديوان الزير " ومهمة هذا الديوان تسيير شؤون السقاية في المدينة حسب تصوره البيروقراطي , وابتكاراته الإدارية في تنظيم شؤون الرعية , وتنفيذ أوامر مولاه السلطان.
ويُصِدر- الفرامانات - ويعممها على الرعية بمنع ورود النهر منعاً باتاً والاقتصار على طلب الماء من الزير السلطاني.
ويضع الحراس على النهر لمنع الناس من وروده. ثم يرسل جباة الضرائب لجمع " ضريبة الزير " من جميع سكان المدينة بحسب ما سيتهلكونه , وبقدر تعداد الأسرة , وحسب ونسب المستهلك ! فيُثقل كاهل الرعية بالضرائب الفاحشة , ويتعاون في ذلك مع مراكز قوى تتكون من رئيس الشرطة , والمسؤول عن نفقات الدولة وجهاز بيروقراطي كبير جداً يعشش في مكاتب " ديوان الزير " , ويتم التزوير والاختلاس من خزينة الدولة تحت بند " مامورية الزير ". ويجد المسؤول عن النفقات نفسه مضطراً إلى دفع ما يُطلب منه خشية بطش المستشار.
وتكلف المأمورية مئة ألف دينار توزَّع في بنود وهمية لتدخل في جيوب المستشار ورئيس الشرطة والحاشية القابعة في " ديوان الزير ".
وتضج الرعية. ويقرر بعض السكان مغادرة المدينة , خاصة أن الزير السلطاني نفسه قد اختفى من تحت الشجرة منذ عامين بحجة إصلاحه | |
لكن صوتاً متمرداً يرفض الهجرة وإخلاء الساحة للذئاب البيروقراطية , والعلق الذي يمص دماء الشعب. ويطلب منهم البقاء لمقاومة هذا الطاعون الذي انتشر في المدينة. ويبدأ في إثارة الناس. وتصل أنباء تحركاته إلى المستشار ا لذي يتفق مع رئيس الشرطة على التخلص منه بإرساله إلى مهمة عند أحد عمال السلطان في المملكة مزوداً برسالة توصيه بقتله |
لكنه ينجح , قبل إرساله , في الوصول إلى قصر السلطان ومقابلته , ويفتح معه ملف الزير كاملاً. فيفاجأ السلطان ويغضب. وفي تلك الأثناء يتجمهر أبناء الرعية عند باب القصر يريدون مقابلة السلطان , فيقابلهم , ويعِدهم خيراً.
ويقوم السلطان بزيارة مفاجئة إلى " ديوان الزير " برفقة قاضي القضاة وعدد من الحراس. ثم يطلب حضور مستشاره الذي يظن أن السلطان سيكون مسروراً جداً من براعته في السهر على شؤون الرعية وتنفيذ أوامر السلطان.
ويأخذ السلطان في التجوال في دهاليز ومتاهات تلك الشبكةالعنكبوتية: " ديوان الزير ". ويدخل من مكتب السقاية , إلى مكتب أصول السقاية , ثم مكتب تنقية السقاية , ومن مكتب الجباية , إلى مكتب النفقات... وهكذا حتى يدوخ السلطان فبنفجر غاضباً في مستشاره آمراً باعتقاله وحاشيته البيروقراطية وحل " ديوان الزير ".
ويتبرع من جديد لشراء زير جديد , ووضعه في مكان آخر. ويأمر بقطع الشجرة التي كان قد أمر بوضع الزير الأول تحتها.
هذا نموذج بسيط من الأدب البيروقراطي.
وبعد كل ذلك , من يجيبُ عبد الله في تساؤله؟: هل نحن في العالم العربي نعاني من البيروقراطية؟ أم نحن نعاني من غيابها؟
هل نقف مع ماكس فيبر في أن البيروقراطية ضرورة عقلانية في المجتمع العصري؟
أم مع الألمانية " هيلديجراد " في أن البيروقراطية شبكة عنكبوتية تقتل الإبتكار وتكلف المليارات؟
المراجع
annajah.net
التصانيف
فنون تصنيف :أدب مجتمع
|