عندما يحس أحدنا بالضيق لسببٍ ما، فإنّه يحب أن يجد شخص يتحدث إليه، ولا شك أنّه إذا وجد انسان يستمع إليه ويتفهم مشاعره، فإن ذلك سيخفف عنه شيئاً من هذا الضيق إنّ التعاطف مع الآخرين أي الإحساس بمشاعرهم وإشعارهم بتفهم هذه المشاعر هو من أهم صفات الإنسان الذكي عاطفياً.

إنّنا ننجذب بشكل فطري إلى الافراد الذين يتفهمون مشاعرنا ونعرض عن الأشخاص الذين لا يشعرون بنا، ولكي ينجح الإنسان في قراءة مشاعر الآخرين يجب أن يكون قادراً على قراءة مشاعره وتأثيرها على تصرفاته، عندها يستطيع أن يجري القراءة المعاكسة، وأن يعرف مشاعر الآخرين من خلال تصرفاتهم.

إنّ من أهم حاجات الفرد في هذا الوجود حاجته إلى أن تقدر مشاعره من قِبَل الآخرين ويعتمد تقدير المشاعر على ثلاثة أمور:

1-  فهم هذه المشاعر: فأنت ترتاح للشخص الذي يراك منزعجاً فيقول لك (أراك منزعجاً بشدة).

2-  تفهمها دون الحكم عليها: نحن نحس بالارتياح أيضاً، عندما يتفهم الآخرون مشاعرنا دون أن يبدو رأيهم فيها، كأن نسمع مثلاً (أدرك تماماً أنّ هذا الأمر مزعج بالنسبة إليك).

3- التعاطف: وهو كما قلنا الإحساس بمشاعر الآخرين، ويمكن التعبير عن ذلك بعدة طرق منها مثلاً أن يقول الشخص الذي يريد التعاطف مع شخص آخر (أفهم تماماً ما تشعر به، فقد مررت بهذا الشعور من قبل).

إذا كان تقدير مشاعر الآخرين يريحهم، فإن أكثر ما يزعج الإنسان هو إحساسه بأنّ الآخرين لا يقدرون مشاعره، ويمكن أن يتم ذلك بعدة أشكال منها:

1-  تجاهل المشاعر: كأن يكون الفرد متجهماً نتيجة شعوره بالحزن فيأتي من يقول له (لماذا العبوس، ابتسم) إن مطالبة شخص حزين بالابتسام هو تجاهل تام لمشاعره، وهو لا يروِّح عن هذا الشخص بل على العكس يزيده شعوراً بالحزن والعزلة.

2-  اعلام الآخرين أنّ هذه المشاعر غير طبيعية: تضايقت سعاد من تصرف هند معها فما كان من أمل إلا أن قالت لسعاد: (أنت حساسة زيادة عن اللزوم)، ربما كانت أمل تحاول التخفيف عن سعاد، لكنها في الحقيقة تتهمها بأن فيها عيباً ما لمجرد أنها شعرت شعوراً لا توافقها عليه، وهذا سيزيد من انزعاج سعاد، إنّ اختلاف المشاعر بين الناس أمر طبيعي ولا يحق لنا أن نتهم مشاعر الآخرين بأنها شاذة أو غير طبيعية لمجرد أننا لا نوافق على هذه المشاعر.

3- إخبار الآخرين كيف ينبغي عليهم أن يشعروا: هل سمعت أحياناً من يقول لك (لماذا تحب هذا الإنسان، أنا لا أرى فيه شيئاً يستحق الإعجاب) إنّ مشاعر الإنسان هي هويته، وعندما نطلب من الآخرين أن يشعروا مثلما نريدهم أن يشعروا أو مثلما نشعر نحن، فإننا نريدهم أن يكونوا امتداداً لنا، وأن تكون مشاعرهم امتداداً لمشاعرنا، أي أننا نمحو هويتهم ونعتدي على حقهم في الوجود كأشخاص مستقلين عنا. لذلك ينزعج أحدنا انزعاجاً شديداً حينما يخبره الآخرون كيف يجب عليه أن يشعر تجاه أمر ما.

إن مشاعر افرد جزء من ذاته، ولا يحق لنا أن نحاكم هذه المشاعر أو أن نسخر منها، بل يجب أن نقف أمامها باحترام، وأن نتفهمها ونتقبلها كما هي، نعم قد تبنى مشاعر الآخرين أحياناً على أساس معلومات خاطئة أو ناقصة فنقوم بإصلاح هذه المعلومات أو إكمالها، وقد تبنى المشاعر أحياناً على معالجة خاطئة من وجهة نظرنا – لمعلومات معينة فنبين للآخرين المعالجة التي نراها صحيحة لكن على جميع الأحوال نحن نعترض هنا على معلومات الآخر أو طريقة معالجته لمعلومات معينة، أما مشاعره فيجب أن لا نعترض عليها أبداً.

إننا عندما نتعامل مع الآخرين على مبدأ تفهم مشاعرهم واحترامها، ندفعهم إلى تفهم مشاعرنا واحترامها وفي هذا النوع من العلاقات تقل المشاكل وسوء الفهم، وتزداد القدرة على حل الخلافات والعمل المشترك مهما كان هناك اختلاف في الطبائع وأنماط التفكير.

إنّ التعاطف مع الآخرين يلزمه استقرار عاطفي، فالفرد الذي تستهلكه عواطف القلق أو الخوف أو الحزن ينخفض إحساسه بمشاعر الآخرين، ولذلك علينا أن لا نلوم الآخرين إذا لم يتعاطفوا معنا إذا كانوا في حالة نفسية غير مستقرة.

يرتكز التعاطف مع الآخرين على قراءة مشاعرهم من خلال تصرفاتهم وتعابير وجوههم، وقد أجريت تجربة عرض فيها شريط فيديو صامت مدته 45 دقيقة يعرض حركات أشخاص وتعابير وجوههم في حالات شعورية مختلفة، وطلب من 700 مشارك من 18 دولة مختلفة أن يحددوا الحالة الشعورية لكل شخص من خلال قراءة لغة جسده، وتبين أنّ الذين حققوا أعلى نسبة من القراءة الصحيحة لحركات وتعابير الآخرين كانوا أكثر المشاركين نجاحاً اجتماعياً واستقراراً عاطفياً.

  الإفصاح عن المشاعر يريح صاحبه:

إنّ الشخص يتمكن من مساعدة الاشخاص الآخرين على التعاطف معه ومراعاة شعوره عندما يبوح لهم بهذه المشاعر، فعدنان مثلاً شخص كتوم لا يعبر عن مشاعره حتى لأقرب الناس إليه، لذلك لا يعرف هؤلاء ما الذي يزعجه وما الذي لا يزعجه، ولا يستطيعون أن يضبطوا تصرفاتهم بما يناسب مشاعره، في النتيجة يعيش عدنان في حالة دائمة من سوء فهم الآخرين له، وهو دائماً يتهمهم بأنهم لا يحسنون التصرف معه ولا يعرف أنّه جزء من المشكلة. إننا عندما نحدد الدائرة التي ننزعج عندما يقتحمها الآخرون نقلل من احتمال اقتحامها، وما يصاحب هذا الاقتحام من مشاعر سلبية في نفوسنا، وهذه من صفات الإنسان الذكي عاطفياً، ويمكن التعبير عن ذلك بالشكل التالي:

وعلينا أن ننتبه هنا إلى أننا عندما نفصح عن مشاعرنا للآخرين ينبغي أن يتم ذلك بلطف ولباقة، دون أن نصدم الآخرين أو نؤذي مشاعرهم، وأن نتحمل نحن مسؤولية هذه المشاعر لا أن نلقي التهم جزافاً، فمثلاً عندما يشعر فؤاد بعدم الاحترام نتيجة لتصرف معين قام به إياد يجب أن لا يقول له: (أنت لا تحترمني) وإنما يقول: (أنا أشعر بعدم الاحترام عندما تتصرف معي هكذا) إن اتهام الآخرين سيدفعهم إلى اتخاذ موقف دفاعي سيزيد المشكلة، أما التعبير عن المشاعر فسيحملهم على تفهمها، وتعديل تصرفاتهم وفقاً لذلك.

التعاطف والنظرة النمطية:

إنّ أهم سبب من أسباب عدم التمكن من التعاطف مع الافراد الآخرين هو النظرة إليهم نظرة نمطية سلبية، أي الحكم عليهم مسبقاً وبشكل سلبي لمجرد انتمائهم إلى جنس أو لون أودين أو طائفة معينة. إنّ التعاطف يعتمد على قراءة الآخرين من خلال التعامل معهم لا من خلال انتماءاتهم، وعندما تتدخل النظرة النمطية تنعدم القراءة الصحيحة ويصبح الإنسان متحيزاً ومتجنياً في قراءته للآخرين، وقد نهانا الله أن نحمِّل شخصاً أخطاء قومه لمجرد انتمائه إليهم قال تعالى: (وَلا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى) (الأنعام/ 164)، وأمرنا بالعدل والإنصاف في حكمنا على الآخرين، وفي تقييمنا لهم، حتى لو كانوا أعداء قال تعالى: (وَلا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلَى أَلا تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوَى) (المائدة/ 8)، إنّ المجتمع الذي تسوده النظرة النمطية ينعدم فيه التعاطف والتواصل والحوار، ويملؤه البغض والشحناء وسوء الفهم، وإن ذلك سينعكس سلباً على المجتمع وعلى كلّ فرد من أفراده. إن قلب المسلم لا يعرف مشاعر الحقد فهو يتمنى الخير حتى لأعدائه، وقد جاء ذلك في كتاب الله على لسان رجل قتله قومه لأنّه جهر بكلمة الحق فقال: (قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ) (يس/ 26-27)، فهو يتمنى لمن قتله أن يعرفوا ما الذي صار إليه، ليتوبوا إلى الله، ولا يخفى على اللبيب أنّ هذا لا يعني الجبن والتخاذل وممالأة الظالمين فالرجل الذي قال العبارة السابقة قالها بعد أن دفع حياته ثمناً لكلمة حق جهر بها.

إنّ مجرد احساس الإنسان بالنظرة الدونية تحيط به من كلّ جانب كفيل بتخفيض معنوياته والحد من قدراته على العطاء، ففي تجربة أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية وضِع مواطنون سود في جو عمل تسوده النظرة العنصرية، ثمّ نقل هؤلاء المواطنون إلى جو نظيف من العنصرية، فوجد الباحثون أن أداء وكفاية هؤلاء السود ارتفعت بشكل ملحوظ في الجو الخالي من النظرة النمطية العنصرية، وفي تجربة أخرى وزِّعت مجموعة من الأسئلة على مجموعتين من الأشخاص تضم كلّ مجموعة رجالاً ونساءً، وأخبرت المجموعة الأولى أنّ النساء دوماً يحصِّلون علامات أقل من الرجال عندما يجيبون على هذه الأسئلة في حين لم تخبر المجموعة الثانية شيئاً، فكانت النتيجة أنّ النساء حصلن على علامات أقل من الرجال في المجموعة الأولى، وعلى علامات مماثلة للرجال في المجموعة الثانية. إننا بمجرد أن نخبر إنساناً ما بشكل مباشر أو غير مباشر أنّه دون غيره في مجال من المجالات، فإن ذلك يؤثر عليه سلباً، ويجعله دون غيره في هذه المجال.

التعاطف والقيادة:

إنّ التعاطف مع الآخرين شرط من شروط القيادة الناجحة، والذين يظنون أنّ القيادة القوية هي التي تدوس على احاسيس الآخرين، ولا تهتم بها مخطئون تماماً، فقد ربطت عدة دراسات أجريت في الولايات المتحدة الأمريكية على عدد كبير من مديري الشركات بين كفاءة هؤلاء المديرين وقدرتهم على التعاطف مع موظفيهم حتى إن دراسة أجريت في الجيش الأمريكي أثبتت أن أكثر الضباط نجاحاً هم أكثر الضباط قدرة على التعاطف مع جنودهم، وليس هناك تعارض بين أن يكون القائد حازماً ومتعاطفاً في الوقت نفسه وقد وصف الله تعالى نبينا محمداً (ص) وهو من أعظم القواد على مرّ التاريخ فقال: (فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ) (آل عمران/ 159). وقد سمعت مرة نقاشاً بين مدير معمل وصديق له كان يخبره أن قلبه (طيب) زيادة عن اللزوم، وأنّه يضيع وقته في التعاطف مع المال والإنصات إليهم، وضرب له مثالاً عن مدير يعرفه كان معمله يمشي (كالساعة) لأنّه كان لا يعرف إلا إصدار الأوامر وإنزال العقوبات، وعندما سألت عن هذا المعمل قيل لي أنّه قد أفلس وأغلق منذ سنوات وعندما سألت عن السبب قيل لي إنّ السبب كان تخريباً متعمداً قام به بعض العمال، وهذه هي النقطة المهمة: إنّ القيادة القائمة على التسلط وتجاهل مشاعر الآخرين وإنساتيتهم يمكن أن تنجح، ولكن نجاحاً جزئياً ومؤقتاً، فالإنسان لا يعطي أفضل ما عنده إلا حين يشعر بإنسانيته وكرامته واحترام مشاعره. إن إمكانيات الإنسان في الدول المتخلفة لا تقل عن إمكانيات الإنسان في الدول المتقدمة، لكن ثقافة المجتمع في الدول المتخلفة تقوم على التسلط والتقليل من شأن الإنسان وكرامته، في حين تقوم ثقافة المجتمع في الدول المتقدمة على احترام الإنسان وكرامته وحقوقه، لذلك هو يعطي وينتج أضعاف ما يعطيه الإنسان في الدول المتخلفة.

إنّ حاجة الإنسان إلى التعاطف على المستوى النفسي تشابه حاجته إلى الهواء والماء والطعام على المستوى الجسدي، بل إنّ الدراسات أثبتت أن أولئك الذين يحاطون بجو من التعاطف والتفهم لمشاعرهم تكون قدرة أجسادهم على مقاومة الأمراض أفضل من الأشخاص المحرومين من الدعم العاطفي، ففي دراسة على مرضى أجريت لهم عملية نقل نقي العظام وجد أن 54% من الذين يتمتعون بدعم عاطفي من أهلهم وأصدقائهم عاشوا بعد عامين من عملية النقل، في حين أن 20% فقط من المرضى الوحيدين الذين لا يتمتعون بدعم عاطفي ظلوا أحياء بعد عامين من العملية.

 إنّ الشخص الذي يتقن التعاطف مع الآخرين يجذبهم إليه، فالناس عادة يبحثون عمن يتعاطف معهم، وقد قرأت قصة عن سيدة اضطرت لإجراء عملية جراحية خطيرة، فجاؤوا لها بأفضل جراح في المدينة، وأخذ يشرح لها عن خطورة العملية، وعندما أخذت تبكي نهرها بقسوة وقال لها: إذا أردت أن تبكي فابحثي عن جراح آخر، فما كان منها إلا أن طردته، وطلبت من جراح آخر أقل منه مهارة أن يجري لها العملية. لقد آثرت هذه المرأة أن تتعامل مع إنسان يقدر مشاعرها ولو عرضت حياتها للخطر، وفي هذه القصة أكبر دليل على أهمية التعاطف في حياة الإنسان.

 


المراجع

balagh.com

التصانيف

علم النفس  مشاعر  العلوم الاجتماعية   علم النّفس   عاطفة